دراسة جدوى الفضول في العمل

19 دقيقة

ثمة قاسم مشترك بين أغلب الاكتشافات الثورية والاختراعات البارزة على مر التاريخ، بدايةً من حجر الصوان المستخدم في إشعال النار وحتى السيارات ذاتية القيادة، يتمثل في أن جميعها نتاج الفضول. إن نزعة السعي وراء معلومات وتجارب جديدة واستكشاف إمكانات مبتكرة هي سمة بشرية أساسية. وتشير أبحاث جديدة إلى ثلاث أفكار ثاقبة مهمة تخص الفضول وعلاقته بعالم الأعمال. أولاً، الفضول أهم بكثير لأداء المؤسسة كما كان يعتقد من قبل، وذلك لأن غرس الفضول على جميع المستويات يساعد القادة وموظفيهم على التكيف مع ظروف السوق المشوبة بالريبة والشك والضغوط الخارجية. عندما يُحفز الفضول لدينا، فإننا نفكر بشكل أعمق وأكثر عقلانيةً في القرارات، ونخلص إلى حلول أكثر ابتكاراً وإبداعاً. علاوة على ذلك، يسمح الفضول للقادة بكسب احترام تابعيهم أكثر من ذي قبل، وإلهام الموظفين بتطوير علاقات أكثر ثقةً وتعاوناً مع زملائهم.

ثانياً، يستطيع القادة، من خلال إدخال تغييرات طفيفة على تصميم مؤسساتهم والطرائق التي يديرون بها موظفيهم، تشجيع الفضول لدى موظفيهم والارتقاء بشركاتهم. وينطبق ذلك على جميع الصناعات وعلى كافة الأعمال الإبداعية والروتينية على حد سواء.

ثالثاً، رغم أن القادة قد يزعمون أنهم يقدرون العقول المحبة للفضول، لكن حقيقة الأمر أن أغلبهم يكبت الفضول خشية أن يزيد من الأخطار وانعدام الكفاءة. ففي دراسة استقصائية أجريتها على أكثر من 3,000 موظف من طيف عريض من الشركات والصناعات، أبدى 24% من المشاركين في الدراسة شعورهم بالفضول في وظائفهم بشكل منتظم، وصرح 70% بأنهم يواجهون معوقات إذا طرحوا المزيد من الأسئلة في مكان عملهم. في هذه المقالة، سأسهب في سرد مزايا الفضول والمعوقات الشائعة التي تعترضه في مكان العمل، ومن ثم سأقدم خمس استراتيجيات بوسعها مساعدة القادة على الحصول على عائد عالٍ من الاستثمار في فضول موظفيهم وفضولهم شخصياً.

مزايا الفضول

كشفت أبحاث حديثة عن العديد من مزايا الفضول التي تعود على المؤسسات والقادة والموظفين كما يلي:

أخطاء أقل في صناعة القرار. اكتشفت في بحثي أنه عندما يُطلق لنا العنان في الفضول، فمن المستبعد أن نقع ضحية التحيز التأكيدي (ألا وهو البحث عن معلومات تدعم معتقداتنا بدلاً من الأدلة التي توحي بأن الصواب قد جَانَبَنا) وإطلاق أحكام نمطية على الناس (أحكام عامة على غرار فكرة أن النساء أو الأقليات لا يصلحون للقيادة). ويتسم الفضول بهذه السمات الإيجابية لأنه يسوقنا إلى ابتكار بدائل.

مزيد من الابتكارات والتغييرات الإيجابية في الوظائف الإبداعية وغير الإبداعية. لننظر إلى المثال التالي: في دراسة ميدانية، طرح سبنسر هاريسون وزملاؤه من "المعهد الأوروبي لإدارة الأعمال (إنسياد)" عدة أسئلة على حرفيين يبيعون سلعهم عبر موقع للتجارة الإلكترونية بهدف تقييم الفضول الذي يخالجهم في عملهم. وبعد ذلك، تم قياس إبداع المشاركين في الدراسة بعدد الأغراض التي ابتكروها وذكروها على مدار أسبوعيْن. تم تحديد الوحدة الواحدة الزائدة من الفضول (على سبيل المثال، إحراز درجة 6 بدلاً من 5 على مقياس من 7 نقاط) بزيادة الإبداع بنسبة 34%.

وفي دراسة منفصلة، انصب تركيز هاريسون وزملائه على مراكز الاتصالات، حيث تميل الوظائف بها إلى أن تكون مُحْكَمَة التنظيم، ويكون معدل تنقل الموظفين عالياً. وطلبوا إلى المعينين حديثاً في 10 مؤسسات استكمال استبيان يقيس، من بين أشياء أخرى، فضولهم قبل استلامهم وظائفهم الجديدة. وبعد أربعة أسابيع من توليهم مهام عملهم، أُجري استبيان على الموظفين أنفسهم بشأن عدة جوانب في عملهم. وأثبتت النتائج أن الموظفين الأكثر فضولاً التمسوا أكبر قدر من المعلومات من زملائهم في العمل، فساعدتهم تلك المعلومات على القيام بمهام عملهم؛ على سبيل المثال، ارتقت تلك المعلومات بإبداعهم في التعاطي مع مخاوف العملاء وشواغلهم. ويؤكد البحث الشخصي الذي أجريته أن تشجيع الموظفين على الفضول يؤدي إلى حدوث تحسينات في بيئة العمل. في واحدة من الدراسات ضمن هذا البحث، استقطبتُ حوالي 200 موظف يعملون في العديد من الشركات والصناعات، وتلقى نصفهم على مدار أربعة أسابيع رسالة نصية مرتين أسبوعياً في بداية يوم عملهم نصها كالتالي: "ما هو الموضوع أو النشاط الذي يشعل جذوة الفضول لديك اليوم؟ وما الشيء الوحيد الذي تسَلِّم به عادة ولكن تود الاستفسار عنه؟ يرجى الحرص على طرح أسئلة تستفسر عن العلة من نوعية 'لماذا؟' بينما تضطلع بمهام عملك طوال اليوم. كما يرجى تخصيص دقائق معدودة لتحديد الطريقة التي ستتعاطى بها مع عملك اليوم في ضوء هذه الأسئلة".

وتلقى النصف الآخر من المشاركين في الدراسة (مجموعة الضبط) رسالة مصممة لحثهم على التفكير ولكن دون تشجيعهم على الفضول نصها كالتالي: "ما الموضوع أو النشاط الذي ستشارك فيه اليوم؟ ما الشيء الذي تعمل عليه عادةً أو تضطلع به وستستكمله اليوم؟ يرجى التأكد من التفكير في هذين السؤالين أثناء انخراطك في أداء عملك طوال اليوم. كما يرجى تخصيص دقائق معدودة لتحديد الطريقة التي ستتعاطى بها مع عملك اليوم في ضوء هذه الأسئلة". بعد أربعة أسابيع، أحرز المشاركون في المجموعة الأولى درجات أعلى من غيرهم فيما يتعلق بالأسئلة التي تقَيِّم سلوكياتهم الإبداعية في العمل، من قبيل ما إذا كانوا قد قدموا اقتراحات بنَّاءة لإيجاد حلول للمشاكل المؤسسية المُلحَّة من عدمها.

عندما نتمتع بالفضول، فإننا ننظر إلى المواقف العصيبة بقدر أكبر من الإبداع. لقد كشفت الدراسات عن أن الفضول يرتبط بردود أفعال أقل دفاعية تجاه ضغوط العمل، وردود أفعال أقل عدوانية أمام الاستفزاز. فضلاً عن ذلك، يتحسن أداؤنا عندما نتحلى بالفضول. وفي دراسة أجريتها على 120 موظف، اكتشفت أن الفضول الطبيعي يرتبط بأداء وظيفي أفضل، بحسب تقييم مديريهم المباشرين لهم.

صراع أقل داخل المجموعة الواحدة. كشف بحثي عن أن الفضول يشجع أفراد الفريق الواحد على أن يضع الفرد منهم نفسه مكان زميله، وأن يبدي اهتماماً بأفكاره بدلاً من التركيز الحصري على منظوره الشخصي للأشياء. ويسوقهم هذا إلى العمل معاً بقدر أكبر من الفعالية والسلاسة، وبالتالي تقل حدة الصراعات والصدامات وتحقق فرق العمل نتائج أفضل.

تواصل أكثر انفتاحاً وأداء أفضل لفريق العمل. عندما تعاونا مع تنفيذيين في برنامج قيادي في "كلية كينيدي بجامعة هارفارد"، قَسَّمت أنا وزملائي المشاركين إلى مجموعات قوام الواحدة منها خمسة أو ستة أشخاص، وجعلنا بعض المجموعات تشارك في مهمة عززت الفضول لديها، وبعدها طلبنا من جميع المجموعات المشاركة في محاكاة ترصد أدائها. وجاء أداء المجموعات التي عززنا الفضول لديها أفضل من مجموعات الضبط لأنها شاركت المعلومات بمزيد من الانفتاح، وأصغى أفرادها لبعضهم البعض بمزيد من العناية.

عقبتان تعترضان الفضول

رغم المزايا المثبتة للفضول، فإن المؤسسات غالباً ما تحبطه، ولا يرجع السبب في ذلك إلى أن القادة لا يدركون قيمته. على العكس تماماً، فالقادة والموظفون يدركون أن الفضول يتمخض عنه نتائج إيجابية لشركاتهم. ففي الدراسة السالفة الذكر والتي أُجريت على أكثر من 3,000 موظف، نسب 92% منهم الفضل إلى الموظفين الذين يتحلون بالفضول في اقتراح أفكار مبتكرة على فرق العمل والمؤسسات، ونظروا إلى الفضول باعتباره حافزاً للرضا الوظيفي والحماس والابتكار والأداء العالي.

ومع ذلك، غالباً ما تشي أفعال المسؤولين التنفيذيين بقصة مخالفة. صحيح أن بعض المؤسسات، بما في ذلك شركتيْ "ثري إم" (3M) وفيسبوك، تخصص لموظفيها وقت فراغ لإشباع اهتماماتهم الخاصة، لكن أمثال هذه المؤسسات عملة نادرة. وحتى في هذه المؤسسات، غالباً ما يكون لدى الموظفين أهداف أداء شاقة على المدى القصير عليهم تحقيقها (كالوفاء بأهداف المبيعات الربع سنوية أو تدشين منتج جديد في تاريخ محدد) وتستنفد "وقت الفراغ" الذي كان من الممكن أن يقضونه في استكشاف طرق بديلة لأداء عملهم أو ابتكار أفكار إبداعية.

ثمة نزعتان تقيدان رغبة القادة في التشجيع على الفضول: أولاهما، أن لديهم فكرة خاطئة عن الاستكشاف. غالباً ما يعتقد القادة أن السماح لموظفيهم باتباع غريزة الفضول سيفضي بهم إلى فوضى باهظة الثمن. في دراسة حديثة أجريتها على 520 رئيس قسم تعليم ورئيس قسم تطوير مواهب، اكتشفت أنهم غالباً ما يتجنبون التشجيع على الفضول لأنهم يعتقدون أنه سيكون من الأصعب عليهم إدارة الشركة إذا سُمح للموظفين باستكشاف اهتمامتهم الخاصة. وهم يعتقدون أيضاً أن الخلافات ستنشب، وأن صناعة القرارات وتنفيذها ستتعطلان، مما سيفاقم من تكلفة مزاولة الأعمال. وكشف البحث عن أنه بالرغم من أن الناس يدرجون الإبداع كهدف ضمن بقية الأهداف، فإنهم كثيراً ما يرفضون الأفكار الإبداعية عندما تُعرض عليهم فعلاً. وهذا أمر مفهوم: فالاستكشاف غالباً ما ينطوي على التشكيك في الوضع القائم، ولا يتمخض دوماً عن معلومات مفيدة. لكنه يعني أيضاً عدم الرضا بالحل الممكن الأول، وبالتالي فكثيراً ما يخلق حلولاً أفضل.

يسعى القادة وراء الكفاءة على حساب الاستكشاف. في أوائل تسعينيات القرن العشرين، انصب تركيز "هنري فورد" كله على هدف وحيد: ألا وهو تقليص تكاليف الإنتاج بغية تصنيع سيارة لعامة الناس، وقد استطاع بحلول العام 1908 تحقيق هذه الرؤية مع استحداث الموديل T. ارتفع الطلب جداً حتى أن الشركة بحلول عام 1921 كانت تنتج 56% من إجمالي عدد سيارات الركاب في الولايات المتحدة بأسرها، وهو نجاح منقطع النظير تحقق في المقام الأول بفضل نموذج عمل الشركة المنصب على الكفاءة. ولكن في أواخر عشرينيات القرن العشرين، وبالتزامن مع ارتقاء الاقتصاد الأمريكي آفاقاً جديدة، بدأ المستهلكون ينشدون تنوعاً أكثر في سيارتهم. وبينما ظلت شركة فورد مهووسة بتحسين الموديل T، شرع منافسوها أمثال شركة جنرال موتورز في إنتاج مجموعة من الموديلات، وسرعان ما استحوذت على نصيب الأسد من السوق. ونظراً لتركيزها الوحيدة على الكفاءة، توقفت شركة فورد عن التجريب والابتكار وتخلفت عن الرَكْب.

تساعد هذه النزعات القيادية في تفسير سبب تدني الفضول لدينا، والذي يحدث عادةً كلما طال بقاؤنا في وظيفة واحدة. وفي إحدى الدراسات الاستقصائية، طرحتُ على قرابة 250 موظف ممن التحقوا حديثاً بالعديد من الشركات سلسلة من الأسئلة المصممة لقياس فضولهم؛ وبعدها بستة أشهر أجريت دراسة استقصائية لاحقة لأغراض المتابعة. ورغم أن المستويات المبدئية للفضول تنوعت وتفاوتت، حيث تراجعت بعد ستة أشهر مستويات الفضول لدى الجميع، بينما تجاوز متوسط التراجع 20%. ولأن الناس كانوا عرضة لضغوط ألزمتهم بإنجاز عملهم بسرعة، لم يكن لديهم سوى وقت محدود لطرح أسئلة حول العمليات العامة والأهداف الكلية.

خمس طرق لتعزيز الفضول

يتطلب الأمر تفكيراً وانضباطاً لوضع حد لكبت الفضول والشروع في تشجيعه. إليكم خمس استراتيجيات يمكن للقادة توظيفها.

1- وَظِّف المحبين للفضول.

في عام 2004، ظهرت لوحة إعلانية مجهولة على طريق 101 السريع في قلب وادي السليكون بالولايات المتحدة "مكتوب عليها سؤال في الرياضيات يليه com". وساقت الإجابة، وهي 7427466391.com، المحبين للفضول إلى شبكة الإنترنت، حيث عثروا على معادلة أخرى يحلونها. ودُعي الذين أقدموا على حلها إلى تقديم سيرهم الذاتية إلى شركة جوجل. لقد تبنت الشركة طريقة غير تقليدية للبحث عن مرشحين جدد للوظيفة لأنها تُعلي من شأن الفضول وتهتم به اهتماماً كبيراً. (لم يكن المتقدمون للوظيفة حتى مهندسين!). وكما قال "إريك شميت" الرئيس التنفيذي لشركة جوجل خلال الفترة من عام 2001 حتى عام 2011: "إننا ندير هذه الشركة اعتماداً على الأسئلة لا الأجوبة".

وتضع شركة جوجل أيضاً يدها على الأشخاص المتمتعين بالفضول بطبيعتهم من خلال أسئلة المقابلة الشخصية مثل: "هل وجدت نفسك مندفعاً لتعلم شيء تصادفه لأول مرة؟ ولماذا؟ وما الذي أبقى على إصرارك؟" عادةً ما تسلط الأجوبة الضوء إما على الغاية المحددة التي تقود المرشح للوظيفة أو على الفضول الحقيقي الذي يتمتع به.

وتسعى شركة "آيديو" (IDEO) لخدمات التصميم والخدمات الاستشارية إلى تعيين موظفين على شكل حرف T: وأعني بذلك أناس يتمتعون بمهارات راسخة تسمح لهم بالمساهمة في العملية الإبداعية (الخط الرأسي للحرف T) واستعداد مسبق للتعاون عبر العديد من التخصصات، وهي السمة التي تتطلب التعاطف والفضول (الخط الأفقي للحرف T).

وتعي الشركة أن التعاطف والفضول مرتبطان: فالتعاطف يسمح للموظفين بالإصغاء بعناية والنظر إلى المشكلات أو القرارات من منظور الآخر، بينما يوسِّع الفضول نطاق الاهتمام بتخصصات الآخرين لدرجة أن المرء قد يشرع في ممارسة تلك التخصصات. وتدرك الشركة أن أغلب الموظفين يقدمون الأداء الأمثل لا لأنهم متخصصون، بل لأن مهاراتهم الراسخة يلازمها فضول فكري يسوقهم إلى طرح الأسئلة والاستكشاف والتعاون مع الآخرين.

لتحديد الموظفين المحتملين الذين يطابقون مواصفات الشركة، تولي شركة إديو عناية خاصة بالطريقة التي يتحدث بها المرشحون الجدد عن مشروعاتهم السابقة. فالشخص الذي يركز فقط على إسهاماته الشخصية ربما يفتقر إلى سعة الأفق لتقدير التعاون والتآزر. إن المرشحين المطابقين لمواصفات الشركة من الأرجح أن يتحدثوا عن نجاحاتهم بمساعدة الآخرين، ويعربوا على عن اهتمامهم بالمشاركة بشكل تعاوني في مشروعات مستقبلية.

عندما نتمتع بالفضول، فإننا ننظر إلى المواقف العصيبة بقدر أكبر من الإبداع وتكون ردود أفعالنا أقل دفاعية تجاه الضغوط.

لتقييم الفضول، يمكن أيضاً أن نسأل المرشحين عن اهتماماتهم خارج إطار العمل. فقراءة الكتب التي لا ترتبط بمجال العمل، واستكشاف أسئلة جديدة لأجل الإلمام بإجاباتها لا أكثر من ضمن مؤشرات الفضول. وبوسع الشركات إجراء تقييمات للفضول أثبتت صحتها العديد من الدراسات. وتقيس هذه التقييمات عادةً ما إذا كان الناس يستكشفون أشياء لا يعرفونها، ويحللون بيانات لإماطة اللثام عن أفكار جديدة، ويتوسعون في القراءة في مجالات تتجاوز تخصصهم، ولديهم اهتمامات متنوعة خارج محيط العمل، ويتحمسون لفرص التعلم التي تلوح في الأفق.

ومن المهم أيضاً أن نتذكر أن الأسئلة التي يطرحها المرشحون للعمل – لا الإجابات التي يقدمونها فقط – يمكن أن تشير إلى الفضول. على سبيل المثال، الذين يريدون التعرف على جوانب المؤسسة الأخرى التي لا ترتبط مباشرةً بوظيفتهم المرتقبة ربما يتمتعون بفضول بديهي أكثر من الذين يستفسرون فقط عن الدور الذي من المتوقع أن يؤدوه.

2- كُن نموذجاً للفضول

يمكن للقادة تشجيع الفضول في شتى أرجاء المؤسسة بتبني هذه الصفة شخصياً. في عام 2000، عندما ترشح "غريغ دايك" لمنصب المدير العام لهيئة الإذاعة البريطانية، لم يكن قد تقلد المنصب بعد، أمضى خمسة أشهر في زيارة المواقع الرئيسية للهيئة، جامعاً الموظفين في كل زيارة من زيارته. توقع الموظفون منه عرضاً مطولاً، لكنهم لم ينالوا إلا سؤالاً وحيداً: "ما هو الشيء الوحيد الذي ينبغي عليّ فعله كي أجعل ظروف العمل أفضل بالنسبة لكم؟" كان ديك يصغي بعناية ثم يسأل: "ما الشيء الوحيد الذي ينبغي أن أفعله لكي أجعل الأمور أفضل لمشاهدينا ومستمعينا؟"

احترم موظفو هيئة الإذاعة البرطانية رئيسهم الجديد في العمل لتخصيصه بعض الوقت لطرح الأسئلة والإصغاء إلى الموظفين. لقد استرشد ديك بإجاباتهم في التفكير في التغييرات الضرورية لحل المشكلات التي تواجه هيئة الإذاعة البريطانية، ولتحديد العمل الذي يجب الاضطلاع به أولاً. وبعد أن تقلد مهام منصبه رسمياً، ألقى كلمة على الموظفين عكست ما عرفه، وأظهر للموظفين أنه كان مهتماً بحق بما قالوه.

بطرح الأسئلة والإصغاء بحق إلى الإجابات، ضرب ديك مثلاً لأهمية هذه السلوكيات، وسلط أيضاً الضوء على حقيقة أنه عندما نستكشف أساليب وطرقاً جديدة، فالإصغاء لا يقل أهمية عن الكلام، حيث يساعدنا على سد الفجوات في معرفتنا، وتحديد الأسئلة الأخرى التي يجب استقصاؤها والإجابة عنها.

قد يبدو ذلك أمراً بديهياً، لكن بحثي يثبت أننا غالباً ما نفضِّل الكلام على الإصغاء بفضول. على سبيل المثال، عندما سألتُ حوالي 230 قائداً رفيعي المستوى في فصول تعليم المهارات التنفيذية عما سيفعلون إذا ما واجهوا أزمة مؤسسية تنبع من مشكلات مالية وثقافية، أجاب أغلبهم بأنه سيبادر باتخاذ إجراء عاجل: مثلاً إيقاف النزيف المالي، واستحداث مبادرات لإنعاش الثقافة المؤسسية. قليلون منهم فقط صرحوا بأنهم سيطرحون أسئلة بدلاً من فرض أفكارهم ببساطة على الآخرين. تُشجع كتب الإدارة عادةً القادة الذين يشغلون مناصب جديدة على توصيل رؤيتهم من البداية بدلاً من سؤال موظفيهم عن الطريقة التي يمكنهم بها أن يكونوا أكثر نفعاً للعمل، وهذه نصيحة في غير محلها.

لماذا نحجم عن طرح الأسئلة؟ لأننا نخشى أن يحكم علينا الآخرون بانعدام الكفاءة أو التردد أو الغباء. علاوة على ذلك، فالوقت ثمين، ولا نود أن نثير حفيظة الناس. وتتفاقم هذه المشكلة مع التجارب والخبرات؛ فبينما يرتقي الناس السلم المؤسسي، فإنهم يعتقدون أنه لم يتبق هنالك سوى القليل كي يتعلموه. ويميل القادة أيضاً إلى أن المتوقع منهم أن يتحدثوا ويقدموا إجابات، لا أن يطرحوا أسئلة.

لقد أثبت بحثي أن هذه المخاوف والمعتقدات ليست في محلها. فعندما نُبدي الفضول تجاه الآخرين بطرح الأسئلة عليهم، نروق لهم أكثر، ويرونا أكثر كفاءة، والثقة المتزايدة الناجمة عن ذلك تجعل علاقاتنا أكثر إثارة وقوة. وبطرحنا للأسئلة، فإننا نعزز إقامة علاقات أكثر جدوى ونشجع على الوصول إلى نتائج أكثر إبداعاً.

وثمة طريقة أخرى يستطيع القادة من خلالها أن يكونوا نموذجاً للفضول، ألا وهي الاعتراف بجهلهم بالإجابة؛ فهذا يجعل من الواضح أنه لا بأس بأن يسترشد المرء بفضوله. أخبرتني "باتريشيا فيلي كروشيل" أنها عندما التحقت للعمل في شركة "ويب إم دي هيلث" (WebMD Health) كرئيس تنفيذي، التقت مجموعة من المهندسين الذكور في وادي السيليكون. وكان الشك يراودهم بشأن إضافتها لأي قيمة لعملهم، فسألوها على الفور عما تعرفه عن الهندسة. وبدون تردد، جعلت فيلي كروشيل أصابعها على شكل صفر باللغة الإنجليزية قائلة: "هذا هو مبلغ علمي عن الهندسة. لكنني أعرف كيف أدير الشركات، وآمل أن تعلموني ما أحتاج إلى تعلمه كي أعرف المزيد عن عالمكم". عندما يقر القادة بجهلهم بإجابة سؤال ما، فإنهم يثبتون أنهم يدركون قيمة عملية البحث عن إجابات، ويشجعون الآخرين على الاستكشاف أيضاً.

غالباً ما يتردد الموظفون الجدد في استديوهات "بيكسار" للرسوم المتحركة في التشكيك في الوضع القائم، نظراً لتاريخ الشركة الحافل بالأفلام الناجحة والأعمال الرائعة التي قدمها من عملوا بها لسنوات. ولمواجهة هذه النزعة، يشدد "إد كاتمول"، رئيس الشركة وأحد مؤسسيها، على الحديث عن الفترات التي اتخذت فيها الشركة قرارات خاطئة. يقول كاتمول إن بيكسار، شأنها شأن جميع المؤسسات، ليست مثالية، وإنها بحاجة إلى نظرة جديدة لرصد فرص التحسن (طالع "كيف تعزز شركة بيكسار الإبداع التعاوني"، هارفارد بزنس ريفيو، عدد سبتمبر/أيلول 2008). وبهذه الطريقة، يعطي كاتمول الموظفين الجدد ترخيصاً بالتشكيك في الممارسات القائمة. إن إدراك حدود معرفتنا ومهاراتنا يرسل رسالة قوية للآخرين. وتصف "تينيل بورتر" الباحثة بمرحلة ما بعد الدكتوراه في مجال علم النفس في جامعة دافيس بكاليفورنيا (UC Davis)، التواضع الفكري بالقدرة على الإقرار بأن ما نحيط به علماً محدود للغاية. وبحسب ما أثبت بحثها، فإن المستويات الأعلى من التواضع الفكري ترتبط باستعداد أكبر لبحث آراء أخرى بخلاف آرائنا الشخصية. والذين يتحلون بتواضع فكري أكبر يبلون بلاءً أفضل في دراستهم وفي عملهم. لماذا؟ لأننا عندما نقبل فكرة أن معرفتنا محدودة، نميل أكثر إلى أن نرى العالم يتغير على الدوام، وأن المستقبل سيتشعب من الحاضر. وبتبني هذه الفكرة الثاقبة، يبدأ القادة والموظفون في إدراك قوة الاستكشاف.

وأخيراً، بوسع القادة أن يكونوا نموذجاً للفضول بتعاملهم مع المجهول بفضول بدلاً من إطلاق الأحكام عليه. مؤخراً، أخبرني "بوب لانجر"، الذي يرأس أحد أكثر مختبرات "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي)" (MIT) إنتاجيةً، أنه يسترشد بهذا المبدأ في إدارة موظفيه.

إننا نشعر جميعاً كبشر برغبة ملحة في تقييم الآخرين - تقييماً سلبياً غالباً. ونتسرع في الحكم على أفكارهم وسلوكياتهم ونظرتهم للأشياء حتى لو ارتبطت بأشياء لم تُجَرَّب من قبل. أما "لانجر" فإنه يتجنب هذا الفخ بإثارة أسئلة حول أفكار الآخرين، مما يسوق الناس إلى التفكير بشكل أعمق في منظورهم للأمور، واستبقاء فضولهم تجاه المشاكل العويصة التي يحاولون التعامل معها. وبذلك، فهو يصنع من نفسه نموذجاً للسلوكيات التي يتوقع أن يراها من الآخرين في المختبر.

3- أكّد على أهداف التعلم

عندما سألتُ كابتن "تشيسلي سولينبرجر" أو "سولي" كيف استطاع أن يهبط بطائرة تجارية بأمان في نهر هدسون، وصف لي شغفه بالتعلم المستمر. ورغم أن الرحلات التجارية روتينية دوماً تقريباً، كلما ابتعدت طائرته عن البوابة، ذكّر نفسه بأنه بحاجة لأن يتأهب للمفاجآت. وكان يحدِّث نفسه قائلاً: "ما الذي يمكن أن أتعلمه؟". وعندما حدثت المفاجأة، في يوم قارس من أيام يناير/كانون الثاني عام 2009، استطاع سولي أن يسأل نفسه عما يمكن أن يفعله، بالنظر إلى الخيارات المتاحة، وأن يتوصل إلى حل مبتكر. وقاوم بنجاح رغبته في التشبث بالخيار الأوضح (الهبوط بالطائرة في أقرب مطار). عندما نقع تحت وطأة ضغوط خصيصاً، فإننا نحصر أنفسنا على الفور فيما يبدو أنه مسار العمل الأمثل. لكن الشغوفين بالتعلم المستمر يتأملون نطاقاً عريضاً من الخيارات ووجهات النظر. وبحسب ما ورد في تقرير الحادث، بحث سالي العديد من البدائل بعناية شديدة خلال الـ 208 ثانية الفاصلة بين اكتشافه تعطل محركات الطائرة وافتقارها لقوة الدفع وهبوطه بها في نهر هدسون.

من الطبيعي التركيز على النتائج، خاصة في مواجهة التحديات الصعبة. لكن التركيز على التعلم أنفع عموماً لنا ولمؤسساتنا، بحسب ما توصلت إليه بعض الدراسات البارزة. على سبيل المثال، عندما طُلِبَ إلى العاملين بسلاح الجو الأميركي إنجاز هدف صعب يتعلق بإنزال عدد معين من الطائرات في إطار زمني محدد، تراجع أداؤهم. وبالمثل، في دراسة قادها "دون فاندوول" من جامعة "ساذرن ميثوديست" (Southern Methodist)، جاء أداء مندوبي المبيعات المحترفين، الذين انصب تركيزهم بطبيعة الحال على أهداف الأداء مثل إنجاز أهدافهم وبراعتهم في أداء عملهم في أعين زملائهم، أسوأ خلال الترويج لأحد المنتجات (مُعِدَّة طبية يبلغ سعرها 5,400 دولاراً أميركياً) من مندوبي المبيعات الذين ركزوا بديهياً على أهداف التعلم، كاستكشاف الطريقة التي تجعل منهم مندوبي مبيعات أفضل. ولقد كلفهم هذا المنتج الغالي والنفيس، لأن الشركة دفعت علاوة قدرها 300 دولاراً لكل وحدة بيعت من الجهاز.

وقد أثبتت مجموعة من الأبحاث أن وضع العمل في إطار يدور في فلك أهداف التعلم (كتطوير الكفاءة، واكتساب المهارات، وإتقان مواقف جديدة، وما إلى ذلك) بدلاً من وضعه في إطار أهداف الأداء (تحقيق الأهداف، وإثبات الكفاءة، وإبهار الآخرين) يعزز الحافز لدينا. وعندما تحفزنا أهداف التعلم، نكتسب مهارات أكثر تنوعاً، ونبلي بلاءً أحسن في العمل، وننال درجات أعلى في الجامعة، ونتعامل بشكل أفضل مع مهام حل المشكلات، ونحصل على درجات تقييم أعلى بعد التدريب. ومن سوء الطالع أن المؤسسات غالباً ما تعطي أولوية أعلى لأهداف الأداء.

بوسع القادة مساعدة موظفيهم في تبني تفكير ينصب على التعلم بإبلاغهم بأهميته وبمجازاة الموظف لا على أدائه فقط، بل على الأمور التي عليه أن يتعلمها ليؤدي الأداء الأمثل. سارت شركة "ديلويت" على هذا الدرب: ففي عام 2013، استبدلت الشركة منظومة إدارة الأداء بمنظومة أخرى ترصد التعلم والأداء معاً. ويلتقي الموظفون بانتظام مدرباً لمناقشة تطورهم وتعلمهم، فضلاً عن الدعم الذي هم بحاجة إليه لكي يتطوروا باستمرار.

وبوسع القادة أيضاً التأكيد على قيمة التعلم بالاستجابة بشكل إيجابي للأفكار التي ربما كانت تقليدية بحد ذاتها، لكن من الممكن أن تكون نقطة انطلاق لأفكار أفضل. إن مؤلفي ومديري شركة بيكسار مدربون على تكنيك يُعرف باسم "الإضافة"، وينطوي على البناء على الأفكار الموجودة بالفعل دون استخدام ألفاظ ناقدة. بدلاً من رفض رسم تمهيدي مثلاً، قد يجد المدير فيه نقطة انطلاق قائلاً: "يروق لي، ماذا لو قمنا بـ ...؟" وحينئذ قد يتدخل أحدهم بفكرة "إضافية". ويسمح هذا التكنيك باستمرار الفضول لدى الموظفين، وإنصاتهم بعناية، واحترامهم لأفكار الآخرين، وإسهامهم بأفكارهم الخاصة. ومن خلال النهوض بعملية تسمح باستكشاف جميع أنواع الأفكار، يرسل القادة رسالة واضحة مفادها أن التعلم هو هدف محوري حتى لو لم يُكلّل دائماً بالنجاح.

4- اسمح للموظفين بالاستكشاف وتوسعة نطاق اهتماماتهم

بوسع المؤسسات أن تعزز الفضول بتخصيص وقت وموارد للموظفين لاستكشاف اهتماماتهم. من بين أمثلتي المفضلة مثال من بلدي الأم يتعلق بأول مصنع للآلات الكاتبة في إيطاليا، مصنع أوليفيتي (Olivetti)، الذي تأسس في العام 1908 على سفح جبال الألب الإيطالية. في ثلاثينيات القرن الماضي، ضبط بعض العمال زميلاً لهم وهو يغادر المصنع وبحوزته كيس مليء بقطع الحديد والآلات، واتهموه بالسرقة، وطلبوا من الشركة تسريحه من العمل. أخبر العامل الرئيس التنفيذي للمصنع، "أدريانو أوليفيتي"، بأنه كان ينقل تلك القطع إلى بيته كي يعمل على آلة جديدة خلال عطلة نهاية الأسبوع لأنه لم يكن لديه وقت أثناء أداء عمله المعتاد. وبدلاً من أن يسرحه أوليفيتي، خصص له وقتاً لصناعة الآلة وكلفه بالإشراف على إنتاجها. وتمخض عن عمله الحاسبة الإلكترونية "ديفيسوما" (Divisumma)، وهي أول حاسبة إلكترونية في العالم. وبيعت تلك الحاسبة في شتى أرجاء العالم في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وقام أوليفيتي بترقية العامل إلى منصب المدير الفني. على العكس من القادة الذين ربما سرحوا ذاك العامل، منحه أوليفيتي المساحة التي كان بحاجة إليها لاستكشاف الفضول لديه، فجاءت النتائج مذهلة.

تقدم بعض المؤسسات الموارد لدعم الاهتمامات الخارجية لموظفيها. منذ العام 1996، خصص التكتل الصناعي المعروف باسم شركة "يونايتد تكنولوجيز" (United Technologies) مبلغ 12 ألف دولار أميركي بحد أقصى كرسوم دراسية لأي موظف يسعى للحصول على درجة علمية مع العمل بدوام جزئي بلا قيد أو شرط. غالباً لا يود القادة الاستثمار في تدريب الموظفين خشية أن يتخلوا عنهم ويلتحقوا بالعمل لدى المنافسين، ويصطحبوا معهم مهاراتهم التي اكتسبوها بالغالي والنفيس. ورغم أن شركة يونايتد تكنولوجيز لم تحاول التحديد الكمي لمزايا برنامج التكفل برسوم التعليم، حيث يؤمن "جيل جاكسون" نائب رئيس قسم الموارد البشرية بالشركة، بأهمية الموظفين الذين يتحلون بالفضول، وقد أخبرتني أنه "من الأفضل تدريب الموظفين وتركهم يرحلون على ألا ندربهم وندعهم بيننا". ولكن، بحسب تقرير مزايا الموظفين لعام 2017 الصادر عن "جمعية إدارة الموارد البشرية" (Society for Human Resource Management)، فإن 44% فقط من المؤسسات تقدم أو تدعم تدريباً متعدد التخصصات لتطوير المهارات التي لا ترتبط مباشرةً بمهام الموظفين.

قد يتيح القادة فرصاً للموظفين للسفر إلى مناطق غير مألوفة. فعندما تسنح لنا فرص توسعة نطاق اهتماماتنا، بحسب ما خلصت إليه الأبحاث، لا نظل محافظين على حبنا للفضول وحسب، بل نصبح أكثر ثقةً بما يمكننا إنجازه وأنجح في عملنا. يمكن للموظفين "السفر" إلى مناصب أخرى وقطاعات أخرى للمؤسسة لاكتساب منظور أوسع. في شركة بيكسار، بوسع الموظفين في أرجاء المؤسسة تقديم "ملاحظات" – على هيئة أسئلة ونصائح – تساعد المديرين على بحث جميع الاحتمالات الممكنة للأفلام التي يعكفون عليها.

ويمكن للموظفين توسيع نطاق اهتماماتهم من خلال تنويع شبكات معارفهم. وغالباً ما ينتهي الحال بمحبي الفضول إلى أن يصبحوا الأفضل أداءً على الإطلاق، ويرجع الفضل في ذلك إلى شبكاتهم المتنوعة، بحسب ما خلص إليه البحث الذي أجريته بالتعاون مع "تيزيانا كاسيارو" و"بيل ماكيفلي" و"إيفيلين جان" من جامعة "تورونتو". ولأن هؤلاء أكثر ارتياحاً من الآخرين فيما يتعلق بطرح الأسئلة، فمن الأسهل عليهم إقامة علاقات وتعزيزها في محل العمل، وهذه العلاقات مهمة لتطورهم ونجاحهم المهنييْن. وتستفيد المؤسسة عندما يرتبط موظفوها بأناس يقدمون المساعدة على تخطي التحديات التي تواجههم ويشجعونهم على بذل الجهد الإضافي. ويعمل "بوب لانجر" من معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا على استنهاض الفضول لدى طلابه بتعريفهم بخبراء في محيط معارفه. وبالمثل، يستطيع القادة، من خلال إقامة شبكة علاقات بين الموظفين في شتى الأقسام والوحدات المؤسسية، تشجيع الموظفين على الفضول بشأن عمل زملائهم وسبل مزاولة العمل.

ومن الممكن أن يوسِّع التفكير المدروس في أماكن العمل نطاق شبكات العلاقات، ويشجع على تلاقح الأفكار. ففي تسعينيات القرن الماضي، عندما كانت شركة بيكسار عاكفة على تصميم مقر جديد لها في مدينة "إميريفيل" (Emeryville) في الجهة المقابلة لخليج "سان فرانسيسكو"، دعت المخططات التمهيدية إلى إقامة بناية منفصلة لكل قسم. ولكن، ساورت "ستيف جوبز"، مالك الشركة آنذاك، مخاوف حيال عزل الأقسام المختلفة عن بعضها البعض، وقرر بناء بناية وحيدة تحوي بجانب الأقسام المختلفة ردهة في منتصفها تشتمل على صناديق بريد الموظفين ومقهى ومحل هدايا وقاعات عرض أفلام. وعلل جوبز ذلك بأن إجبار الموظفين على التفاعل سيُعَرِّض الواحد منهم إلى أعمال الآخرين وأفكارهم.

يستطيع القادة التأكيد على قيمة التعلم عن طريق التفاعل بشكل إيجابي مع أفكار متواضعة قد تفضي إلى أفكار أفضل.

ويستطيع القادة أيضاً تشجيع الفضول لدى موظفيهم عن طريق تصميم فرق العمل بعناية. لننظر إلى "ماسيمو بوتورا" صاحب مطعم "أوستريا فرانسيسكانا" (Osteria Francescana) الذي صُنِّف كأفضل مطعم في العالم في العامين 2016 و2018. ولديه مساعدان لرئيس الطهاة هما "دافيدي دي فابيو" من "إيطاليا" و"كوندو تاكاهيكو من "اليابان". والاثنان لا يختلفان فقط في أصولهما، بل في نقاط قوتهما أيضاً: دي فابيو أكثر ارتياحاً للارتجال، بينما تاكاهيكو مهووس بالدقة والنظام. يعتقد بوتورا أن مثل هذه "الصدامات" تجعل مطبخ المطعم أكثر إبداعاً، وتلهم الفضول لدى العاملين الآخرين.

5- خصص أياماً لطرح الأسئلة التالية: "لِمَ؟"، و"ماذا لو...؟" و"كيف يمكننا ...؟"

كان مصدر الإلهام لفكرة كاميرا "بولارويد" (Polariod) الفورية هو سؤال طرحته طفلة في الثالثة من عمرها. كانت ابنة المخترع "إدوين لاند" متلهفة لترى الصورة التي التقطها أبوها تواً. وعندما شرح لها أن الصورة يجب تحميضها أولاً، تساءلت بصوتٍ عالٍ: "لِمَ يتحتم علينا أن ننتظر الصورة؟"، وكما يعلم أي والد، فإن الاستفسار بـ "لِمَ" واسع الانتشار ضمن حصيلة مفردات الأطفال الصغار الذين لديهم حاجة ملحة لفهم العالم من حولهم. وهم لا يهابون طرح الأسئلة، ولا يساورهم القلق حيال ما إذا كان الآخرون يعتقدون أنه ينبغي عليهم الإحاطة بالإجابات بالفعل. ولكن، بينما ينمو الأطفال ويشبون عن الطوق، يتسلل إليهم الشعور بالوعي الذاتي، علاوة على الرغبة في الظهور بمظهر الواثقين الخبراء. وما أن نبلغ مبلغ الراشدين، غالباً ما نكبح بداخلنا الفضول.

يستطيع القادة استخراج الفضول الفطري لدينا. ثمة شركة قمت بزيارتها طرحت على جميع موظفيها سؤاليْن: "ماذا لو ...؟" و"كيف يمكننا ...؟" وذلك فيما يخص أهداف الشركة وخططها. واقترح الموظفون كل الأفكار الممكنة على اختلاف أنواعها، ثم تمت مناقشتها وتقييمها. وكدليل ملموس على أن الاستفسار كان مدعوماً ومُجزياً، وُضعت أفضل الأسئلة على الإطلاق على لافتات عُلِّقت على الحائط. وساقت بعض الأسئلة الموظفين إلى اقتراح أفكار حول كيفية العمل بطريقة أكثر فعالية. (لمزيد من المعلومات حول أهمية طرح أسئلة وجيهة قبل البحث عن حلول، طالع "نحو عصف ذهني أفضل"، هارفارد بزنس ريفيو، مارس/آذار-أبريل/نيسان 2018).

في واحدة من الدراسات، طلبت أنا وزملائي من البالغين الذين يعملون في نطاق عريض من الوظائف والصناعات، قراءة واحدة من مجموعتين من المواد حول العناصر المؤسسية التي تشمل: الأهداف والأدوار وكيف تعمل المؤسسات ككل معاً. وعُرضت المعلومات على نصف الموظفين باعتبارها "طريقة النمو" – وتلك كانت نسختنا المحكومة بضوابط. وشجعنا هذه المجموعة على النظر في تلك العناصر باعتبارها ثابتة وعصية على التغيير، وشددنا على أهمية اتباع العمليات الحالية التي حددها المديرون بالفعل. وبالنسبة للنصف الثاني، عُرضت عليهم المعلومات باعتبارها "طريقة الرجوع". وشجعنا هؤلاء الموظفين على النظر إلى العناصر على أنها متغيرة، وأن عليهم "الرجوع" وإعادة النظر فيها. وبعدها بأسبوع، اكتشفنا أن الموظفين الذين قرأوا عن "طريقة الرجوع" أبدوا قدراً أكبر من الإبداع في الاضطلاع بالمهام مقارنةً بموظفي مجموعة "طريقة النمو"، كما كانوا أكثر انفتاحاً على أفكار الآخرين، وعملوا على نحو أكثر فعالية مع بعضهم البعض.

للتشجيع على الفضول، على القادة أيضاً تعليم موظفيهم كيف يطرحون أسئلة وجيهة. فقد قال بوب لانجر إنه أراد "مساعدة الموظفين على الانتقال من إعطاء إجابات سديدة إلى طرح أسئلة وجيهة" (طالع "إديسون الطب"، هارفارد بزنس ريفيو، مارس/آذار-أبريل/نيسان 2017). ويقول لانجر لطلابه أيضاً إن بوسعهم تغيير العالم من حولهم، وبذلك يعزز لديهم الفضول الذي هم بحاجة إليه للتعامل مع المشاكل المستعصية.

ومن الممكن أن يؤدي تخصيص بعض الأيام لتشجيع الموظفين إذا واجهوا تحدياً على طرح سؤال "لماذا؟"، إلى الإسهام بشكل كبير في تعزيز الفضول. تنظم شركة "إنتلكتشوال فينتشرز" (Intellectual Ventures) المتخصصة في إنتاج الاختراعات وشراء براءات الاختراع وترخيصها، وتنظيم "جلسات للاختراع" يجتمع فيها أشخاص من ذوي التخصصات والخلفيات ومستويات الخبرة المختلفة لمناقشة الحلول الممكنة للمشكلات الصعبة، مما يساعدهم على بحث الأمور من عدة زوايا (طالع "تمويل الأفكار المبتكرة" هارفارد بزنس ريفيو، مارس/آذار 2010). وبالمثل، يُطلب إلى موظفي شركة تويوتا، وفقاً لأسلوب "5 أسئلة عن العلة"، استقصاء المشكلات بطرح سؤال "لماذا؟" وبعد التوصل إلى الإجابة، عليهم أن يسألوا عن علة كون الإجابة صحيحة، وهكذا دواليك حتى ينتهوا من طرح السؤال خمس مرات. من الممكن أن تساعد هذه العقلية الموظفين على الابتكار بواسطة الطعن في وجهات النظر القائمة.

وفي أغلب المؤسسات، يتلقى القادة والموظفون على حد سواء الرسالة الضمنية التي مفادها أن طرح الأسئلة هو تحدٍ غير مرغوب فيه للسُلطة. ويتم تدريبهم على التركيز على عملهم دون النظر عن كثب إلى العملية ذاتها أو إلى أهدافهم العامة. لكن الحفاظ على الرغبة في التساؤل والاستقصاء أمر محوري للإبداع والابتكار. وأكثر القادة فعاليةً يبحثون عن طرق لإثراء الفضول لدى موظفيهم من أجل شحذ عملية التعلم والاستكشاف لديهم.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي