متى تتولى زمام المبادرة في العمل ومتى ينبغي ألا تفعل؟

6 دقائق

يَكثر الطلب على الموظفين المبادرين، ومن السهل أن نفهم السبب. فعندما يتعلق الأمر بإحداث تغيير إيجابيّ، فإنّ هذا النوع من الموظفين لا ينتظر أن يُطلب منه أن يأخذ زمام المبادرة. كما تؤكد الدراسات أن الأشخاص المبادرين، مقارنةً بأقرانهم من الموظفين الأقل توجهاً للمبادرة، يتسمون بأنهم أفضل أداءً وأكثر مساهمة وابتكاراً من غيرهم.

ولكن اتخاذ زمام المبادرة قد يسلك اتجاهاً خاطئاً. حيث تشير الدلائل مؤخراً إلى أنه إذا لم يتم توجيه السلوك الاستباقيّ صوب الاتجاه الصحيح، فقد يؤدي ذلك إلى نتائج عكسية وقد يكون له تبعات سلبية غير مرغوبة على المؤسسات والقادة وأعضاء فريق العمل والأفراد. وقد سُميت هذه الديناميكية باسم "مفارقة السلوك الاستباقيّ": حيثما يُعتبر السلوك الاستباقيّ مرغوباً، ولكن فقط إن كان يتوافق تماماً مع توقعات الشخص المسؤول. على سبيل المثال، قد يبادر الأشخاص بإحداث تغيير خاطئ وينتهي الأمر بتكلفة مالية تتكبدها مؤسساتهم، أو قد تكون لديهم الرغبة في التفاوض للحصول على مسؤوليات مهنية أفضل لأنفسهم، بينما يؤدي ذلك إلى مجرد التخلص من المهام الموكلة إليهم بنقلها للغير. وقد تؤدي بعض هذه "المفاجآت" الاستباقية إلى استياء الزملاء والقادة على حد سواء، كما أن ردود الفعل السلبية الناتجة عن مثل هذه المبادرات قد تضر بالشخص المبادر أيضاً.

بعبارة أخرى، لأخذ زمام المبادرة أسلوبان، أحدهما صحيح والآخر خاطئ.

في بحثنا الأخير، حللنا 95 دراسة تستكشف الحالات التي يؤدي فيها سلوك الموظف المبادر إلى نتائج سلبية أو إيجابية، كما أجرينا مقابلاتٍ مع 25 موظفاً في مختلف القطاعات لاكتشاف كيف تكون مبادراً بطرق تحقق أكبر قدر ممكن من النجاح. وبناءً على تحليلنا، حددنا ثلاثة عناصر تتوافق بشدة مع "نظرية التوازن في الحكمة" (balance theory of wisdom) التي أسسها عالم النفس روبرت ستيرنبرغ. تشير النظرية إلى أنّ الحكمة تنبع من تحقيق التوازن ما بين مصالح الفرد، ومصالح الآخرين، ومصالح المجتمع في نطاقه الأوسع. إذن فما نطلق عليه "السلوك الاستباقي الحكيم"، أو الأسلوب الصحيح للمبادرة، ينبغي أن يتضمن العناصر الثلاثة التالية:

إدارة الذات. أن تكون مبادراً هو أمر يتطلب قدراً كبيراً من الوقت والجهد، لذلك من المهم أن تدرك أنّ بعض المشكلات ليست ضمن اختصاصك لتقوم بحلها، كما أن تحمل الكثير جداً من المبادرات أو تولي مبادرات كبيرة للغاية قد يؤدي بسهولة إلى الإرهاق المهنيّ.

تعد جيهان، إحدى من أجرينا معهم مقابلات شخصية، مثالاً على ذلك، فقد كانت تعمل مستشارة لدى شركة استشارية في مجال تقنية المعلومات، واعتقدت أنّ الحصول على شهادة أيزو في أنظمة الإدارة قد يعود بالنفع على الشركة، عرضت جيهان أن تقود مبادرة على مستوى الشركة لتحقيق ذلك، الأمر الذي لم يكن سهلاً على الإطلاق، لأنّ مقاومة الموظفين لهذه الفكرة كانت مرتفعة، بما فيهم المدير العام. لكنها بذلت الكثير من الجهد لتحقيق ذلك وعملت لساعاتٍ طويلة على مدار 12 شهراً لإشراك الجميع في هذا العمل. وفي النهاية نجحت في تنفيذ فكرتها، ولكن الأمر كان مرهقاً للغاية، لدرجة أنها أصبحت غير واثقةٍ في الوقت الحالي مِمّا إذا كانت ستتخذ زمام أيّ مبادرات في المستقبل. تقول جيهان: "لقد كانت النتائج جيدةً دون شك، ولكنني غير واثقة أن الأمر كان يستحق الجهد الذي بذلته على حساب صحتيّ".

لذلك فكّر جيداً في المبادرات التي تستحق عناء اتخاذها وقيادتها، وقبل أن تتحمل أياً منها، اطرح الأسئلة التالية: هل لديّ ما يكفي من الاهتمام الشخصيّ والخبرة المهنية لتولي زمام هذه المبادرة؟ هل لديّ الوقت والموارد الكافية لتنفيذها؟ اسمح للآخرين بتولي بعض المبادرات، وإذا قررت أن تتولى إحدى المبادرات، فعليك حينها إدارة وقتك على النحو الأمثل. خطط جيداً لكيفية البقاء على المسار الصحيح عند مواجهة التحديات، وتأكد من حصولك على الدعم اللازم، وواجه أي محاولاتٍ لإبطاء المشروع برفضها بمنتهى الثقة.

مراعاة الآخرين. التغيّرات التي تُجريها على عملك تؤثر غالباً على فِرق العمل الأخرى. ومع ذلك، فإنّ الكثير من الموظفين المبادرين لا يهتمون إطلاقاً بالكيفية التي قد يؤثر بها سلوكهم الاستباقي على الآخرين.

على سبيل المثال، أجرينا مع فاتن، وهي مستشارة في الموارد البشرية، مقابلة شخصية، وقد التحقت بالعمل مؤخراً لدى إحدى شركات النفط والغاز. انزعجت بعد مباشرة عملها الجديد، لعلمها بأنّ الشركة لا تزال تستخدم الأسلوب اليدويّ لإدخال بيانات سجلات الموظفين. فقد رأت أنّ هذا الأسلوب قديم، ومُستهلك للوقت، ولا يتسم بالمسؤولية. ولذلك فقد أعربت عن رغبتها بتولي مسؤولية إدخال نظام جديد إلى الشركة. ولكن هذه المبادرة تطلبت من زملائها تخصيص ساعاتٍ عديدة من أيام العمل لتقدير البيانات، فضلاً عن أعباء العمل الثقيلة بما يكفي. القليل من الموظفين فقط كانوا مستعدين لذلك، مما دفع فاتن إلى التخلي عن المبادرة قبل اكتمالها.

تعتبر قصة فاتن مثالاً توضيحياً رائعاً على أهمية مراعاة وجهات نظر الآخرين قبل العمل على أي فكرة جديدة. اِسأل، قبل أن تنفِّذ: من هم الأشخاص الذين ستؤثر عليهم مبادرتي؟ ومن هم الأشخاص الذين ينبغي عليّ إشراكهم في العمل لضمان نجاح المبادرة؟ بمجرد الإجابة على هذه التساؤلات، فكّر في الكيفية التي ستبلغ بها أهم الأشخاص المعنيين بهذه المبادرة، وما الخطوات التي ينبغي عليك اتخاذها لإعدادهم للعمل. فبدون دعم الآخرين من المرجح أن تخفق، مهما كنت استباقياً.

ولكن مفهوم "الآخرين" لا يقتصر على الزملاء فقط. حيث يمكن "للمبادرات غير الحكيمة" أن تؤثر سلباً على العلاقة ما بين الموظف والمدير. تحدثنا مع ممدوح، وهو مهندس إنتاج خاض هذه التجربة شخصياً، حيث ابتكر فكرة لتحسين الإنتاجية في شركته السابقة، المتخصصة في صناعة الطوب، وذلك بتمكين الأفران من مواصلة العمل لفتراتٍ زمنية أطول. جرب ممدوح العمل على هذه الفكرة عندما كان مديره للإنتاج في إجازة، وقد نجحت الفكرة بالفعل في تحقيق مستوى قياسيّ من الإنتاجية. ولكن شعر مدير ممدوح حال عودته بأنه قد قُوِّض أو أُضعف، فقرر أن نجاح فكرة ممدوح كان مجرد حظ، وألغى التغييرات التي أدخلها ممدوح على العمل.

ولكن تُعتبر حالة ممدوح فريدة من نوعها، حيث أنه ومديره لم يتصرفا بحكمة. وعلى الرغم من أن ممدوح لم يفكر في تأثير تصرفاته على مشرفه، فإنّ أسلوب مشرفه المُتحكّم أيضاً هو ما جعل ممدوح متردداً في مشاركة فكرته منذ البداية. فإذا أخضع المدراء كافة الأفكار الجديدة لإجراءات اعتماد طويلة تتضمن عدداً كبيراً جداً من الموافقات، حينها سيتم كبح جماح الابتكارات قبل حتى أن تبدأ. ففي حين أن الأساليب التحكمية تقلص "مخاطر" المبادرات الاستباقية، إلا أنها تقوض روح المبادرة نفسها. بالتالي ينبغي على المؤسسات الراغبة في تشجيع الابتكار، أن تخلق جواً عاماً من الثقة، يشعر فيه الموظفون بالتشجيع على مشاركة أفكارهم. فلو شعر ممدوح بالارتياح والثقة تجاه إعلام مديره بفكرته منذ البداية، فربما كانت هذه المبادرة قد كُللت بالنجاح.

التوافق مع أهداف المؤسسة. إذا لم تكن الفكرة متوافقة مع استراتيجيتك الرئيسية أو الرسالة العامة التي تتبناها مؤسستك، فمن المرجح أن تكون هذه الفكرة مجرد مضيعة للوقت والموارد.

للتوضيح، تخيل هذا السيناريو الافتراضي (وهو سيناريو ليس بغريب في العديد من مجالات العمل التي خضعت لأبحاثنا). حضر إياد، رئيس إدارة تطوير المنتجات الجديدة، إحدى فعاليات بناء العلاقات وتعلم من خلالها أنّ (مخططات الطوابق المفتوحة) تُمثل التوجه السائد في الوقت الحالي. وقد كان متحمساً لأنّ أسلوب التصميم هذا قد يعزز التعاون بين الأقسام المختلفة، ومن ثَمّ فقد أقنع مديره بإعادة تصميم طابق كامل في مبنى الشركة، وقد كانت التكلفة هائلة. ولكن للأسف رأى الكثير من الموظفين بأن الطابق بتصميمه الجديد مليء بالمشكلات، وتحديداً الضوضاء والتشتت المستمرَّين. حتى أن العديد منهم انتقلوا إلى طوابق أخرى في المبنى. لو كان إياد قد انتبه بشكل أكبر إلى طبيعة المهام اليومية التي يقوم بها فريقه، والتي تتطلب قدراً كبيراً من التركيز والانتباه، لكان بإمكانه أن يركز جهوده بشكل حكيم على تحسين التصميم الأصلي للطابق لتعزيز الإنتاجية.

ما هو الدرس المستفاد مما تقدم؟ عند طرح أي فكرة جديدة، اسأل نفسك عما إذا كان هذا التغيير ضرورياً في الموقف الراهن، وإن كان كذلك، فما هو نوع التغيير الملائم لهذا السياق. تجنب التغيير لمجرد التغيير. وفكر في كيفية تنفيذ أفكارك بفاعلية وفقاً لأهداف مؤسستك.

الأهم من ذلك، هو المزيج المتوازن من العناصر الثلاثة السابقة، التي تجعل التحلي بروح المبادرة سلوكاً حكيماً بالفعل. فالشخص الذي يتخذ خطوات استباقية لتحقيق منفعته الخاصة، ولكنه نادراً ما يراعي أوضاع المؤسسة أو احتياجات الآخرين، لا يُعتبر تصرفه حكيماً على الإطلاق، ومن غير المرجح أن يؤدي إلى أي نتائج فعالة. وبالمثل، فإن الشخص الذي يحرص تماماً على مراعاة الآخرين، ولكنه يفرط في العمل على تنفيذ مبادراته بشكل مبالغ فيه إلى حد إنهاك نفسه، فلن يكون ناجحاً أيضاً. بالتالي فإنّ المبادرات الحكيمة تحرص على مراعاة العقلانية والحكمة في التصرف، وذلك بدراسة الأمور الجدلية أو العناصر التي غالباً ما تسبب توترات، وفي هذه الحالة تتمثل هذه العناصر في تحقيق التوازن بين مختلف المصالح الداخلية والخارجية.

يمكن للمؤسسات أن تساعد في ذلك بتدريب موظفيها على كيفية ممارسة العناصر الثلاثة للمبادرات الحكيمة بأسلوب متوازن. وينبغي تدريب المدراء بالأخص على أن يكونوا مثلاً يُحتذى به في ممارسة هذه السلوكيات، وتدريب موظفيهم لفعل الأمر نفسه. كما يمكن لمسؤولي التوظيف والأخصائيين في الموارد البشرية المساعدة في ذلك بمراعاة قدرة المتقدمين للوظائف على تحقيق التوازن بين عوامل الحكمة الثلاثة المذكورة. حيث ينبغي ألا تركز الأسئلة المطروحة في مقابلة العمل السلوكية على مجرد معرفة ما إذا كان المرشح مبادراً، ولكن أيضاً على مدى حكمة الإجراءات الاستباقية التي يتخذها هذا الشخص. ومن خلال تعزيز المبادرات الحكيمة وتيسير طرحها، يمكن للمؤسسات دعم الموظفين الذين يتخذون زمام المبادرات المناسبة وينفذونها بأساليب مناسبة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي