تُبقيك الشبكة الاجتماعية القوية على اطلاع بما يجري، وتعلّمك أشياء جديدة، وتدفعك إلى المزيد من الابتكار. إنها تمنحك مجالاً للتعبير عن أفكارك واستطلاع آراء الآخرين بها، وتساعدك في إنجاز الأمور عندما تكون في عجلة من أمرك. ولشبكة العلاقات الاجتماعية القوية فوائد أخرى كثيرة (انظر الفيديو على موقع "لين إن" (Lean In)، الذي أتحدث فيه عن كيفية تعزيز الشبكات الاجتماعية لتأثيرك)، ولكن ما هي أبرز المفاهيم الخاطئة عن التعارف تحديداً؟
مقابل كل شخص يقدِّر قيمة الحفاظ على مجموعة واسعة التأثير ومتنوعة من المعارف المختصين، ثمة عدد أكبر بكثير ممن يعانون للتغلب على المقاومة الفِطرية للتعارف، إن لم نقل النفور منه. في السنوات العشرين التي قمتُ فيها بتعليم كيفية بناء الشبكات الاجتماعية واستخدامها بطرق أكثر فاعلية، وجدت أن أعظم العوائق التي يواجهها الناس في العادة لا تتعلق بالمهارة، وإنما بالقناعة الفكرية.
المفاهيم الخاطئة عن التعارف
بإصغائي بانتباه إلى المعضلات المتكررة التي يواجهها تلاميذي والتنفيذيون في قسم ماجستير إدارة الأعمال، استنتجت أن مفهوماً واحداً أو أكثر من المفاهيم الخمسة الخاطئة قد يمنع الناس من جني المنافع الكاملة للتعارف. فأي من هذه المفاهيم يعيق تقدمك؟
المفهوم الخاطئ الأول: التعارف بمعظمه مضيعة للوقت
قد تؤدي قلة الخبرة بالتعارف إلى دفع الناس إلى التساؤل عما إذا كان توظيفاً قيّماً لأوقاتهم، لا سيما في الحالات التي لا ترتبط فيها العلاقات الاجتماعية الجاري بناؤها ارتباطاً مباشراً بالمهمة المطروحة. على سبيل المثال، أخبرني "جاد"، وهو مسؤول تنفيذي من أميركا اللاتينية في شركة كبيرة يسعى جاهداً ليعزز التعاون المهني، أن كل زميل يزور بلده يطلب منه الاجتماع به. وقد استقبل جاد في السنة الماضية وحدها 60 شخصاً، ما يُعد عبئاً ثقيلاً يضاف إلى عمله اليومي. ويتساءل جاد بحق عما إذا كانت تلك اللقاءات هي استخدام مناسب لوقته.
لا تتطلب الفوائد الكثيرة التي ذكرناها للشبكات الاجتماعية أن تتمتع شبكتك بالمزايا نفسها؛ فالأمر كله يعتمد على نوع شبكتك، وكيفية بنائك لها. معظم الناس لا يُبيّتون نية معينة قبل بناء شبكاتهم الاجتماعية. فهم مثل جاد، يتجاوبون للطلبات، ويتصلون بالآخرين فقط عندما يحتاجون إلى أمور معينة. وسيُثمر على الأرجح تواصلك مع الأشخاص الذين صنفتهم بأنهم مهمون استراتيجياً لجدول أعمالك.
المفهوم الخاطئ الثاني: ينقسم الناس إلى موهوبين بطبيعتهم في التعارف، وغير موهوبين به؛ وبشكل عام، يصعب تغيير ذلك
يعتقد كثيرون أن التعارف أمر سهل على صاحب الشخصية الانبساطية، فيما تكون نتيجته عكسية للشخص الخجول بطبيعته. وحين يرون أنهم يفتقرون إلى هذه الموهبة الفطرية، لا يستثمرون جهداً فيها، لأنهم لا يعتقدون أن ذلك الجهد سينفعهم كثيراً.
أثبتت كارول دويك، عالمة نفس في "جامعة ستانفورد" (Stanford University)، أن المعتقدات الأساسية للناس عن "الطبيعة مقابل التنمية" (nature versus nurture)، لها تبعات مهمة بالنسبة إلى مقدار الجهد الذي سيبذلونه في تعلم شيء لا يمتلكونه بالفطرة من حيث الصفات الشخصية، مثل الذكاء والقيادة. يعتقد أصحاب النظريات "الثابتة" أن القدرات فطرية في الأساس، بينما يرى أصحاب القناعات المتطورة أنه من الممكن تنمية القدرات بمرور الوقت.
وكما أظهر الأساتذة الجامعيون كوابارا وهيلدبراند وزو في بحث أكاديمي لهم سينشر لاحقاً، "من المحتمل أن تشعر بالحماسة لتحسين قدرتك على التعارف، إذا كنت تعتقد أنها مهارة يمكنك تنميتها. ستبذل حينها جهداً أكبر وتحقق نتائج أفضل لتعارفك مقارنة بشخص ثابت القناعات".
المفهوم الخاطئ الثالث: ينبغي أن تُبنى العلاقات الاجتماعية على نحو طبيعي
أحد أهم المفاهيم الخاطئة التي يمتلكها الناس عن التعارف هو أن العلاقات الاجتماعية يجب أن تتشكل وتنمو عفوياً، بين الأشخاص المعجبين ببعض تلقائياً. وهم يعتقدون أن التخطيط لبناء العلاقات وتنميتها والعمل المنهجي على ذلك وسيلة، حتى إنها قد تكون بنظرهم غير أخلاقية.
