غالباً ما يجري التعامل مع محاولات توقع الأفكار الثورية المرتقبة في قطاع الأعمال باعتبارها شكلاً من أشكال تحليل الاتجاهات. لكن هذا المسلك مضلل، لأنك إذا انتظرت إلى أن يستقر الاتجاه، فستجد أن المنافسين قد سبقوك على الأرجح إلى انتهاز أي فرص يتيحها لتحقيق المكاسب. وعلى الرغم من أن الشركة قد تحتاج إلى مسايرة الاتجاهات في خطط عملها، فإن ذلك قد يكون مرتبطاً بمحاولة اللحاق بالمنافسين أكثر من ارتباطه باكتساب ميزة تنافسية.
وللاستفادة من الاتجاهات الناشئة، يجب على الشركات تحديدها في مراحلها الأولية، ولا نعني بهذا المجازفة بشيء لا يزال في علم الغيب، بل نقصد ركوب الموجة قبل اشتهارها أو ذيوع صيتها على نطاق واسع. ستظهر المؤشرات الأولية في هذه المرحلة على هيئة حالات شاذة تخرج عن المألوف وتتخذ شكل إشارات ضعيفة مفاجئة على نحو ما، ولكنها ليست واضحة تمام الوضوح من حيث النطاق أو الأهمية. وغنيٌ عن البيان أن الحالات الشاذة لا تتحول إلى اتجاهات ذات مغزى في معظم الأحيان، ولكن بعضها يتحول إلى اتجاهات حقيقية، والشركات التي تنجح في تحديدها وتفسيرها مبكراً تحصل على ميزة تنافسية لا تضاهى. فعلى سبيل المثال، ركز مؤسسو شبكة "إنستغرام" في البداية على مشاركة الصور عبر تطبيق التعارف الاجتماعي متعدد الوظائف الذي كان يُطلق عليه آنذاك "بيربن" (Burbn)، بعد أن لاحظوا النشاط الكبير للاستفادة من هذه الميزة.
ونقدّم في الصفحات التالية عملية محددة لاكتشاف الحالات الشاذة القادرة على إحداث تأثير إيجابي في الشركات، ولكنها أكثر من مجرد عملية آلية: إذ يتطلب اتباع مثل هذه الاستراتيجية الانفتاح على الأفكار غير المتوقعة التي قد تقلب الافتراضات المترسخة رأساً على عقب. فلن تستطيع وضع يدك على مناجم الذهب الكامنة في البيانات إلا إذا كنت على استعداد لإلقاء نظرة إلى عملك من خارج الحدود المتعارف عليها والتشكيك في نماذجك الحالية واحتضان الغموض. ودعونا نلق نظرة على ما تنطوي عليه هذه العملية.
فكرة المقالة بإيجاز
المشكلة
تترسخ الاتجاهات وتتعمّق قبل أن تتنبه لها الأغلبية الكاسحة من الشركات، وبالتالي يسبقها المنافسون إلى اغتنام الفرص المتاحة.
لماذا يحدث ذلك؟
تعجز الشركات في معظم الأحيان عن إدراك الإشارات المبكرة الضعيفة التي تشير إلى ظهور اتجاه ما لأن المدراء يوجهون كل تركيزهم إلى محيطها الداخلي، ولا يبدون أي استعداد لتحدي افتراضاتهم، وينزعجون من الغموض.
الحلّ
يمكن للمدراء استخدام أدوات تحليلية جديدة لإظهار الحالات الشاذة وتحديد الحالات التي توفر فرصاً سانحة. ويجب عليهم تسمية الاتجاهات وصياغة سردية مقنعة حول هذه الفرص والاستعداد لاختبار الاتجاهات الناشئة بسرعة وتشكيلها بما يصب في مصلحتهم.
يتيح الغموض فرصاً مواتية. وإذا كانت الإشارة واضحة، فسيراها الجميع ويتصرفون وفقاً لها، ما يجعلها محايدة من الناحية التنافسية.
عقل منفتح
نعجز عادةً عن رؤية ما لا نبحث عنه، لذلك غالباً ما تضيع علينا فرصة ملاحظة الحالات الشاذة. حتى إذا لاحظناها وانتبهنا لها، فقد نتجاهلها ونعطيها ظهرنا، ويرجع هذا في الأساس إلى استعداد الأفراد والمؤسسات لإظهار الانحياز التأكيدي من خلال التركيز على ما يتفق مع نماذجنا العقلية والنفور من الأشياء التي تخالفها. في الواقع، غالباً ما يتم استخدام عبارة "حالة شاذة" لرفض بيانات محددة باعتبارها بيانات غير تمثيلية وغير ذات أهمية. وحتى إذا لم نتجاهل الحالات الشاذة، فقد لا نحاول تفسيرها أو سبر أغوارها. لذا يجب أن يكون المدراء على أتم استعداد لكلٍّ مما يلي:
إلقاء نظرة من الخارج. عند نجاح الشركات في تحقيق النمو، فإنها تجنح إلى الانطواء على نفسها، حيث ينصب تركيز مدرائها على العمليات الداخلية بدلاً من التغيرات التي يشهدها العالم الخارجي. ويمكن تشبيه الشركة بكرة يجري نفخها، حيث يؤدي تمددها إلى ازدياد حجمها الداخلي بشكل أسرع من تمدد مساحة سطحها الخارجي، ونتيجة لذلك تتركز قوى الضغط على محيطها الداخلي. لكن الحالات الشاذة التي قد توحي باحتمالية نشوء اتجاهات جديدة تظهر في العالم الخارجي. وكما قال الرئيس التنفيذي السابق لشركة "إنتل"، أندي غروف: "عندما يحل الربيع، يذوب الجليد في الأطراف أولاً لأن هذا هو المكان الأكثر عرضة لتغير الطقس".
وبالتالي يجب على المدراء النظر إلى الأمور من منظور خارجي، ولا يعني هذا فهم سلوكيات العملاء العاديين فقط، بل وفهم العملاء غير العاديين والعملاء المتلكئين أيضاً، إلى جانب فهم غيرهم من شرائح المستهلكين الذين لا يتعاملون مع الشركة في الأساس. إذ ينطوي الأمر على مراقبة كلٍّ من المنافسين المعروفين والمنافسين الجدد الذين قد يمتلكون نماذج مختلفة أو يأتون من قطاعات مختلفة تماماً. كما يستلزم مواصلة مراقبة التغيرات الطارئة في السياق الاجتماعي والسياسي والتكنولوجي التي قد تسهم في ظهور احتياجات جديدة.
وتستطيع الشركات تكوين فكرة أوضح عن العالم الخارجي من خلال تشجيع المدراء والموظفين على تخصيص المزيد من الوقت للتعامل المباشر مع العملاء المحتملين. وتستطيع أيضاً الحصول على البيانات من مصادر جديدة، مثل نصوص وسائل التواصل الاجتماعي، للتعرّف على التحولات في ميول المستهلكين أو سلوكهم. إذ يمكنها الاستفادة من أدوات جمع البيانات الحديثة، مثل أجهزة الاستشعار أو المنصات الرقمية التي يستخدمها العملاء مباشرة، غالباً من خلال التعاون المشترك في بيئات العمل متعددة الشركات. ويمكنها دراسة التغيير الطارئ على مستوى فترات زمنية متعددة، بدايةً من الفترات الزمنية بالغة القصر التي تتيح إمكانية ملاحظة الانحرافات الجديدة، وصولاً إلى الفترات الزمنية بالغة الطول التي تنم عن تحولات مهمة ولكنها بطيئة الحركة.
تحدي الافتراضات والنماذج العقلية. لا يكفي الحصول على معلومات جديدة لتحديد الاتجاهات المحتملة. فنحن نبني نماذجنا العقلية للعالم من حولنا استناداً إلى ما يمكننا استشعاره، لكن هذه النماذج لا تعبّر عن الحقيقة المطلقة، بل هي مجرد تمثيل لهذه الحقيقة، وهي لا تتغير تلقائياً عندما يتغير الواقع. وقد نقع في حبائلها بسهولة، فنظل متمسكين بها مهما حدث، وبالتالي لا نلاحظ دلالات المعلومات الجديدة أو نتجاهلها.
فعلى سبيل المثال: عندما أتيحت الفرصة لشراء براءات اختراع الهاتف بعد اختراعه بوقت قصير، يُقال إن ويليام أورتن، رئيس شركة "ويسترن يونيون" (كبرى شركات التلغراف آنذاك)، رفض الجهاز واصفاً إياه بأنه مجرد "لعبة كهربائية". كان الرأي السائد في ذلك الحين أن استخدامات الهاتف ستقتصر على تحديثات البيانات القصيرة، وهو الغرض الذي يؤديه التلغراف وسيظل يؤديه بشكل أكثر كفاءة على مر الزمان. وهكذا لم يتغير نموذج أورتن العقلي بما يسمح بظهور الإمكانيات الجديدة للهاتف، مثل إجراء المكالمات المطوَّلة عن بُعد، حتى بعد مرور عامين عندما أصبح اتجاه استخدام الهاتف جلياً للجميع.
وينطوي تحديد الحالات الشاذة على أكثر من مجرد التعرف على الإشارات الجديدة بصورة أفضل، فهو يتطلب أيضاً القدرة على تخيل الآثار المحتملة لتلك الإشارات. يجب أن ندرك أن النماذج ليست سوى نماذج، ومن ثم نتحلى بالمرونة اللازمة لتحديثها بمرور الوقت. وهذا يعني التشكيك في الافتراضات وطرح الأسئلة عما إذا كانت الحقيقة بخلاف ذلك، إلى جانب اعتماد نماذج متعددة، بل وربما متناقضة، واختبار زوايا مختلفة والتفكير في المقارنات لتوسيع نطاق النماذج المتاحة حالياً.
احتضان الغموض. لا تشير الحالات الشاذة عادةً إلى أفعال واضحة. فهي تقع في فجوات لا تجد تفسيرات وجيهة من خلال النماذج الحالية، وقد لا تكون البيانات التي تدعمها واضحة المعالم. وغالباً ما تواجه الشركات القائمة صعوبة في تقبل هذا النوع من الغموض، كما يتضح من القول المأثور: "كل ما يمكن قياسه يمكن إدارته".
لكن الغموض يتيح فرصاً مواتية. وإذا كانت الإشارة واضحة، فسيراها الجميع ويتصرفون وفقاً لها، ما يجعلها محايدة من الناحية التنافسية. يقول خبير الاستراتيجيات العسكرية كارل فون كلاوزفيتز: "لا يمكن القبول [بمحاولات] تسليح قادة الحرب بالمبادئ أو القواعد أو حتى الأنظمة [التي] يحاول البعض تصويرها باعتبارها العوامل الوحيدة التي يمكن حسابها رياضياً، فهي مرفوضة تماماً... لأنها تهدف إلى حساب قيم ثابتة، في حين أن كل شيء في الحرب غير مؤكد ومتغير باستمرار". وبالمثل، يجب على القادة التصرف استناداً إلى المعلومات غير المؤكدة والمتغيرة حتى يتمكنوا من تخيل الاتجاهات والاستجابة لها قبل اتضاحها.
وهذا يتطلب اتباع نهج متغير لتقييم الفرص واغتنامها. فمن الأخطاء الشائعة التي ترتكبها الشركات الكبيرة اشتراط دعم أي مبادرة جديدة بتحليل جامع مانع لعائد الاستثمار مع رسم مسار واضح للعمل يمكن من خلاله حساب العائد الكمي، ولكن نظراً لحالة الغموض التي تشوب الاتجاهات الناشئة ونظراً للميل إلى "الاعتماد على المسار السابق" (حيث يستمر ما حدث في الماضي بسبب مقاومة التغيير)، فنادراً ما يكون مثل هذا التحليل ممكناً. وكما قال رائد الأعمال والمؤلف، ستيف بلانك، فإن مثل هذا الإجراء "يشبه محاول حل مسائل القسمة على صفر".
ومن هنا يجب أن يكون القادة مستعدين لتقييم الفرص الناشئة وفق محاور أخرى: هل هناك قصة مقنعة يمكنك سردها عن إمكانية تحويل أي حالة شاذة إلى فرصة ذهبية؟ هل ستكون الفرصة منطقية من الناحية الاستراتيجية بالأخذ في الاعتبار قدرات شركتك؟ كيف يمكن اختبار الفرضيات الجديدة؟ لن تستطيع الشركات أن تظل متربعة على القمة إلى الأبد بعروضها الحالية وحدها، لذا فإن الحفاظ على النجاح يتطلب العمل على اقتناص الفرص الغامضة.
دعونا الآن نفكر في أفضل السبل المتاحة أمام المدراء لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من تعاملهم مع الأمور بعقلية منفتحة.
عملية قائمة على الحالات الشاذة
عكف خبراء الأبحاث السوقية على تحليل البيانات التاريخية وصياغة فرضيات متعددة والتحقق من صحتها من خلال التجريب العملي على أرض الواقع، وذلك في إطار عملية تقليدية لتطوير منتج جديد. إذ يسمح هذا المنهج للباحثين بتحديد القيمة المعروضة، ومن ثم يمكن تطويره وتعميمه. وقد تستغرق العملية عدة أشهر.
غير أن الابتكار القائم على الحالات الشاذة يختلف تمام الاختلاف. إذ لا يبدأ خبراء الأبحاث السوقية بالضرورة بأي فرضيات، ويتم تحليل البيانات بمجرد التوصل إليها. ولا تتعلق العملية بالتنبؤ بالمستقبل انطلاقاً من مقتضيات الماضي بقدر ما تتعلق بفهم الحاضر المباشر واستخدامه لتخيل المستقبل المحتمل. ونتيجة لذلك، يتقلص المدى الزمني إلى أسابيع وليس شهوراً. وتتألف هذه العملية في العادة من 4 خطوات.
1- تحليل البيانات التفصيلية ووضع تصور لها.
ويمكن استخدام الأدوات التحليلية الحديثة لتحديد البنية الأساسية لمجموعات البيانات الكبيرة، ما يسمح بتفسيرها دون الاعتماد على المتوسطات والإحصاءات الموجزة. إذ يمكن تحليل البيانات، مثل منشورات المستهلكين على المنصات الاجتماعية أو إعلانات استثمارات المنافسين، باستخدام خوارزميات التجميع الدلالي، ما يجعل الأنماط الأساسية للتصورات أو السلوكيات واضحة وقابلة للتفسير. وللعثور على الحالات الشاذة ضمن هذه الأنماط، حاول وضع تصور محدد للبيانات واستنطاقها لتحديد القيم المتطرفة والفجوات. ما المجموعات التي تعكس خصائص متنامية أو متغيرة بمرور الوقت؟ نظراً لأن المتوسطات تعمل على تسطيح الفوارق، فقد لا تظهر الحالات الشاذة إلا باستنطاق مصادر البيانات التفصيلية، تلك التي يتم جمعها بصورة متكررة أو لا يتم احتساب متوسطها في مناطق جغرافية معينة أو تورد معلومات عن المعاملات الفردية. لكن فحص كل البيانات على هذا المستوى التفصيلي يبدو حلاً غير معقول في المؤسسات الكبيرة، لذا يجب تنظيم البيانات بطرق تسمح بوضع تصور للحالات الشاذة وفحصها.
2- تحديد الحالات الشاذة ذات الأهمية الحقيقية.
تتضمن مجموعات البيانات الكبيرة في معظم الأحيان الكثير من الحالات الشاذة، ولن تكون جميعها ذات أهمية حقيقية. وللوقوف على الحالات التي يجب أخذها في الاعتبار، حدد تلك التي توحي بأنها ستصنع فارقاً المستقبل والتي تخبرك بشيء لم تكن تعرفه من قبل.
وغنيٌ عن البيان أن الحالات الشاذة ستبدو ضئيلة بشكل عام عند رصدها، ولكن يمكن تقييم إمكاناتها وفق ثلاثة محاور. (1) الزخم: هل ستتواصل الحالة الشاذة بمرور الوقت؟ هل تنمو بسرعة؟ وهل يُظهر المستخدمون الأوائل شغفاً بها؟ (2) السطوع: هل يمكن رؤيتها من زوايا مختلفة أو في مصادر متعددة للبيانات؟ وهل تتوافق مع التحولات الأخرى في البيئة المحيطة؟ (3) الأثر: هل تشير الحالة الشاذة إلى فرص لسد فجوات كبيرة في المشهد العام للعروض الحالية؟ وما الآثار التي قد تترتب على ذلك؟
في عام 2000، أي بعد عامين من تأسيس شركة "جوجل"، كانت الشركة تفكر في التوسع النوعي باستحداث أنواع جديدة من البحث وعدم الاقتصار على روابط النصوص إلى أن لاحظت وجود حالة شاذة ملموسة: فقد لاحظت أن عمليات البحث عن فستان جينيفر لوبيز أخضر اللون الذي كانت ترتديه في حفل توزيع "جوائز غرامي" قد حطمت الرقم القياسي لمعظم عمليات البحث الشائعة آنذاك. وكانت "جوجل" قد قررت في وقت سابق استغلال البحث عن الصور باعتباره فرصة محتملة، لكن العدد الهائل لعمليات البحث عن الفستان أشار إلى مقدار الزخم والتأثير المحتمل للخدمة التي لم تكن موجودة بعد، ما أقنع "جوجل" بجعلها أولوية وإطلاقها في العام التالي.
3- صياغة سردية ووضع اسم لها.
تتمثل الخطوة التالية في محاولة فهم الحالة الشاذة الواعدة من خلال صياغة القصة التي سترويها إذا أصبحت اتجاهاً سائداً. يسهم هذا التمرين في تخيل المستقبل الذي يمكن اختباره مقارنةً بالتوسع في التعرّف على البيئة المتغيرة. وإذا كان هذا السرد مقنعاً، فيمكن أن يسهم في نشر الفكرة من خلال مؤسستك وتمكين الآخرين من رؤية الفرصة السانحة أو الخطر الذي يلوح في الأفق.
ولفهم المتطلبات اللازمة لصياغة سردية حول حالة شاذة، اسأل نفسك: ما الذي يجري هنا؟ ما الذي يمكن أن تفضي إليه؟ هل هناك حقائق أخرى تتسق مع هذه القصة أو تقف لها بالمرصاد؟ ما الفكرة التي يقوم عليه هذا المستقبل وتخالف أفكارنا الحالية؟ هل هناك "حلقة مفقودة" يمكنها تأكيد هذه القصة أو تسريع أحداثها؟ ما الإشارات التي ستثبت صحتها؟
تعتبر التسمية عاملاً مؤثراً بقوة في رواية القصص، ما يسمح للأفكار غير المنظَّمة في ذهن المرء بالتطور إلى فكرة يمكن مشاركتها مع مجموعة. وتسهم الأسماء أيضاً في مساعدة باقي العاملين في المؤسسة على استيعاب المفاهيم الجديدة والتفاعل معها من خلال جعل المفاهيم الجديدة تماماً تبدو مألوفة بشكل أكبر (مثل كيف تدل ساعة آبل "آبل واتش" على إمكانية ظهور كمبيوتر صغير وأنيق على معصمك)، أو التعريف بوظيفة ما (مثل كيف تسحب "ماكينة الصراف الآلي" الأموال من البنوك)، أو جذب الانتباه (فقد تم اختيار اسم "أمازون" تيمناً باسم أكبر نهر في العالم الذي يشير إلى طموحات الشركة للنمو والتوسع).
4- التدقيق والصياغة والالتزام.
بعد تحديد الاتجاه الجديد المحتمل وتسميته، فإن الخطوة الأخيرة هي العمل عليه. لكن حتى الحالات الشاذة المهمة تأتي في شكل إشارات ضعيفة، لذا فإن اختبار الفكرة بسرعة وبشكل متكرر من خلال إجراء تجارب صغيرة، مثلاً، سيساعدك على التحقق من صحة الفكرة ومعرفة المزيد، وذلك من خلال الكشف عن الحالات الشاذة الأخرى التي قد تدفعك إلى إعادة النظر في فكرتك. ونحن نتعلم في البيئات التي تشهد تغيرات متلاحقة من خلال التنفيذ ثم التفكير، وهو ما قد يبدو أمراً يخالف المنطق.
وعلى الرغم من ذلك، يجب أن ينطوي انتهاز الفرص السانحة على أكثر من التعلم والتفاعل. ولأن حالات الشذوذ تنذر بالفرص الناشئة، فإنها غالباً ما تتصف بالمرونة. وبالتالي يمكن للمنفذين الأوائل صياغة كيفية ظهورها من خلال تطوير أفكار جديدة بالتعاون مع العملاء والشركاء. فعلى سبيل المثال، تسبب وباء "سارس" عام 2003 في آسيا في تسريع اعتماد تقنيات التجارة الإلكترونية، ما شجّع تجار التجزئة عبر الإنترنت على التركيز على قنوات المستهلكين بالإضافة إلى المبيعات المرتبطة بالتعاملات التجارية بين الشركات. ولأن الكثير من العملاء لا يثقون في عمليات الشراء عبر الإنترنت، فقد بادرت شركة "علي بابا" بإنشاء منصة "علي باي"، ما قلل من مخاطر المعاملات وأسهم في تصنيف البائعين، ما أدى بدوره إلى تعزيز الثقة المتبادلة وتمكين الشركة من احتلال مكانة رائدة في مجال التجارة الإلكترونية في الصين. بعبارة أخرى، فقد صاغت الشركة السياق الخاص بالتجارة الإلكترونية، ومن ثم استطاعت تعزيز إمكاناتها.
اكتشاف الحالات الشاذة باستخدام استشهادات براءات الاختراع
تمثل كل عقدة في خريطة الاستشهادات الواردة أدناه واحدة من الشركات التي تستشهد بإحدى التقنيات الأساسية الست لشركة "بروكس أوتوميشين" بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر من خلال الاستشهاد ببراءات الاختراع التي تستشهد ببراءات اختراع "بروكس". وتقع الشركات في 5 مجالات تطبيقية مختلفة. ويربط كل سطر شركة بشركة أخرى تستشهد ببراءات اختراعها بشكل مباشر، وتشير كثافة الخطوط إلى عدد الاستشهادات. وتمثل العُقد في المجموعة المحاطة بدائرة شركات التطبيقات الطبية.
وكما يتضح لنا من مثال "علي بابا" فإن تحديد الفرصة الواعدة والتحقق من صحتها يوجب عليك الوثوق في حدسك. فغالباً ما تكون المؤسسات الكبيرة عازفة عن إجراء أي تعديلات على الميزانيات الحالية، إلا إذا كانت تعديلات طفيفة لا تؤثر في الهيكل العام لميزانياتها. ويمكن القول بشكل عام إن الشركات المستعدة لتغيير المخصصات الرأسمالية بصورة جذرية تحقق نمواً أكبر، خاصة بعد الأزمات التي تزداد فيها احتمالات ظهور الفرص بقوة.
دعونا نلقِ نظرة على شركة واحدة طبقت المبادئ والعمليات التي أشرنا إليها للوقوف على فرص النمو الجديدة.
عندما تتحقق من صحة فرصة سانحة، ثق في حدسك. فغالباً ما تكون المؤسسات الكبيرة عازفة عن إجراء أي تعديلات على الميزانيات الحالية، إلا إذا كانت تعديلات طفيفة لا تؤثر في الهيكل العام لميزانياتها.
كيف اكتشفت إحدى الشركات المتخصصة في توريد أشباه الموصلات فكرة البنوك الحيوية؟
حينما أرادت مواجهة تباطؤ النمو في أواخر العقد الأول من الألفية الثالثة، سعت شركة "بروكس أوتوميشين" (Brooks Automation) الأميركية المتخصصة في تصنيع معدات أشباه الموصلات إلى البحث عن الفرص المتاحة في الأسواق المجاورة بغرض الاستفادة من قدراتها التكنولوجية الأساسية، مثل إنشاء بيئات فراغية شديدة البرودة ومعالجة الرقاقات الموجودة فيها. وهكذا رسمت خريطة تفصيلية للجهات التي تستشهد ببراءات اختراعها مباشرة، إضافة إلى الجهات التي تستشهد بالشركات التي تستشهد ببراءات اختراعها. ووجدت أن هناك 6 تقنيات أساسية، بما في ذلك مضخات التبريد ومعالجة المواد، تحتوي على 90 استشهاداً من المستوى الأول وما يقرب من 400 استشهاد من المستوى الثاني. ويُظهر الشكل التوضيحي "اكتشاف الحالات الشاذة باستخدام استشهادات براءات الاختراع" أن الشركات التي تستشهد ببراءات الاختراع تندرج في خمسة مجالات تطبيقية متباينة.
وبينما كان مدراء شركة "بروكس" يتعمقون في التفاصيل، لاحظوا نمطاً مثيراً للاهتمام وغير معروف حتى هذه اللحظة: فقد أظهرت الخريطة ليس فقط الروابط المباشرة بين براءات اختراع شركتهم الخاصة بالتبريد والتصوير بالرنين المغناطيسي وتطبيقات الجراحة البردية، ولكنها أظهرت أيضاً العديد من الروابط الأضعف بين تقنيات "بروكس" الأخرى، مثل أنظمة الأتمتة والتطبيقات الطبية الأخرى، مثل الروبوتات الطبية، ما يشير إلى أن الطب قد يكون مجالاً حافلاً بالكثير من الاستكشافات.
وقد ركزت "بروكس" على التطبيقات الطبية لاختبار الاحتمالات، واكتشفت أنه على الرغم من عدم وجود براءات اختراع في التبريد العميق للأنسجة، فإن مجموعة براءات الاختراع الأخرى حول هذا الموضوع كانت تنمو باستمرار. وأشار البحث إلى أن الأساليب الحالية لتجميد الأنسجة البشرية كانت عشوائية وغير موثوقة، ما يشير إلى وجود فجوة كبيرة في السوق يمكن لشركة "بروكس" سدها.
بعد تضييق نطاق الفرصة، انتقلت "بروكس" إلى الخطوة الثالثة في عمليتنا. فمن خلال الجلسات التي عقدتها مع المهندسين للتفكير في أعمالها ذات الصلة بمعالجة مضخات التبريد ورقائق الروبوتات، طورت الشركة قصة مقنعة حول هذه الفرصة تفيد ما يلي: يمكن لشركة "بروكس" تعزيز "البنوك الحيوية الدقيقة" وتنميتها لدعم سوق علوم الحياة من خلال الرقمنة والبيئات التي يمكن التحكم فيها بشكل أفضل والاسترجاع التلقائي للعينات.
ولاغتنام الفرصة قبل أن يدركها المنافسون الآخرون ويتصرفون على أساسها، نفّذت "بروكس" سلسلة من عمليات الاستحواذ الاستراتيجية الصغيرة التي أضافت خبرة القطاع واستطاعت سد فجوات القدرات مع تطوير منتجات جديدة لتخزين العينات البيولوجية بشكل أكثر موثوقية ومنهجية. وبعد أن دخلت المجال الجديد في وقت مبكر، احتلت شركة "بروكس" مكانة رائدة في السوق، ونمت أعمالها في العلوم الحياتية بنسبة 35% سنوياً خلال العقد التالي. وقد سمح لها ذلك بالتفوق في الأداء على أقرانها الذين استمروا في التركيز إلى حد كبير على عملاء أشباه الموصلات، ومن ثم استطاعت تحقيق عوائد إجمالية سنوية للمساهمين بلغت 22% خلال العقد الثاني من الألفية الثالثة.
ونود أن نذكّر هنا بأن الراحل كلايتون كريستنسن، واضع نظرية "التغيير المزعزع" التي أعادت تعريف طريقة تفكير المدراء في الابتكار، قد علّق لافتة خشبية خارج مكتبه في "كلية هارفارد للأعمال". (كان كريستنسن يمارس هواية زخرفة الأعمال الخشبية في أوقات فراغه، وصنع اللافتة بنفسه). وقد كتب عليها: الحالات الشاذة مطلوبة. كان كريستنسن يشعر بالسرور كلما عثر على الحالات الشاذة لأنه أدرك أن مواجهة ما هو غير متوقع يؤدي إلى أعظم أوجه التقدم في حقل المعرفة. وتلهمنا الحالات الشاذة اختبار نظرياتنا ونماذجنا حول كيفية عمل العالم، وتخلق لدينا الدافع لتحسينها وربما تغييرها كليةً. وغالباً ما يجادل الناس بأن ميزة تحليلات البيانات تكمن في قدرتها على مساعدتنا على تحديد أنماط جديدة في حزم البيانات التي يمكننا الوصول إليها الآن. هذا صحيح. لكن يجب ألا ننسى أن هذه الأنماط الجديدة غالباً ما تبدأ كحالات شاذة ضمن الأنماط التي نراها بالفعل. ويمكن للابتكار القائم على الحالات الشاذة أن يساعد الشركات على اكتشافها وتشكيل الأنماط الناشئة حولها.