ملخص: تتمثل إحدى الفرص الرئيسية لخفض تكاليف الرعاية الصحية دون المساس بجودة النتائج في إقناع الأطباء والمرضى باستخدام المواقع التي تقدم خدمات عالية الجودة، مثل المعامل والفحوصات والتصوير بالرنين المغناطيسي والعمليات الجراحية، بتكلفة أقل من غيرها. لكن تغيير الممارسات أو العادات المترسخة يشكل تحدياً رئيسياً في هذا السياق. ولا يمكن لشركات التأمين والأنظمة الصحية تقدير الوفورات المحتملة إلا من خلال أخذ هذا التحدي في الاعتبار، وهو ما يؤثر بدوره على تصميم مثل هذه المبادرات والاستثمار فيها. ويستعرض هذا المقال نموذجاً تم تطويره من قبل "معهد تحوّل الرعاية الصحية" (HTI) في "جامعة بنسلفانيا" ومؤسسة "الرعاية الصحية المدمجة" (EHC) لتقدير وفورات التكلفة المحتملة بشكل واقعي من خلال تغيير أنماط الممارسة.
في إطار معركتها المحمومة ضد ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية، تدرك شركات التأمين والأنظمة الصحية أهمية الموقع الذي يتم فيه تقديم خدمة الرعاية الصحية، أي ما إذا كانت فحوصات التصوير بالرنين المغناطيسي، مثلاً، تُجرَى في مستشفى أو عيادة الطبيب أو منشأة قائمة بذاتها. إذ يؤثر المكان الذي يتم فيه تقديم الرعاية بشكل كبير في واقع الأمر على أسعار الرعاية الصحية وتباين الأسعار.
ولا تخفى أهمية هذا العامل كآلية لخفض التكاليف، حيث يمكن تحقيق وفورات من خلال تغيير موقع الخدمة دون التضحية بجودة الرعاية المقدمة في الأحوال العادية. وقد توقع الكثير من التحليلات في هذا المجال وجود احتمالات لتحقيق وفورات ضخمة، بيد أن الجهود المبذولة لتغيير مواقع الخدمة لم تحقق مثل هذه الوفورات. ويتمثل أحد الأسباب المحتملة في أن هذه التقديرات تفترض أن كل السلوكيات عالية التكلفة يسهل تغييرها بالقدر نفسه، فهي تهمل تحديات إقناع الأطباء بتغيير ممارسات الإحالة المتبعة حالياً وتشجيعهم إما على إرسال مرضاهم إلى مواقع منخفضة التكلفة أو نصح المرضى باستخدامها.
نمذجة الوفورات المحتملة لخفض تكاليف الرعاية الصحية
وقد طوّر "معهد تحوّل الرعاية الصحية" (HTI) في "جامعة بنسلفانيا" ومؤسسة "الرعاية الصحية المدمجة" (EHC) نموذجاً لتغيير سلوك الأطباء لتقدير وفورات التكلفة المحتملة بشكل واقعي من خلال تغيير أنماط الممارسة. وسنستعرض في هذه المقالة منهجنا المستخدم لنمذجة الوفورات المحتملة من خلال تحسين مواقع خدمات الفحوصات المعملية. يتميز هذا المنهج بقابليته للتطبيق على أرض الواقع واستخدامه من قبل "معهد تحوّل الرعاية الصحية" ومؤسسة "الرعاية الصحية المدمجة" لتقدير الموقع الأمثل لتقديم الخدمة في مجموعة واسعة من الأنشطة الطبية، بما في ذلك الأشعة والإجراءات الجراحية والإحالات إلى الأخصائيين. ويمكن لهذه التقديرات الواقعية للوفورات أن تفيد دراسة الجدوى التجارية للاستثمار في أي عدد من مبادرات شركات التأمين الجديدة المصممة للتأثير على موقع الخدمة، بما في ذلك نماذج السداد الجديدة أو برامج الحوافز أو الأدوات المستندة إلى السجلات الطبية الإلكترونية (كأدوات دعم اتخاذ القرار أو "إرشادات أفضل الممارسات") المنتشرة في نقطة الرعاية.
ويزن النموذج بصورة عامة الوفورات المحتملة من تغيير المواقع مقارنة بمجموعة من عوامل الموازنة المضادة التي تعالج مدى صعوبة تغيير سلوك الطبيب. وهناك عدد من العوامل التي تؤثر فيما إذا كان بإمكاننا تحويل الفحوصات من معمل عالي التكلفة إلى آخر منخفض التكلفة، مثل العقود وتفضيلات المريض والخبرة السريرية وحجم الحافز المالي المدفوع للطبيب للإحالات المثلى. ويوضح النموذج مقدار الفرص الفعلية المتاحة لخفض التكاليف من خلال تغيير موقع الخدمة عند الربط بين كل هذه العوامل. ويجري استخدام هذا النموذج حالياً من قبل إحدى كبرى شركات التأمين في الولايات المتحدة و"معهد تطوير الرعاية الصحية" ومؤسسة "الرعاية الصحية المدمجة" لتصميم برامج حوافز جديدة للأطباء وموجهة نحو تحفيز ومكافأة الأطباء الذين يحيلون مرضاهم إلى مواقع خدمة ذات قيمة أعلى، حيث تعتزم شركة التأمين طرح ما لا يقل عن 4 برامج تجريبية عام 2021 بهدف استغلال الفرص المستخلصة بمساعدة النموذج.
النموذج
ننظر في البداية إلى إجمالي السعة السريرية وتكلفتها، وذلك لتحديد نقطة بداية الاستخدام، ثم نحسب نسبة هذا النشاط الذي يتوفر له بديل سريري مماثل منخفض التكلفة ("سعة إجمالية منخفضة القيمة").
ونحدد بعد ذلك حجم الفحوصات التي يمكن أن تتأثر بالتدخل عن طريق عزل تلك الفحوصات التي لا يمكن تحويلها، ما يؤدي إلى التعرف على حجم الفحوصات القابلة للتدخل. وقمنا، على سبيل المثال، بطرح الفحوصات المعملية التي تتطلب مرافق متخصصة ومتمرسة (مثل طلب مستويات الإنترلوكين 6) نظراً لتعقيدها السريري وقلة مواقع المعامل البديلة نسبياً التي يمكن إجراؤها فيها. وأخذنا في الاعتبار أيضاً ما إذا كانت الممارسة مستقلة أو تابعة لنظام صحي وما إذا كانت قد استخدمت في السابق خياراً بديلاً منخفض التكلفة. قد تكون حرية الأطباء في اختيار المعامل مقيدة إذا كانوا يمارسون عملهم تحت مظلة نظام صحي معين لأن هذا النظام الصحي قد يلزمهم بإحالة المرضى إلى مرافقه الخاصة.
وحتى إذا استطاع الأطباء تغيير ممارساتهم منخفضة القيمة وأمكن تحفيزهم للقيام بذلك (من خلال تقديم حافز مالي)، فسيكون من المستحيل نقل كل الأحجام القابلة للتدخل إلى مواقع منخفضة التكلفة في وقت قصير بسبب أنماط الممارسة الراسخة في عادات الأطباء وتفضيلات المرضى. لكن النموذج يقدّر النسبة المئوية التي يمكن نقلها بشكل واقعي، أي الحجم المستهدف للنشاط السريري.
ما يهمنا هنا أن نتوصل إلى المستهدف المناسب. فإذا ما توصل البرنامج إلى هدف يشعر الأطباء باستحالة تحقيقه في الإطار الزمني المحدد، فقد يتخلون عنه أو يرفضون المشاركة في البرنامج من الأساس. وبالتالي، قد يكون من المفيد تحديد هدف مبدئي يسهل تحقيقه وسلسلة من الأهداف الطموحة على نحو تدريجي، مقترنة بمجموعة من الحوافز المقابلة. فإذا كان الطبيب يرسل حالياً 20%، مثلاً، من الفحوصات المعملية إلى منشأة منخفضة التكلفة، فقد يكون من غير المعقول توقع زيادة هذه النسبة إلى 70% في السنة الأولى نظراً للعلاقات التعاقدية القائمة أو القناعات المترسخة لدى المرضى أو تفضيلات النظام الصحي. ويفضَّل حينها تحديد هدف مبدئي أكثر واقعية (وتحفيزاً) بالوصول بهذه النسبة إلى 30% أو 40%، مثلاً، خلال السنة الأولى، ومن ثم زيادتها إلى 50% أو 60% في السنة الثانية، ثم إلى 70% أو 80% في السنة الثالثة.
يراعي الحجم المستهدف أيضاً الأطباء الذين ينأون بأنفسهم عن المشاركة. فقد ثبت أنه بالإمكان حساب صافي الوفورات الواقعية من البرامج التي تهدف إلى إقناع الأطباء باستخدام مواقع خدمة منخفضة التكلفة أو إحالة المرضى إليها، وذلك بمضاعفة الحجم المستهدف من خلال وفورات الوحدة بين النشاط الطبي عالي التكلفة ومنخفض التكلفة، ثم طرح التكاليف المرتبطة بالبرنامج، مثل الحوافز المالية المدفوعة أو الإيرادات التي تخسرها شركات التأمين نتيجة دفع الحوافز غير المالية (مثل التنازل عن بعض التزامات الترخيص المسبق للأدوية أو الأجهزة).
دراسة حالة
عملنا مع إحدى كبرى شركات التأمين على مستوى الولايات المتحدة، وطبقنا هذا النموذج على معدلات لجوء الأطباء إلى طلب إجراء الفحوصات المعملية لمرضى العيادات الخارجية في سوق واحدة خلال عام واحد.
ووجدنا أن الأطباء كانوا يرسلون 174,788 طلباً إلى المعامل منخفضة القيمة والتي بلغ إجمالي تكلفتها 22.6 مليون دولار. وبعد استبعاد الفحوصات المعملية المعقدة، تلك التي يجريها مقدمو الخدمات المرتبطون بالنظم الصحية، وتلك التي تجري في معامل داخل العيادات الطبية... وغير ذلك، لم يبق سوى 42% من الطلبات، أو ما يعادل 73,432 طلباً. وتمثل هذه النسبة الحجم القابل للتدخل.
وقد صممنا النموذج لاستهداف 50% من كافة الفحوصات المعملية القابلة للتدخل في السنة الأولى. وأظهر تحليل بيانات شركة التأمين حول متوسط أنماط ممارسات الأطباء المشاركين أن الأطباء يحولون المرضى بانتظام إلى 3 مرافق معملية متميزة على الأقل. وافترض النموذج أن الأطباء قد يكونون قادرين على نقل 50% من حجم المعامل عالية التكلفة بمجرد أخذ تفضيلات المريض أو قرب مواقع المعامل من منازل المرضى في الاعتبار.
وقدرنا بالإضافة إلى ذلك أن تخصيص 15% من إجمالي الوفورات المقدرة لحوافز الأطباء سيؤدي إلى نقل 40% من طلبات الفحوصات المعملية المؤهلة إلى مواقع أعلى قيمة وأقل تكلفة. وهكذا يمكن حساب الحجم المستهدف في النهاية بضرب الحجم القابل للتدخل × نسبة 50% المستهدفة × 40% المحولة. بعد تطبيق هذه التعديلات على النموذج، قدّرنا إمكانية تحويل حوالي 15,000 (8.4%) من الطلبات المعملية إلى مرافق منخفضة التكلفة في السنة الأولى إذا أنفقنا 259,995 دولاراً على الحوافز، وهو ما سيحقق وفورات صافية بقيمة 1,473,000 دولار (6.5% من إجمالي ما تم إنفاقه). وهذا يعني أنه سيكون هناك عائد استثمار قدره 9.65 دولار لكل دولار يتم إنفاقه على حوافز الأطباء. وسيتم اختبار هذه التوقعات عام 2021 عندما تنفّذ شركة التأمين المشاريع التجريبية.
الدروس المستفادة
هناك 3 دروس مهمة يمكن استخلاصها من تطبيق هذا النموذج.
ستكون الوفورات الفعلية من تغيير موقع الخدمة، أو أي من سلوكيات الأطباء، أقل بكثير من إجمالي الحجم ذي القيمة المنخفضة أو الحجم القابل للتدخل الذي يقترحه. ويسمح النموذج لشركات التأمين بتركيز جهودها على الأطباء الذين يُعتقد أنهم سيغيرون إحالاتهم على الأرجح، وذلك من خلال تحديد الأطباء الأكثر قابلية لتغيير إحالاتهم إلى مواقع خدمة معينة، ما قد يسفر في النهاية عن زيادة العائد على الاستثمار في برنامج تغيير السلوك.
ويمكن استخدام هذا النموذج لتشكيل استراتيجيات شركات التأمين على المديين البعيد والمنظور لخفض التكاليف. ونعني بهذا مزيجاً من السلوكيات التي يسهل تغييرها والتي يصعب تغييرها ويمكن استهدافها بمرور الوقت. وقد يمثل إقناع الأطباء، على سبيل المثال، بنقل طلبات الفحوصات المعملية الخاصة بهم من موقع عالي التكلفة إلى موقع منخفض التكلفة مكاسب قريبة المنال تحقق وفورات على المدى المنظور. ولكن على الرغم من أن الوفورات المحتملة من إقناع الأطباء بإحالة المرضى إلى أخصائيين منخفضي التكلفة أو مواقع أقل تكلفة لإجراء العمليات الجراحية قد تكون أكبر، فإن تحقيق ذلك أكثر صعوبة وقد يستغرق وقتاً أطول بسبب الطبيعة المتأصلة للإحالات الجراحية والتعقيد الطبي لهذه الإجراءات والنتائج، إضافة إلى الحاجة إلى غرف عمليات متخصصة والتعديلات في سير عمل الطبيب والمزايا التي يحصل عليها الأطباء في المستشفيات.
ستغدو التقديرات المستخلصة من هذا النموذج أكثر دقة مع زيادة استخدامه لأنه يمكن تحسين البيانات باستخدام البيانات المستمدة من التجارب الفعلية للبرامج المنفذة في مناطق محددة.
ويجب على الجهات الفاعلة في نظام الرعاية الصحية أن يكون لديها فهم عميق لما يمكن تحقيقه وكيفية التغلب على العراقيل والمدة التي سيستغرقها تحقيق الهدف في إطار السعي لتحسين النتائج وتقليل التكاليف (خفضل تكاليف الرعاية الصحية) في الوقت ذاته. ويمكن أن يسهم نموذجنا في توفير تلك المعرفة.