من أكثر الأقوال استخداماً كوسيلة للهروب من المسؤولية في الحياة المؤسسية قول أحدهم: "كان لدينا استراتيجية عظيمة لكننا لم نستطع تنفيذها بكل صراحة". وهذا الكلام غير مقبول. فأي استراتيجية لا تراعي إمكانية التحقيق هي استراتيجية فاشلة منذ البداية. فما علاقة هذا الاقتباس بموضوع خبراء التسويق بالمحتوى والناشرين؟
تصبح المشكلة عويصة بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بموضوع المحتوى. بالنسبة للكلام الجاري عن "جعل العلامات التجارية تعمل عمل الناشرين"، فمعظم خبراء التسويق أضافوا أعمال النشر إلى عملياتهم الحالية دون تطبيق أي إجراءات أو ممارسات جديدة. وهذا خطأ فادح.
كيفية مراعاة استرتيجية المحتوى من قبل الناشرين
كنت قد كتبت سابقاً مقالاً في مجلة "هارفارد بزنس ريفيو" بعنوان "حاجة خبراء التسويق إلى التفكير أكثر كناشرين"، وأرى أن عليهم أيضاً "العمل" أكثر كناشرين إذا كان لديهم رغبة حقيقة في أن يصبحوا جاذبين لانتباه الناس. فإذا كان خبير التسويق غير قادر على خلق تجربة آسرة، فلا تهم ماهية استراتيجية المحتوى عندها، لأنها في الواقع سوف تفشل.
يراعي الناشرون الكبار استراتيجية المحتوى عندما يأخذون بالاعتبار هذه التدابير الأربعة:
التركيز على الرسالة وليس جذب الانتباه:
بالعودة إلى عصر الإعلانات الرائجة وسيطرة أصحاب الإعلانات الكبار مثل ليو بيرنت وبيل بيرنباك وديفيد أوجيلفي كانت الأفكار العظيمة هي الموجّهة لعصر الصناعة. في ذاك الوقت لم يكن هناك- قياساً على الحاضر- إلا منافذ إعلامية قليلة، وكانت الفكرة العامة هي الوصول إلى أكبر عدد من المستهلكين. وأهم قرار يصدره خبراء التسويق هو اختيار الإعلان الذي سيبثون على تلك الشاشة الصغيرة. لم يكن شيء مما يفعلوه ينطلق من فكرة الرسالة، لقد كان جلّ تركيزهم على جذب الانتباه. ولا يزال كثير من التسويق يجري على هذا المنوال، حتى عندما تعددت منافذ الإعلام فجعلت من لفت الانتباه أمراً صعب المراس.
أما بالنسبة للناشرين فقد كانت الرسالة التحريرية في المقام الأول، وهذا ما كان يخلق المعنى بالنسبة للقرّاء. لم يصل رؤساء التحرير مثل آنا وينتور في "مجلة فوغ"، وديفيد ريمينك في "مجلة ذا نيويوركر" إلى قمة الشهرة بعملهم كمطاردين للقرّاء بل كجاذبين لهم. فقد كانوا يلتزمون بالرسالة التحريرية، سواء كانت هذه الرسالة عن إيمانهم بتأثير الذوق الفاخر أو بأهمية وجود الصحافة الفضولية من الناحية الفكرية، وهذا ما ألهم آخرين للانضمام إليهم وتقليدهم.
تخيّل أن "مجلة فوغ" نشرت استبانة عن الأزياء التي يحب قراؤها رؤيتها في العدد التالي، أو "مجلة ذا نيويوركر" تستطلع قراءها عما يمكن أن يجدوه ممتعاً. فهل يبقى اعتبارهم كمبتكرين وموثوقين وأصحاب مسار لامع؟ وهل يستطيعون الحفاظ على آراء ووجهة نظر متناسقة ومتينة؟ وهل سيكونون قادرين على الاستمرار في جذبهم للمواهب والمهارات الممتازة؟ لا يمكن توقع ذلك بكل المعايير.
فالناشرون الكبار يعملون على خدمة قرائهم، ويعلمون إن كان باستطاعتهم فعل ذلك، ثم يأتي جذب الانتباه في المقام التالي.
قدّم النماذج المبدئية الجديدة للأفكار والصيغ والتصاميم بدلاً من إجراء تعديلات على أفكار قديمة:
غالبا ما تبدأ استراتيجيات التسويق بدراسة السوق المعوّل عليه وتحديد هدف واضح للسوق. ومن هناك تُوضع خطة لتحقيق قائمة محددة من الأهداف التسويقية المرتبطة بغايات تجارية محددة مسبقاً.
وعندما يحين الوقت لخلق محتوى تسويقي، يستحوذ على التفكير أسلوب تفكير بالٍ كأن نقول: "علينا الآن وضع مخطط معلومات بياني" أو "دعنا ننشر فيديو كي يصبح رائجاً على الإنترنت"، أو ربما يتم التركيز على فئة محددة من المجتمع، مثل: "دعونا نجعل الأمهات فئتنا المستهدفة".
ما يفعله الناشرون يختلف عما ذُكر. فهو في جوهره يعتمد على عملية إبداع. إنهم يكتشفون بشكل مستمر الأفكار الجديدة ويصقلونها لتكون بأبهى حُلـّة ويجدون الأساليب الجديدة لإظهارها والتعبير عنها.
التجريب مهم، لأن الأمر الحسن في النشر هو أن العمل السيئ يصعب ملاحظته أحياناً. فالناشر لا يدفع ملايين الدولارات ليحشر عمله في الفترات الإعلانية؛ فعنده الحرية في إطلاق عمل تجريبي. طالما لا يقوم بأمر أحمق بشكل شنيع، وليس عليه أن يكون متقد الذكاء بشكل دائم، فيمكنه تجريب الأشياء الجديدة حتى يصل إلى تصور جديد يرضيه.
عندما يحدث هذا، فالشريحة المستهدفة من الإعلان سيظهرون إعجابهم بذلك فوراً، وخلال هذه العملية، يكتشف أشياء عن تلك الفئة وعن رسالته التحريرية. والحديث المستمر الذي يجري مع الناس في غاية الأهمية، إضافة إلى أنه أكثر عمل يعود على الناشر بمشاعر الرضا.
الالتزام بالمنهج:
المحتوى الآن هو فكرة جديدة جاهزة بالنسبة لخبير التسويق، والناشرون والمنتجون يحسنون صنع ذلك منذ فترة طويلة. وقد طوروا عبر السنين أفضل الممارسات التي تحسنت واستمرت على مرّ الأوقات. هناك المجلات التي لها خطط تنعدم فيها التراتبية، والإذاعات تعمل بدقة زمنية، والمسلسلات التلفزيونية حددت بوضوح معالم القصة ومسار تطور الشخصيات، وغير ذلك.
يعتقد الكثير من الناس أن إنتاج القصص القوية والمؤثرة هو نتيجة جودة معنوية، وهذا الاعتقاد أبعد ما يكون عن الحقيقة. وهناك سبب لوجود إصدارات مثل المؤسسة الإعلامية "تايم إنك"، فهي المهيمنة تقريباً منذ عقود في أي مجال تنافس فيه، وكما هناك سبب لتكون "مجلة كوزموبوليتان" (Cosmopolitan) في صدارة السوق في أكثر من 100 دولة.
والسبب هو التميز العملي؛ فالمحتوى ليس رحلة تحددت سابقاً بدايتها ونهايتها. يجب على خبير التسويق أن يكون قادراً بشكل مستمر وخلال فترة طويلة من الزمن على تلبية توقعات زبائنه وآمالهم. وهذا الذي يقوي الثقة، وهي بالمقابل تخلق الرابط الذي يجعل منهم جمهوراً وفياً.
أحد أكبر رؤساء التحرير في الولايات المتحدة ديك ستولي كان يقول: لكل منتَج منشور عظيم عاملان؛ الاستمرارية وعنصر المفاجأة، ولا يأتي أحدهم دون الآخر، وأما عنصر المفاجأة فيتولى أمر نفسه. يكمن العمل الصعب في خلق منتج دائم، لهذا على خبير التسويق تطبيق أفضل الممارسات العملية، ودائماً يعمل على تحسين منتجه مع مرور الوقت.
لا يتوقف العمل عند العصف الذهني، بل يجب تحسين الأفكار بشكل مستمر:
هناك "فكرة عظيمة" في قلب أي استراتيجية تسويق فعالة، لهذا يمضي خبراء التسويق أياماً في مرحلة العصف الذهني، باحثين عن المفهوم العظيم الذي سيقود الحملة. وبهذا تعمل "الفكرة العظيمة" بشكل رئيس كمبدأ منظِّم.
وتبنّى إد كاتمول الرئيس التنفيذي لشركة "بيكسار" رؤية مختلفة عن السائد. وكان يصرّ على قول: "كانت بداية كل أفلامنا سيئة". ويذكر في كتابه "الشركة الإبداعية" (Creativity Inc.):أن الأفكار الأولية في شركته "كالأطفال البشعين الناقصين وغير مكتملي النمو والضعاف". وتابع يقول: هم لا يتحملون أي صدمة أصلاً. "فالإبداع في بدايته يتطلب الاهتمام، وواجبنا هو رعايته وحمايته من أي خطر يدهمه". وهذا الكلام يستحق التفكير فيه. فهو منسوب إلى مدير إداري لأكثر الشركات الإبداعية نجاحاً في العالم،
فهو لا يتوقع البدء من فكرة عظيمة، بل لا يتوقع حتى أن يبدأ من فكرة مقبولة .بدلاً من ذلك فهو يضع إيمانه بفكرته على النهج الذي سارت عليه شركة "بيكسار"، وهي أن يكون واثقاً أن الأطفال البشعين عندما نرعاهم يمكن تحويلهم إلى حملان جميلات. وبالتأكيد لن تصبح الأفكار كلها جميلة، لكنها تصبح كذلك بالقدر الذي يمكّنها من ربح 15 جائزة أوسكار والمليارات في شبّاك التذاكر.
وهنا نأتي إلى صلب موضوع خبراء التسويق بالمحتوى والناشرين؛ حتى تكون عملية النشر عظيمة لا يتوقف الأمر على امتلاك الأفكار، بل هي القدرة على خلق عملية صقل للأفكار وزخرفتها. فإذا كان خبير التسويق قادراً على فعل ذلك فالاستراتيجية لن تكون ذاك الأمر الصعب، وإن لم يكن قادراً على فعل ذلك فستبقى الاستراتيجية غير مهمة.