والمشكلة في هذه الطريقة من التفكير أنها تُنتج شبكات اجتماعية ليست مفيدة لك، ولا لمعارفك، لأنها شديدة التجانس. قد أظهرت عقود من الأبحاث في مجال علم النفس الاجتماعي أنه لو تُركت لنا حرية التصرف والاختيار، لبنَينا وحافظنا على علاقات مع أشخاص يشبهوننا تماماً ومعرفتهم مناسبة لنا، لأننا غالباً ما نصادفهم (وإذا صادفناهم غالباً فهم على الأرجح يشبهوننا).
ومن المستحيل أن تمنحنا هذه الشبكات "النرجسية الكسولة" سعة وتنوع المدخلات التي نحتاج إليها لنفهم العالم من حولنا، ونتخذ قرارت جيدة، ونجعل الأشخاص المختلفين عنا منسجمين مع أفكارنا. ولهذا السبب، علينا أن نطور شبكاتنا المهنية عمداً، في إطار جهد مقصود ومنسق لتحديد العلاقات وتنميتها مع الأطراف ذوي الصلة.
المفهوم الخاطئ الرابع: الشبكات الاجتماعية بطبيعتها نفعية أو أنانية
يبرر العديد من الأشخاص الذين يفشلون في التعارف خيارهم بأنه مسألة قيم شخصية. فهم يجدون التعارف "غير نزيه"، أو "أداة للتلاعب"، أي طريقة غير شريفة للحصول على منافع. في المقابل، يرى آخرون في التعارف فرصة للتبادل، ورد الجميل للآخرين بقدر ما أعطوا.
اكتشفت إحدى الدراسات أن الآراء حول أخلاقيات التعارف تختلف بحسب مستوى أصحابها. فقد كان المهنيون المبتدئون عرضة للشعور بـ "الريبة" تجاه التعارف الوسائلي، الذين كانوا يعلمون أنهم مضطرين إليه لتطوير حياتهم المهنية، بينما لم يشعر كبار الموظفين بأدنى تضارب تجاهه، لاعتقادهم بأنهم يمتلكون شيئاً ذا قيمة مماثلة ليقدموه.
ويعود الفرق بين المجموعتين إلى ثقة المهنيين، أو شكهم بقيمة إسهاماتهم، إذ يشعر المبتدئون بأنهم أشبه بالمتوسلين منهم بأطراف في عملية تبادل منصفة. ويفيد بحثي الخاص في أن الطريقة الوحيدة لاعتماد وجهات نظر أسمى عن التعارف هي بممارسته واختبار قيمته شخصياً ليس على المستوى الفردي فقط، بل على مستوى فريقك ومؤسستك.
أحد المفاهيم الخاطئة عن التعارف: روابطنا القوية هي الأعلى قيمة
ثمة مفهوم خاطئ آخر يعترض الطريق إلى بناء شبكة اجتماعية أكثر نفعاً هو الفكرة الحدسية التي مفادها أن أهم العلاقات في شبكتنا هي أقوى روابطنا، وتعني العلاقات المقرّبة شديدة الثقة مع أشخاص نعرفهم جيداً ويؤلفون دائرة شبكتنا الداخلية. لا شك أن هذه العلاقات مهمة فعلاً، إلا أننا نميل إلى التقليل من أهمية "روابطنا الضعيفة"، أي علاقاتنا بالأشخاص الذين لا نعرفهم جيداً بعد، أو لا نقابلهم كثيراً، والذين يؤلفون الدائرة الخارجية لشبكتنا.
إن المشكلة في مستشارينا الموثوقين ودائرة الأشخاص الذين اعتدنا وجودهم إلى جانبنا لا تكمن في عدم رغبتهم بالمساعدة، ولكن في أرجحية امتلاكهم المعلومات ووجهة النظر نفسها التي نمتلكها نحن. وقد أظهرت أبحاث كثيرة أن الابتكار والإلهام الاستراتيجي ينسابان عبر تلك الروابط الأضعف، التي تضفي على شبكتنا قابلية الاتصال، بتمكينها إيانا من الاتصال بأشخاص لا نعرفهم عن طريق أشخاص نعرفهم. وهذه هي الطريقة التي نتعلم بها أموراً جديدة ونتوصل إلى معلومات وموارد بعيدة عن متناولنا.
وتتمثل واحدة من أهم شكاوى التنفيذيين من طلابي من شبكاتهم الحالية في أنها نتيجة عفوية للماضي، وليست مصدراً للدعم المستقبلي. فمن يملكون مفتاح تطور شبكتنا هم من تجمعنا بهم روابط ضعيفة، أي الأشخاص على هامش شبكاتنا الحالية، والذين لا نعرفهم جيداً بعد. بالتالي، تؤثر قناعاتنا عن التعارف بالوقت والجهد اللذين نستثمرهما فيه، وأخيراً بالعائد الذي نحصل عليه من استثمارنا. لماذا توسع دائرة معارفك بطريقة غير مدروسة في حين أن وقتك بالكاد يكفي لعملك الفعلي؟ هل تظن أنك لن تبرع في التعارف أبداً؟ أو هل تعتقد أنه في النهاية وسيلة "رخيصة" بعض الشيء، وفي أفضل الأحوال سياسية؟
وفي نهاية الحديث عن أبرز المفاهيم الخاطئة عن التعارف تحديداً، من الممكن أن تتغير القناعات، وهي بالفعل تتغير، ولكن بالتجربة المباشرة. والطريقة الوحيدة التي تجعلك تدرك أن التعارف من أهم الموارد لعملك وحياتك المهنية هي بتجربته، واكتشاف قيمته بنفسك.
اقرأ أيضاً: