على الرغم من الدور البارز للتطور التقني في النهضة الحضارية التي نشهدها، إلا أنه غالباً ما نشهد حروب الأعمال بسبب الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي يضر بالكثير من المنتجات ونماذج الأعمال والصناعات التقليدية. لننظر مثلاً إلى الفرص والفوائد العظيمة التي تولدت عن ابتكار السيارات التي سرعان ما حلّت مكان طرق النقل القديمة التي تسخّر الحيوانات، أو لنشاهد الحرب المستعرة بين الهاتف الجوال والحاسوب على زعامة وسائل العمل والترفيه والتعلم والتواصل الاجتماعي، إضافة إلى تقدم خدمات التخزين السحابي المجانية مثل جوجل درايف ودروب بوكس ووان درايف على وسائط التخزين التقليدية مثل الأقراص المدمجة ووحدة الذاكرة الفلاشية. كما أنّ المنطق نفسه ينطبق على الكهرباء وآلة الطباعة وماكينات الصراف الآلي ونظام التعليم الإلكتروني والخدمات الحكومية الإلكترونية وغيرها.
ما نريد قوله بعد هذه الجولة السريعة هو أنّ التطور التقني ليس المصدر الرئيسي للفرص الكامنة في بيئة الأعمال فحسب، بل بات مضراً بالنسبة إلى الكثير من المنتجات والصناعات. وقد لخص كلاي كريستنسن، أستاذ الإدارة في كلية هارفارد للأعمال، الفرص والمخاطر التي تجلبها الابتكارات الجديدة في نظريته الشهيرة "الابتكارات المزعزعة" (Disruptive Innovation).
مخاطر الأتمتة والذكاء الاصطناعي
يعرف المهتمّون بشؤون التطور التقنى جيّداً قانون مور، وجوهره أنّ قوة الحاسوب وبرامج الذكاء الاصطناعي تتضاعف كل 18 شهراً، ما يبشر بتضاعف قدراتها عن حالها حالياً بمقدار ألف ضعف، مع حلول العام 2030. وتطبيقاً لهذا القانون، يتوقّع إنتاج حاسوب ثمنه 1,000 دولار وتكون قدرته على معالجة البيانات أقوى من ذكاء الجنس البشري مجتمعاً. ويتوقع أن يصل عدد الروبوتات العاملة في المصانع والشركات والمنازل نحو 320 مليون في العام 2025 لتشكل نحو 12 في المئة من القوة العاملة. اعطف على ذلك أنّ الشركات نجحت في إنتاج روبوت نانوي سعره أقل من 5 دولارات وبنفس كفاءة الروبوت التقليدي، فضلاً عن قدرته العمل لسنوات من دون الحاجة إلى تبديل البطارية.
وانطلاقاً مما سبق، أصبح من الشائع استخدام "السيارات ذاتية" القيادة و"الطائرات المسيرة" في نقل الأفراد والبضائع ودوريات الطرق وحماية حدود البلاد، وحتى مطاردة المجرمين والإرهابيين. كما ازدادت وتيرة غزو الروبوتات للمصانع والكثير من المجالات التقليدية مثل الحراسة والضيافة والفندقية وتربية الأطفال والخدمات المنزلية والتوزيع وجمع المعلومات، فضلاً عن استخدامها في الزراعة والرعي وسباق الهجن والتعدين وقطع الأشجار. وتجدر الإشارة إلى أنّ الروبوت لا يحل محل عامل واحد في صناعة السيارات، لكن يتولى أعمال 10 أشخاص في الحد المتوسط.
كما تولّدت وظائف جديدة نتيجة هذه الطفرة التكنولوجية. فالوظائف الـ10 الأولى في العام 2010 لم تكن موجودة أصلاً في العام 2004. كما يتوقع قسم العمل في الولايات المتحدة أن يغيّر الفرد من 10 إلى 14 وظيفة ببلوغه سن الـ38 سنة. وفي نفس السياق، يتوقع أن تختفي 40 في المئة من الوظائف الأميركية بحلول العام 2025.
وبسبب الأتمتة والذكاء الاصطناعي، يتوقع أن تستعر المنافسة بين الشركات، ما يؤدي إلى انخفاض الأسعار وانهيار الشركات الضعيفة. فمن المعروف أنّ المنافسة "لعبة صفرية" تنمو خلالها الشركات التي تتمتع بمزايا تنافسية على حساب الأخرى.
ومن هنا، أصبح الروبوت والسيارات ذاتية القيادة والطائرات المسيرة وما يرتبط بهم من ذكاء اصطناعي أكبر خطر يهدد العمالة والشركات الصغيرة ومتناهية الصغر. لذلك لا يجب التركيز على إعداد قوى عاملة تحل محل العمالة الوافدة بل الاجتهاد في تجهيزهم بالمهارات اللازمة لمنافسة الروبوت.
لذلك نحتاج إلى إعادة هيكلة برامجنا التعليمية وعرض تخصصات علمية لتخريج قوى عاملة مدربة على العمل مع الروبوت والتسويق له، بل وحتى تطويره وبرمجته وصيانته. بمعنى آخر، سوف تحتاج شركات المستقبل إلى خريجين قادرين على منافسة هذه الأشياء الذكية أو على الأقل تسخيرها لصالحهم. وعليه، عرضت العديد من الجامعات الأميركية تخصصاً علمياً في هندسة الروبوت.
إضافة إلى ما سبق، باتت إعادة هيكلة العلوم الإدارية مطلباً ملحاً، مع التركيز على تضمينها آليات لتخريج كفاءات إداريّة مدرّبة تستطيع أن تكوّن رواد أعمال يملكون المهارات الكافية لإنشاء شركات صغيرة خاصة بهم. وبالفعل، أنشأت عدد من الجامعات الأميركية تخصصاً يسمى "ريادة الأعمال". وفي سنوات قليلة، نجح خريجوه في كلية هارفارد في إنشاء 182 شركة برأسمال قدره مليار و200 مليون دولار. كما أنشأ أقرانهم في جامعة ميتشغن 106 شركات، وبلغ رأس مال كل منها 34 مليون دولار، وفق موقع إنتربرونير. ثم دخلت كل من جامعات أريزونا وآركاديا وآكرون وبرادلي حلبة السباق، فعرضت تخصّصاً منافساً يسمّى "إدارة المشاريع الصغيرة"، ويهدف أساساً إلى إنتاج صغار رجال الأعمال.
حروب الاقتصاد التشاركي
لقد أرغمت الشركات، وما خلفها من عمال، على دخول حرب عالمية افتراضية مع جحافل من المتطوعين المسلحين برغبة عنيدة في مشاركة كل ما يملكونه من شبكات وأجهزة وبرامج ومواقع إلكترونية وسيارات ومساكن وأدوات وخبرات ومعارف ورأس مال ديني ورأس مال عاطفي مع المحتاجين. وقد ارتفعت وتيرة الابتكارات المفتوحة، بمعنى تطويرها من قبل متطوعين خارج الشركات. فمثلاً، طورت مجموعات من المبرمجين، نظماً إلكترونية مجانية ومفتوحة كنظام تشغيل الحاسوب لينوكس (Linux)، والموسوعة الشبكية ويكيبيديا، ونظام آندرويد للتطبيقات الرقمية وغيرها. المثير في هذا النمط من الإنتاج هو تفوق بعض منتجاته، بالرغم من كونها مجانية، على نظيرتها باهظة الثمن. فطبقاً لموقع تك رادار، يعتبر متصفح الإنترنت المجاني فاير فوكس أقوى أمنياً من مايكروسوفت إنترنت إكسبلورر الذي طورته إحدى عمالقة البرمجيات في العالم. كما أنّ موقع سك تولز، الذي يرتّب أقوى 100 برنامج لأمن المعلومات، يعتبر برنامج واير شارك (Wireshark) الأقوى، إلا أنه برنامج مجاني طوّر من قبل متطوعين بصورة تعاونية. هذا بالإضافة إلى آلاف التطبيقات والمواقع والخدمات الإلكترونية المجانية.
ومن المعروف في عالم المال والأعمال أنّ شركة نوكيا هلكت وباعت مصانعها لشركة مايكروسوفت بـ7 مليار دولار، بعد أن تقلصت مبيعاتها من 40 في المئة عام 2007 إلى 4 في المئة فقط العام 2014. المثير في هذه الواقعة أنّ إخفاق شركة نوكيا لم يكن بسبب شدة المنافسة مع عمالقة البرمجيات، بل بسبب إغفالها لقوة نظام التشغيل آندرويد وهو نظام مفتوح المصدر طور بصورة تشاركية التقفته شركات آبل وسامسونج.
وفي نفس السياق، نجح قرصان إنترنت أميركي يدعى أدريان لامو في تعطيل خوادم شركات جوجل وياهو ثم شركة مايكروسوفت، وهي شركات عملاقة اعتبرت من المحركات الأساسية لصناعة المعلوماتية بل والرأسمالية المعاصرة برمتها.
ويتوقع أن يصل حجم الاقتصاد التشاركي في الولايات المتحدة إلى نحو 335 مليار دولار بحلول العام 2025. وبالإضافة إلى الابتكارات المفتوحة والتطبيقات المجانية، يشمل الاقتصاد التشاركي مشاركة السيارات (كما في كريم وأوبر)، ومشاركة الخبرات ومشاركة المسكن كما في شركة كاوتش سيرفينغ (Couchsurfing)، ومشاركة وصلة الإنترنت اللاسلكي كما في شبكات اللاسلكي الأهلية (community wireless networks)، وحتى مواقع تدوير المنتجات مثل الحراج دوت كوم السعودى وكريجز ليست الأميركي. وتعتبر نظم المعلومات هي عصب مثل هذه المؤسسات التشاركية.
وكل هذه المعطيات تبرهن أنّ الإنتاج التعاوني أو التشاركي ينافس، بل يهدد المؤسسات العملاقة، وأنّ قدرة الأفراد وإمكانياتهم تتعاظم فتتفوق أحياناً على قدرات تلك المؤسسات رغم إمكانياتها المهولة.
لذلك تفاعل عدد من كليات الإدارة الأميركية مع هذا القطاع المتنامي، فأنشأت تخصص الريادة الاجتماعية، بهدف تنظيم هذا القطاع غير الربحي ومأسسته وتعظيم أثره الاجتماعي والاقتصادي.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا التخصص تألق في ما يزيد على 50 جامعة عالمية منها ييل وأوكسفورد وستانفورد وهارفارد، كما أنّ المفكر الأميركي توماس فريدمان نسج العلاقة المتشابكة بين هذه المتغيرات في كتابه الشهير "العالم أصبح مسطحاً" (The World is Flat).
هجرة الأعمال إلى العالم الافتراضي
من المعروف أنّ العديد من الشركات أخذت تنقل أعمالها كلياً أو جزئياً إلى العالم الافتراضي في ما يعرف اصطلاحاً بـ "المنظمات الافتراضية". فعدد الأفراد الذين يعملون من البيت في الولايات المتحدة الأميركية بلغ 3.3 مليون في العام 2015 طبقاً لمقال نشر في هارفارد بزنس ريفيو. ويناسب ذلك النمط الجديد من الأعمال مجالات كثيرة كالاستشارات والترفيه والمحاماة والصحافة والنشر والاستشارات النفسية والدينية والأسرية والعمل الخيري والتعليم عن بعد والتسويق والبرمجة والتصميم والوساطة التجارية والتجارة الإلكترونية والخدمات الحكومية.
وتتسم المؤسسات الافتراضية بأنّ إدارتها غالباً ما تكون مسطحة وجماعية تختفي فيها الإدارة الوسطى وتتداخل الإدارات والأقسام، بحيث يرأس المدير أكثر من إدارة. كما أنها لا تحتاج إلى مساحات مكانية للعمل، حيث يعمل الفرد عن بعد ويمكنه العمل في أكثر من شركة أو مشروع وفي الأوقات التي تناسبه بما يحقق التوازن بين مهام عمله ومسؤوليات الأسرة. أضف إلى ذلك أنّ العامل أصبح أوفر إنتاجية وأكثر استقلالية وزاد دوره في صناعة القرار وتوثّقت صلته المباشرة مع الإدارة العليا.
وبذلك أصبح من الضروري الاستثمار في البيانات الكبيرة (Big Data) بهدف خلق ما يعرف بـ "سلسلة القيمة الافتراضية"، والتي بدورها تحسن رؤية سلسلة القيمة الحقيقة وتجعل إدارتها أكثر فاعلية وتحول وتحسن العلاقة مع العملاء عن طريق إضافة قيمة جديدة لهم.
وعليه، فإنّ هجرة المنظمات والهيئات الحكومية إلى العالم الافتراضي يعيد هيكلة النظريات والمفاهيم والمداخل الإدارية التقليدية ويفتح جبهة حرب أخرى على كل من العمالة والقيادات التي تمرست على أساليب الإدارة التقليدية، ناهيك عن صعوبة جني الضرائب من هكذا منظمات وعمال.
ومن التحديات الأخرى التي تواجه كلّ من المؤسسات الافتراضية والتشاركية هي حاجتها إلى مداخل خاصة لحل المشاكل وإدارة الموارد البشرية والمعرفة والتغيير وإدارة العلاقة مع العملاء وغيرها. فمثلاً، كيف يمكن بناء الثقة بين العمال وتحفيزهم على المشاركة؟ ما هي الأدوات المناسبة لقياس ومراقبة الإنتاجية ومحاسبة عمال يعملون عن بعد فى عدة مؤسسات؟ كيف يمكن الحفاظ على الخصوصية وأمن المعلومات وتدقيق الأعمال؟ وكيف يمكن حماية حقوق الملكية الفكرية والأسرار التجارية في مؤسسة أفرادها يعملون عن بعد وموزعين على مناطق ومجتمعات وشركات مختلفة؟ ما هي الاستراتيجية المفضلة لإدارة المعرفة في مؤسسة موجودة في الواقع الافتراضي؟
وعليه، عرضت كليات الإدارة والأعمال في جامعات هارفارد وييل وغيرها مساقات دراسية خاصة تركز على إدارة المؤسسات الافتراضية.
وفي الجهة الأخرى من المشهد الافتراضي، تعالت الأصوات المطالبة بمزيد من المزايا للعمال والعدالة في توزيع الأعباء والمهام، فضلاً عن الشفافية والمسؤولية الاجتماعية محلياً وعالمياً. وعلى نفس المنوال، سوف تزداد الحاجة إلى برامج وآليات لإعادة توزيع الثروة بين فئات المجتمع المختلفة وذلك لمنع تركزها في أيدي أصحاب الابتكارات والعاملين في قطاع المعرفة ومطوري المنتجات الرقمية. فطبقاً لتقرير لمجلة فوربس العالمية لعام 2018، بلغت ثروة بيل غيتس مؤسس مايكروسوفت 90 مليار دولار وزاد ملك جيف بيزوس صاحب شركة أمازون عن 112 مليار دولار، أما مارك زوكربيرغ فقد حصد 71 مليار دولار من موقع فيسبوك. وفي هذا السياق، توقع المفكر الشهير بول ماسون انهيار الرأسمالية نفسها في كتابه الشهير "ما بعد الرأسمالية: إرشادات للمستقبل" بسبب الآثار السلبية للتطور التقني على الصناعات ونماذج الأعمال والإيرادات القائمة.
وسوف تزداد المخاطر المحدقة بحقوق الملكية الفكرية للشركات وأسرارها التجارية بسبب زيادة وتيرة مغادرة الموظفين للعمل، فضلاَ عن تنامي حركة تفكيك المنتجات في ما يعرف بالهندسة العكسية أو القرصنة الأخلاقية وتحويلها إلى ابتكارات مفتوحة.
وهكذا يزيد الدور الاستراتيجي لنظم المعلومات ويتسع مدى تسخيرها لإدارة المعرفة والبحث والتطوير وإدارة العلاقة مع العملاء والتوريد والموارد البشرية والمالية وغيرها. فهي المحرك الأساسي للنمو وتنويع الإيرادات وتقليل التكاليف وغزو أسواق جديدة وتحقيق ولاء العملاء وخلق منتجات أو قيمة جديدة لهم.
ومكمن الخطر: أنّ معظم شركاتنا العربية لا تملك خطة استراتيجية لنظم المعلومات ولا سياسة لأمن المعلومات ولا ميثاقاً لأخلاق المهنة. وكل ذلك أصبح من سمات المؤسسات العصرية. والأسوأ من ذلك هو اضمحلال قدراتها على البحث والتطوير ومحدودية قدرتها على الابتكار. ولكي نبرز مدى الخطر المحدق بالشركات العربية، نشير إلى أنّ شركة هواوي حصلت على 4024 براءة اختراع عام 2017، فيما حصلت شركة إنتل على 2637 براءة وحصلت شركة ميتسوبيشي على 2021 براءة في تقرير نشر مؤخراً يرتب أكبر 10 شركات مبتكرة في العالم.
الأرجح أنّ تنمية الابتكارات والاستغلال الأمثل لنظم المعلومات، ولا سيما المجانية منها، والبراعة في إدارة المعرفة والقدرة على تنمية الكفاءات البشرية والتميز في إدارة العلاقة مع العملاء وتنمية أخلاق المهنة كل تلك الأمور سوف تصبح ساحات الحرب القادمة بين المؤسسات، فهل كليات الإدارة تجهز الطلبة لمثل هذه الحروب؟
إذاً وبالحديث عن حروب الأعمال بسبب الذكاء الاصطناعي، يمكننا التكهن من دون مبالغة أنّ نسبة كبيرة من الطلاب والعمال والقادة والشركات سوف يصبحون ضحايا للتقنية إن لم يسخروها لصالحهم.
اقرأ أيضاً: