الزمان 1 ديسمبر/كانون الأول والمكان بوينس آيرس، حيث شرع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في التفاوض طوال ثلاثة أشهر كاملة بشأن صفقة تجارية مع الصين. ويزعم أنه أراد التعامل مع المخاوف النظامية الكبيرة التي تنطوي على سرقة الملكية الفكرية الأميركية والنقل القسري للتكنولوجيا من الشركات الأميركية والطبيعية الحكومية للاقتصاد الصيني. ويبدو الإطار الزمني لمثل هذه الطموحات بالنسبة لمراقبي الأوضاع التجارية عبثياً، لكنها ليست بعيدة المنال كلياً. فإذا تصالح ترامب مع أصدقائه الذين يحتقرهم ويسخر منهم يمكنه التغلب على خصم مشترك للفوز بصفقة مجدية.
وباعتراف الجميع، أمضى ترامب العامين الأوّلين من رئاسته في إقصاء الحلفاء الأميركان التقليديين بقدر ما أقصى المسؤولين في بكين. وقلب إجراءات السياسة الخارجية المميزة لإدارة الرئيس السابق باراك أوباما رأساً على عقب بانسحابه من اتفاق باريس للمناخ وصفقة العقوبات الاقتصادية الإيرانية واتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ. وضربت إجراءاته الحمائية المتعلقة بسياسة التجارة – كالتعرفات المفروضة على الصلب والألمنيوم والتهديد بفرضها على السيارات – صادرات الحلفاء الاقتصاديين أمثال أوروبا واليابان وكندا وكوريا الجنوبية في مقتل. ولأن الإجراءات السياسية لترامب تفت في عضد التحالف المثير للقلق من نواح أخرى، فإنّ رأي الصين في كثير من تلك الإجراءات إيجابي نوعاً ما.
ومع ذلك، فإنّ التغير في النهج محتمل. ففيما يمكن أن يُعتبر تحولاً مذهلاً في مسار سياسة رئاسة ترامب، يمكن أن يضع المفاوضون الأميركيون أيديهم في أيدي نظرائهم المنبوذين في السابق في أوروبا واليابان بغية تشكيل جبهة موحدة، ويمارسون جميعاً ضغوطاً من أجل إجراء إصلاحات صينية. وعلى الرغم من أنّ البيت الأبيض لم يشر بعد إلى أمر كهذا، إلا أنه من المفيد بحث الكيفية التي يجوز أن تتطور بها مثل هذه الاستراتيجية.
سيتقدم تحالف الاقتصادات ذات التوجه السوقي هذا بثلاث مطالبات جوهرية. أولاً، سيتعين على بكين الالتزام بقمع التجسس السيبراني برعاية الدولة وسرقة الأسرار التجارية. ثانياً، ستحتاج الحكومة الصينية أيضاً إلى أن تنأى بنفسها عن نظامها الموروث الذي يقضي بإجبار الشركات الغربية على إقامة مشروعات مشتركة مع شركات محلية، حيث خلق هذا النظام توترات مع الشركات المرغمة على نقل تقنيتها بموجب شروط غير تجارية. وأخيراً، سيتعيّن على الصين خفض إعانات الدعم الصناعية والائتمان الفائض الذي استخدمته لدعم المشروعات المملوكة للدولة.
وحقيقة الأمر أنّ وزيري التجارة الأوروبي والياباني عملا وراء الكواليس – بدعم من الممثل التجاري للولايات المتحدة روبرت لايتهايزر – من أجل وضع قوانين جديدة للتعامل مع جميع موضوعات الاهتمام المشترك هذه مع الصين. وأعلن ثلاثتهم على الملأ عن تلك المبادرة منذ عام تقريباً على هامش مؤتمر منظمة التجارة العالمية الذي عُقِد مصادفة أيضاً في مدينة بوينس آيرس. وكشفت المجموعة الثلاثية الأطراف عن المزيد من التطورات بعد لقائها في مارس/آذار في بروكسل، وفي مايو/أيار في باريس، وفي سبتمبر/أيلول في نيويورك.
وخلق الإعلان الصادر بتاريخ 1 ديسمبر/كانون الأول لحظة مواتية لهذه المجموعة الثلاثية لتضع خطتها موضع التنفيذ. ويستطيع ترامب استغلال تلك اللحظة لكي يلم شمله مجدداً مع رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود جنكر ورئيس الوزراء الياباني شينزو آبي ويواجهون جميعاً الصين. ومن الأرجح أنّ مواصلة العمل ككتلة واحدة سوف يفلح، خاصة لأن العمل على هذا النحو يستغل الحوافز الاقتصادية السليمة.
ولكي نرى لماذا يتعين على الأطراف الثلاثة التعاون معاً، فلنتذكر أنّ المفاوضين الأميركيين حاولوا بالفعل ممارسة ضغوط على بكين من تلقاء أنفسهم. وعلى الرغم من أنّ الأمر لم يلفت انتباه العامة إلا قليلاً بشكل أثار الدهشة آنذاك، فقد أقدمت إدارة الرئيس أوباما على محاولات مستدامة للتفاوض بشأن اتفاقية استثمار ثنائية مع الصين. ولقد سعى هذا المجهود الفردي إلى إبرام اتفاقية لحماية الشركات الأجنبية من ويلات المشكلات ذاتها التي من المفترض أنّ ترامب يريد إصلاحها الآن. ولكانت هذه الاتفاقية عالجت مسألة إكراه الشركات الأجنبية وسرقة الملكية الفكرية الأميركية، فضلاً عن بعض المخاوف المتعلقة بإعانات الدعم الضخمة للصين، عبر قواعد جديدة وإنفاذ أفضل لها.
ومهما بدا ذلك كله جذاباً، فمن المرجح أنّ مقاربة الاتفاقية الأميركية-الصينية الثنائية كان محكوماً عليها بالفشل. فهي مثال بسيط على نحو مُضلل على ما أشاعه عالم الاقتصاد مانكور أولسون الذي تلقى تدريبه في هارفارد تحت مسمى "إشكالية العمل الجماعي". إنّ "الضرر" الناجم عن الممارسات التجارية المجحفة للصين يتشعب ليطال جميع شركائها التجاريين الذين لا يملك الواحد منهم سوى حافزاً ضئيلاً للتصرف. وبالتالي، لا تملك أميركا وحدها حافزاً كافياً لمطالبة الصين بإجراء التعديل الهيكلي الضروري المطلوب لإحداث فارق.
والمشكلة تحمل في طياتها شيئاً من التناقض. فأميركا لن تحصد المنافع كلها إذا تبنت الصين جميع الإصلاحات المطلوبة منها. وبكين ليس بوسعها الارتقاء بحماية الملكية الفكرية على النحو المطلوب الذي سيعود بالنفع فقط على الشركات الأميركية والعلماء والعاملين الأميركيين؛ فجهودها في نهاية المطاف ستعود بالنفع على رواد أعمال ألمان ويابانيين وبريطانيين. وأي اتفاقية صينية تهدف لخفض الإعانات المالية ستحسن الظروف التي تواجه شركات الصلب والألمنيوم العاملة أيضاً في أوروبا واليابان، لا في الغرب الأوسط الأميركي فقط. والعجز المطلق عن منع الآخرين من الاستفادة من الإصلاحات الصينية يعني أنّ أميركا التي ستتحرك وحدها ستميل إلى تقويض استثمارها في الجهود الساعية إلى ممارسة ضغوط لأجل التغيير.
إنّ فهم قيود التفاوض لهو أمر محوري. وبكين تدرك أنّ واشنطن لا تتحلى بالجرأة للتصدي وحدها بقوة كافية لشن حرب استنزاف بالكامل. فلماذا يُجبر عمال شركات السيارات الأميركية في ولاية كارولاينا الجنوبية على حظر تصدير منتجاتهم إلى السوق الصينية نظراً لانتقام بكين من تعريفات ترامب، في حين أنّ المستفيد الوحيد في هذا السياق هم مصانع السيارات في أوروبا أو اليابان؟ لاحظ مزارعو فول الصويا الأميركان أنّ تعرفة خريف هذا العام المفروضة على محصولهم تعني أنّ الصين ستنتقل إلى الاستيراد من المنافسين في دول كالبرازيل.
وحتى لو تجرأت إدارة الرئيس ترامب وألحقت بالمستهلكين الأميركيين أذى التعريفات، فقد لا يجد الرئيس التالي في نفسه الجرأة ليقدم على الأمر نفسه. وبالتالي، يستطيع الصينيون الانتظار وحسب. والمغزى الضمني لمشكلة المنتفعين بالمجانية التي اقترحها أولسون مفاده أنه كما لم يكن لدى أوباما دعماً كافياً لحمل الصين على إجراء تغيير هيكلي، من الأرجح ألا يود الأميركيون تحمل أعباء حرب التعرفة الأحادية الطرف للرئيس ترامب لفترة كافية لتحقيق الغاية المنشودة.
ولا ينبغي عليهم تحملها. فأكبر مخاوف الصين على الإطلاق يتلخص في عمل جماعي من قِبل الأوروبيين واليابانيين والأميركيين. من الأرجح أن تطرح بكين في القريب العاجل على ترامب صفقة تنص ببساطة على الموافقة على شراء المزيد من المنتجات الزراعية أو الصناعية الأميركية، ولكن دون أن تُدم على إجراءات قوية للإصلاح. سيكون هذا العرض مغرياً. فبيع المخزون المتضخم لفول الصويا الأميركي أو السيارات المتراكمة في مواقف الانتظار المكتظة عن آخرها في الموانئ سيروق للرئيس الأميركي الذي أبدى اهتمامه حتى الآن بالصفقات التي تعود بالنفع على الأميركان وحدهم دون غيرهم.
لكن هذا سيكون توجهاً ضيق الأفق. فاستيراد الصين للمزيد من المنتجات الزراعية أو السيارات من أميركا دون إصلاحات قد يأتي ببساطة على حساب طرف آخر. وقد يكون هذا الطرف الآخر صادرات حليف كأوروبا أو اليابان. وبالتالي، لن يحل الاستسلام لإغواء هذا العرض المغري والمسموم في الوقت ذاته المشكلة طويلة الأجل مع الصين، وإنما سيفت أيضاً في عضد الشراكة الثلاثية الهشة بالفعل بقدر أكبر. وسيكون هذا العرض أيضاً بمثابة الطريقة التي ستُخلص بها الصين نفسها من إجراء الإصلاحات النظامية الضرورية التي ستعود بالفائدة على الأوروبيين واليابانيين أيضاً.
وكل ذلك على فرض أنّ إدارة الرئيس ترامب جادة حيال إصلاح العلاقة التجارية مع الصين. ومن الممكن أن تكشف التسعون يوماً المقبلة أيضاً عما إذا كانت نية الإدارة الأميركية الحقيقية بدلاً من ذلك تقويض صعود نجم الصين بناءً على اعتبارات أمن قومي ملموسة أو مخاوف غير اقتصادية أخرى.
والآن، نجد أنّ احتمالية العمل الجماعي في العامين الأوّلين لرئاسة ترامب مُستبعدة. ومع ذلك، فإنّ فرصة استغلال اللحظة الراهنة سانحة الآن بانتظار من يغتنمها. والفشل في اغتنامها قد يكون مضيعة لأفضل فرصة لدى ترامب، وربما كانت أيضاً الوحيدة المتبقية في هذه القضية.
وبخلاف التصالح مع الحلفاء، فإنّ مصدر الجاذبية المحتمل لهذا التغير في مجرى الأحداث سيتمثل في البيان الذيتعلمه ترامب من إخفاقات سلفه. وذلك لأن إدارة الرئيس أوباما حاولت التفاوض مع الصين بشأن إصلاح هيكلي، غير أنها أقدمت على محاولاتها الفاشلة في نهاية المطاف في هذا الصدد وحدها تقريباً أيضاً.