سألت صحيفة "نيويورك تايمز" سؤالاً مثيراً للجدل في مقالة نشرتها قبل 100 سنة من اليوم بعنوان: "هل يمكن الاستغناء عن مندوبي المبيعات؟" في تلك المقالة، يشرح أحد خبراء التسويق كيف ستتسبب التبدلات المجتمعية في انتهاء عهد مندوبي المبيعات المتنقلين من باب إلى باب. وأوردت المقالة حول فكرة توقف عمل مندوبي المبيعات: "يُحقق التسويق نتائج أفضل من الطريقة الشخصية القديمة في التماس المبيعات"، وتابعت: "كانت الأمور مختلفة في قديم الزمان قبل أن تحوّل الخطوط الحديدية المزارع إلى مدن، ويعد مندوب المبيعات الجوال وسيطاً ويؤدي تطور الأعمال اليوم تدريجياً إلى إنهاء الحاجة إلى الوسطاء".
هل ستندثر وظيفة مندوب المبيعات؟
إن هذا التوقع العائد إلى عام 1916 لم يتحقق. على مدار الـ 50 سنة التي تلت هذه المقالة، استمرت أعداد فرق المبيعات بالازدياد ولكن ومع ذلك الازدياد استمر النقاد بتوقع أن مجال المبيعات سيشهد تراجعاً عما قريب. في كتاب نُشر عام 1962 بعنوان "مندوب المبيعات المُتلاشي" (The Vanishing Salesman) كتب المؤلف إي بي ويس عن "العصر الجديد، وعصر الاختيار الذاتي والخدمة الذاتية" وكيف ستنتهي الحاجة إلى مندوبي المبيعات التقليديين مع استخدام البيع المسبق وترويج العلامة التجارية والإعلانات. (كي نكون منصفين بحق ويس، يجب أن نذكر أنه توقع أيضاً أن وظائف المبيعات لن تختفي وإنما ستتغير في بعض القطاعات). لكن عدد مندوبي المبيعات استمر في الازدياد.
ننتقل إلى الحديث عن عام 2015. توقعت شركة "فورستر ريسيرتش" (Forrester Research) أنه لن تعود هنالك حاجة إلى مليون مندوب مبيعات في مجال التعامل التجاري بين الشركات بحلول عام 2020 وأنهم سيفقدون وظائفهم لصالح التجارة الإلكترونية. هل هذا توقع آخر لن يتحقق؟ أم هل تختلف الحالة جذرياً هذه المرة؟ هل سيكون هنالك حقاً عدد أقل من مندوبي المبيعات في مجال التعامل التجاري بين الشركات في عام 2020؟
بلا شك، سينخفض عدد مندوبي المبيعات لدى بعض الشركات بعد 4 سنوات من يومنا هذا. لكن سيصبح لدى شركات أخرى مجموعة من مندوبي المبيعات، ويشرح لنا التاريخ السبب وراء ذلك.
اعتمد المشترون على مندوبي المبيعات لمساعدتهم خلال رحلة الشراء على مدى قرون. في الأيام الأولى للولايات المتحدة، اعتمد المشترون (اغلبهم من المزارعين) ممن يحتاجون إلى البضائع المنزلية على مندوبي المبيعات المتنقلين في كل خطوة من عملية الشراء. كان المشترون يتعرفون على المنتجات لأول مرة عند وصول مندوب المبيعات المتنقل إلى بابهم. استفاد المشترون من مساعدة مندوبي المبيعات في تقييم أي المنتجات سيشترونها، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالتقنيات الجديدة كالساعات وآلات الخياطة. واعتاد المشترون أن يشتروا مباشرة من مندوب المبيعات واعتمدوا عليه ليتمم الطلبية من خلال تسليمه المنتجات في عربة أو على ظهر حصان.
التطور الزمني لمهنة المبيعات
على مر السنين، مكَّنت الابتكارات في التوزيع والوسائط والتقنيات المشترين من استخدام قنوات غير فرق المبيعات في عدة خطوات من رحلة الشراء. في أوائل القرن العشرين، أدت التطوّرات في النقل والتخزين والتوزيع إلى ابتعاد مهمة التسليم الفعلي للبضائع عن مندوبي المبيعات. في أواخر القرن العشرين، سمح انتشار خيارات الوسائط بأن يتعرف المشترون على المنتجات قبل الحديث مع مندوبي المبيعات، وكان حال ذلك أكثر في التعامل بين الشركة والمستهلكين ولكنه كان موجوداً أيضاً في التعامل التجاري بين الشركات. أدت الابتكارات إلى إلغاء بعض من مسؤوليات مندوبي المبيعات، ولكن في الوقت ذاته، ظهرت مسؤوليات جديدة وتشكلت أنواع جديدة بالكامل من الشركات والقطاعات.
يزداد في يومنا استخدام المشترين للإنترنت لتقييم خيارات الشراء في كل من أسواق التعامل بين الشركة والمستهلكين وأسواق التعامل التجاري بين الشركات. وبالتحديد في التعامل التجاري بين الشركات، حيث يستشير المشترون الصفحات والمقالات على الإنترنت والفيديوهات والمستندات التعريفية بالمنتجات والمدونات ومصادر وسائل التواصل الاجتماعي (سواء داخل شركتهم أم خارجها). يُمكّن الإنترنت المشترين في الشركات أن يتعرفوا على المنتجات ويقارنوا بينها ومن ثم أن يقرروا ما سيشترونه، وفي الغالب دون مساعدة مندوب مبيعات.
لكن هذا لا يعني أنه سيكون هنالك عدد مندوبي مبيعات أقل في مجال التعامل التجاري بين الشركات. مع ابتعاد بعض خطوات الشراء عن مندوبي المبيعات لتصبح عبر الإنترنت وقنوات أخرى، ستنشأ تعقيدات وشكوك جديدة لدى المشترين. كما كان عليه الحال في الماضي، سيستمر الابتكار داخل الشركات وعلى مدى قطاعات كاملة في إنتاج عروض وطرق جديدة للشراء لا يعرفها المشترون بعد. ستُنشئ فجوة المعرفة هذه حاجة إلى مندوبي مبيعات يساعدون المشترين في التعامل مع المجهول، وذلك حتى في واقعنا اليوم.
على سبيل المثال، بين عامي 1995 و2013، تخلصت أكبر 5 شركات مستحضرات صيدلانية من أكثر من 55% من مندوبي مبيعاتها في الولايات المتحدة. لكن خلال الفترة الزمنية ذاتها، وظّفت شركات جديدة مندوبي مبيعات. أنشأت شركة "جوجل" الآلاف من وظائف المبيعات، من ضمنها فريق مبيعات داخلية كبير لبيع الإعلانات على الإنترنت التي تستهدف مناطق محلية إلى الشركات الصغيرة. وظّفت شركة "ديل" الآلاف من مندوبي المبيعات أيضاً في سعيها إلى مساعدة الزبائن في فهم عالم التقنيات المتغير وفي قيامهم بعمليات الشراء المعقّّدة التي تتضمن الأجهزة والبرامج والخدمات. لم يتقلص إجمالي عدد وظائف المبيعات في التعامل التجاري بين الشركات.
نتوقع أن يستمر هذا التوجه في الفترة الممتدة من يومنا وحتى عام 2020. أجل، ستتوقف المئات من أعمال مبيعات التعامل التجاري بين الشركات لأن التجارة الإلكترونية تؤدي دوراً أكبر في خطوات الشراء الواضحة وكذلك في بيع المنتجات التي ليست معروفة بشكل واسع. ولكن مع تراجع التعقيد والشك في بعض الحالات، تظهر تعقيدات وشكوك في أماكن أخرى، وبوجه خاص في قرارات الشراء الجوهرية للأعمال، حيث إن هذا يزيد من أهمية مندوبي المبيعات. توظف العديد من الشركات مندوبي مبيعات بشراسة، مثل شركة "فيسبوك"، والقطاعات مثل قطاع الخدمات السحابية وكذلك المئات العديدة من الشركات الناشئة التي تقدم البرمجيات كخدمة في مجال التعامل التجاري بين الشركات.
مع تسارع وتيرة الابتكار وتشكُلِ المشاريع اليوم، نعتقد أنه من المرجح أن يزداد إجمالي عدد وظائف مبيعات التعامل التجاري بين الشركات على مدى السنين القليلة القادمة بدل أن يتناقص ولن يتم طرح فكرة توقف عمل مندوبي المبيعات، إلا في حال مرور فترة انكماش اقتصادي كبير. حيث إن التعقيدات والشكوك في الاقتصاد المعاصر لن تزول.