تعود حركة "تراجع النمو" إلى سبعينيات القرن العشرين، عندما اقترحت مجموعة من المثقفين الفرنسيين بقيادة الفيلسوف أندري غورز فكرة بسيطة: مفادها أن الاستجابة الحقيقية للمشكلات البيئية والاجتماعية المتصاعدة تتمثّل في الإنتاج والاستهلاك بشكل أقل، وهو ما يعني تقليص الاقتصاد للتعامل مع القدرة الاستيعابية لكوكبنا. اعتبر الكثيرون الاقتراح اقتراحاً ثورياً آنذاك، ولكن مع تأجج أزمة المناخ اليوم، تكررت النقاشات حول حركة تراجع النمو، وأعربت العديد من الشخصيات الرئيسة مثل نعوم تشومسكي ويانيس فاروفاكيس وأنتوني جيدينز عن دعمها لهذه الفكرة، وإن كان الدعم بدرجات متفاوتة.
وعلى الرغم من ذلك، تُعتبر سياسة تراجع النمو بالنسبة إلى الآخرين فكرة مستحيلة، وخاصة قادة الشركات، ذلك أن هذه الحركة تتبنّى الأفكار المناهضة للرأسمالية ومكافحة النزعة الاستهلاكية. وتتمثّل وجهة النظر السائدة في اعتبار النمو ضرورة اقتصادية، وأن أي تهديد للنمو يقوّض الأعمال التجارية وأداء المجتمع على حد سواء. على سبيل المثال، حذّر الرئيس التنفيذي لشركة "آتش آند إم" (H&M) كارل جوان بيرسون مؤخراً من العواقب الاجتماعية الوخيمة للحركة التي يصفها بـ "عار المستهلك". ومن هذا المنظور، يمكننا التنبؤ بمقاومة الرؤساء التنفيذيين وروّاد الأعمال متعددي الجنسيات، وإحجام السياسيين عن الترويج لسياسات تراجع النمو التي من المحتمل ألا تحظى بشعبية لدى الناخبين الرئيسين. ويقدّم عالم الاقتصاد تيم جاكسون تقييماً موجزاً بقوله: "إن التشكيك في النمو هو تصّرف لن يقوم به إلا المجانين والمثاليين والثوريين".
في حين طرح منتقدو حركة تراجع النمو حججاً أخرى تبدو صحيحة في ظاهرها، حيث أفاد عالم الاقتصاد جوزيف ستيغليتز، أنه نظراً إلى أن النمو جيد للتنمية البشرية، نحتاج إلى نوع مختلف من النمو يكون أفضل للبيئة. ويجادل آخرون أن فلسفة تراجع النمو لا تأخذ في الاعتبار الابتكارات التكنولوجية، وخاصة فكرة القدرة على مواصلة أنماط النمو الحالية عند ابتكار منتجات تُصدر كميات أقل من النفايات الثانوية وتستهلك موارد اقل.
ومع ذلك، نلاحظ وجود عدة مشكلات مع وجهات النظر هذه. أولاً، يُعتبر النمو الاقتصادي غير المحدود مستحيلاً من الناحية المنطقية بالنظر إلى الطبيعة المحدودة لكوكبنا. ثانياً، يُسفر الابتكار وإدخال التحسينات عن عواقب غير مقصودة في كثير من الحالات، ويتمثّل أحدها في "مفارقة جيفونز" (Jevons paradox)، التي تُفيد أن زيادة الكفاءة تُسفر عن زيادة الاستهلاك. على سبيل المثال، يقود ابتكار الثلاجات الأكثر كفاءة في استخدام الطاقة إلى امتلاكنا المزيد من الثلاجات في منازلنا.
وتتمثل المشكلة الثالثة والأكثر أهمية في أن حركة تراجع النمو قد بدأت بالفعل على مستوى القاعدة الشعبية نتيجة تغيّر أنماط الطلب الاستهلاكي، على الرغم من تحفظ السياسة والشركات، فقد أظهر استطلاع حديث لشركة "يوغوف" (YouGov) في فرنسا أن 27% من المشاركين يسعون إلى الاستهلاك بشكل أقل، وتُعتبر هذه النسبة ضعف النسبة في العامين السابقين. فعدد الأشخاص الذين يتناولون كميات أقل من اللحوم أو يحجمون عن تناولها بالكامل قد ارتفع بشكل كبير في السنوات الأخيرة. وبالمثل، حققت حركة "فلاي سكام" (Flygskam) والتي تعني حرفياً "عار الطيران" باللغة السويدية نجاحات مبكرة في الحد من التلوث، حيث أبلغت 10 مطارات سويدية عن تراجع كبير في حركة المسافرين خلال العام الماضي، والتي عزت سببها المباشر إلى حركة "فلاي سكام". أما في قطاع صناعة الملابس، لا تزال الموضة السريعة تحظى بشعبية كبيرة، في حين تستعد شركات الملابس مثل "آتش آند إم" لرد فعل عنيف مع ازدياد تعبير المستهلكين عن انتقاداتهم لتأثير الملابس على البيئة. وتشير مثل هذه التقارير إلى تزايد إدراك المستهلكين للآثار السلبية للنزعة الاستهلاكية وسعيهم إلى تغيير عاداتهم. نحن نشهد ظهور حركة تراجع نمو يقودها المستهلك.
وتبيّن هذه القصص أيضاً أن حركة تراجع النمو تخلق فرصاً جديدة، فمن المؤكد أن بعض الشركات والقطاعات قد تتعرض للزعزعة، في حين ستتغلب الشركات الأخرى التي تستعد بشكل كاف لمثل هذه التحولات على منافسيها بسهولة. على سبيل المثال، كانت حركة "فلاي سكام" بمثابة نعمة بالنسبة إلى شركات السفر عبر القطار، وعززتها إحدى الحركات على وسائلالتواصلالاجتماعي التي حملت اسم "توغسريت" بمعنى "التفاخر بركوب القطار". في الوقت نفسه، ترافق انخفاض استهلاك اللحوم مع تزايد في استهلاك بدائل اللحوم التي تنتج عُشر الغازات الدفيئة مقارنة بمصانع إنتاج اللحم الحقيقي. ووفقاً لذلك، تعمل حركة تراجع النمو على تغيير العوامل التنافسية داخل القطاعات وفيما بينها، وخلافاً لافتراض العديد من قادة الشركات، يوفر تراجع النمو قواعد جديدة للميزة التنافسية.
وبناء على دراستنا للشركات في طليعة حركة تراجع النمو، حددنا ثلاث استراتيجيات يمكن تطبيقها على الشركات الكبرى الحالية.
أولاً، يمكن للشركات تصميم منتجات تتكيّف مع حركة تراجع النمو، بما في ذلك إنشاء منتجات تتمتع بصلاحية أطول أو منتجات قابلة للتعديل أو منتجات محلية. على سبيل المثال، تتجنب المؤسسة الاجتماعية "فيرفون" (Fairphone) نهج التقادم الذي تتبعه الشركات الكبرى في إنتاج الأجهزة المحمولة وتنتج هواتف قابلة للإصلاح وتطيل عمر الهواتف بشكل ملحوظ. وبالمثل، تبيع الشركة الناشئة "ذا ثيرتي ييرز سويت شيرت" (The 30 Year Sweatshirt) منتجات عالية الجودة ومستدامة تتعارض مع مبادئ الموضة السريعة. وعلى الرغم من أن الشركات الحالية لم تحذُ حذو هذه الاستراتيجية بعد، إلا أن هذه التحولات لا تعتبر جديدة على الإطلاق، على سبيل المثال، اضطر قطاع السيارات الأميركية إلى التخلي عن نهج التقادم المخطط له، والذي كان ممارسة شائعة تعود إلى عشرينيات القرن العشرين، وذلك عندما استحوذ المنافسون اليابانيون على السوق في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي بإنتاج سيارات أكثر موثوقية وكفاءة في استهلاك الوقود والتي صُممت لتكون سيارات مستدامة.
ثانياً، يمكن للشركات إعادة النظر في سلسلة القيمة، بمعنى التخلي عن أداء أنشطة معينة من سلسلة القيمة وتفويض بعض المهام إلى أصحاب المصلحة. على سبيل المثال، ابتكرت شركة "لوكال موتورز" (Local Motors) المصنّعة للسيارات مركبة قابلة لإعادة التدوير باستخدام 50 قطعة فردية مطبوعة بنظام ثلاثي الأبعاد، مقارنة بحوالي 25,000 قطعة في المركبات التقليدية. وقامت الشركة بحشد المصادر والتمويل الجماعي للمشروع من مستهلكيها المحتملين. كما استفادت الشركات الأكبر مثل "ليغو" (Lego) من هذا النموذج، حيث طرحت أسواقها لإنشاء تصاميم جديدة أو تداول منتجات مستخدمة، وهو ما مكّن الشركة من ابتكار طرق مختلفة للاستهلاك على الرغم من حدود الإنتاج. وتُعتبر الشركات التي تُشرك أصحاب المصلحة في عملياتها أسرع في التكيف مع حركة تراجع النمو عندما تصبح أكثر شيوعاً.
ثالثاً، يمكن للشركات إدارة عملياتها من خلال وضع معايير موجهة نحو تراجع النمو، وهو ما يستلزم خلق معايير تتّبعها بقية القطاعات. وتُعتبر شركة الملابس "باتاغونيا" (Patagonia) التي تتبع استراتيجية "مقاومة النمو" أفضل ممثّل لهذه الفلسفة، حيث تقدم الشركة متجراً للألبسة البالية وتوفر إصلاحات مجانية لمنتجاتها ومنتجات شركات تصنيع الملابس الأخرى. وقد التمست شركتا "وول مارت" و"نايكي" مشورة شركة "باتاغونيا" بشأن مثل هذه الممارسات، وقامت شركة "آتش آند إم" مؤخراً باتباع الاستراتيجية ذاتها من خلال تخصيص قسم لإصلاح الملابس في المتجر. وعلى نفس المنوال، نشرت شركة السيارات "تيسلا" جميع براءات الاختراع الخاصة بها في عام 2014، في محاولة لتحفيز نشر السيارات الكهربائية. ولم تكن مثل هذه المبادرات مجرد حيل تسويقية، وإنما كانت استراتيجيات تهدف إلى توحيد الممارسة أو المنصة التقنية في القطاعات، قادتها شركات مثل "باتاغونيا" وتيسلا" التي تمتلك خبرة عميقة في هذا النهج.
وتوضح هذه الاستراتيجيات سُبل التكيف مع تراجع النمو الذي يحرّكه المستهلك. وقد تتبع الشركات أكثر من استراتيجية واحدة أو ثلاث استراتيجيات في وقت واحد: على سبيل المثال، حاولت شركة "جوجل" في عام 2016 إنشاء هاتف طويل الأمد يحتوي على قطع قابلة للاستبدال بعد التماس آراء الجهات الفاعلة في سلسلة التوريد حول كيفية إنتاج قطع معيارية. وعلى الرغم من إلغاء "مشروع أرا" (Project Ara) في نهاية المطاف، كشف عن توجه مشترك بين الاستراتيجيات. إن التواصل الفاعل والشامل مع أصحاب المصلحة في جميع وحدات سلسلة التوريد هو أمر بالغ الأهمية، لكن صياغة المشروع بطريقة تمكّن جميع أصحاب المصلحة من تأييده يتطلب بذل جهد كبير وإدخال تعديلات قائمة على أساس التجربة والخطأ.
ومع استمرارنا في التصدي لتغير المناخ، يمكننا أن نتوقع أن يقود المستهلكون، وليس السياسيون، حركة تراجع النمو بشكل متزايد عن طريق تغيير أنماط استهلاكهم. ويجب على الشركات أن تفكر بطريقة مبتكرة بشأن سياسة تراجع النمو التي يقودها المستهلك باعتبارها فرصة، بدلاً من مقاومة مطالب هذه الحركة الصغيرة والمتنامية ورفضها. وستصبح الشركات التي تنجح بذلك أكثر مرونة وقدرة على التكيّف، وبدلاً من بيع مزيد من المنتجات، ستبيع على نحو أفضل وتنمو بطريقة ترضي المستهلكين مع الحفاظ على البيئة في الوقت نفسه.