لماذا على الشركات الاستثمار في تنمية المهارات البشرية أكثر من أيّ شيء آخر؟

3 دقائق
تنمية المهارات البشرية
shutterstock.com/janews

قلة هم أولئك الذين يختلفون على أن العالم الاقتصادي وقطاع الأعمال يواجهان تحديات غير مسبوقة، فالأرقام والحقائق تميل بقوة إلى تأكيد وجود مخاطر مستقبلية على الاقتصاد العالمي وقطاعات الأعمال. وبالجملة، فقد تزايدت الديون العالمية نسبة إلى الموجودات العالمية تزايداً غير مسبوق في تاريخ البشرية وأصبحت تمثل 235% من إجمالي الناتج المحلي العالمي، وهي كما وصفها البنك الدولي الأوسع والأسرع خلال السنوات الخمسين الماضية. وهذا في تقديري يمثل تحدياً كبيراً يتوقع إذا ما أضيفت له تحديات المناخ وحرب العملات والصراعات الدولية العسكرية والناعمة والتطورات التكنولوجية بما فيها الذكاء الاصطناعي وذكاء الأعمال والرقمنة... إلخ سيؤدي إلى اضطراب واضح في مسار الاقتصاد العالمي وإحداث تغيير جذري راديكالي في هيكلة المجتمع الاقتصادي الدولي ربما يفضي إلى زلزال إداري ومهني في إدارة الأعمال في وقت قريب.

كل ذلك يتطلب بطبيعة الحال آلية إدارية جديدة تختلف في كنهها وأسلوبها عن الآلية التقليدية التي عملنا بها خلال الأعوام القادمة وما زلنا نمارسها حتى يومنا هذا؛ آلية تستوعب المستجدات وتعظّم أثرها.

فعلى عكس القاعدة التاريخية، أصبح الاستقرار شذوذاً والتغيير هو القاعدة. وفضلاً عن أن التغيير سنّة كونية عاشتها البشرية في كل حقب التاريخ فإن التغيير الذي يحدث في عصرنا الحاضر يبدو مختلفاً تماماً عن الذي عاشه أسلافنا بل حتى الذي عاشه الجيل الحالي فيما قبل هذا العقد الزمني. ولذا، فقد تسابقت كبريات الشركات العالمية الرائدة إلى تبنّي مشاريع إعادة هيكلة أجهزتها التنفيذية.

في دراسة شملت 180 شركة أميركية و100 شركة أوروبية، 75% منها خضعت لإعادة الهيكلة خلال السنوات الثلاث الماضية. وفي محاولة لتحقيق الأهداف الثلاثة الرئيسة للتنظيم: جودة النتائج، وكفاءة الأداء، وسرعة التنفيذ. تركز معظم الجهود في إعادة الهيكلة على ثلاثة أبعاد: العمليات الإدارية، التقنية، والقوى البشرية.

المفاجأة أن أكثر من 50% من مشاريع إعادة الهيكلة فشلت وأكثر من 80% من الاستراتيجيات لم تُنفذ.

في تقديري أن السبب الرئيس في فشل كثير من الاستراتيجيات هو أن الشركات التي خضعت لإعادة الهيكلة ركزت معظم جهودها على تطوير التكنولوجيا وكأنها العصا السحرية التي ستنقذها وستساعدها على مواجهة رياح الزمن. وهي في ذلك كمن يضع حليباً عديم الصلاحية في كأس زجاجية جديدة، فقد تحسَّن المنظر وبقي المحتوى عديم الفائدة. ولذا لم تتمكن تلك الشركات من وضع الاستراتيجيات الجديدة على أرض الواقع ولم تتمكن من تحقيق أهداف التنظيم. وهنا يحسن التذكير بنقطة جوهرية، وهي أن التحدي الأكبر في مشاريع إعادة هيكلة المؤسسات ليس في توفير التقنية التي يمكن شراؤها ولا في التمويل الذي يمكن اقتراضه ولا في تطوير الاستراتيجيات التي يمكن الاستعانة بخبراء من خارج المؤسسة لإعادة صياغتها، بل إن التحدي الأكبر أمام الشركات وأجهزة القطاع العام يكمن في توفر قوى بشرية متمكنة لا تكتفي بمحاولة الاستجابة لمستجدات المرحلة وتطوراتها فقط، بل تعمل -ولديها القدرة- على المساهمة في صياغة المستقبل نفسه.

في دراسة حديثة أجرتها سيتي آند غيلدز (City&Guilds) البريطانية وغرفة تجارة المملكة المتحدة في العام الماضي على سوق العمل في ظل الأزمة الحالية، وجدت أن 53% من المؤسسات القائمة تحتاج إلى مهارات فنية تتعلق بأداء أعمالها الخاصة بينما لا توفر السوق سوى 24% من الاحتياج، واتضح أن 22% من المؤسسات التي شملتها الدراسة بحاجة إلى مهارات في الرقمنة بينما لا توفر السوق المحلية سوى 9%، كما بينت الدراسة أن 40% من المؤسسات تحتاج إلى موظفين لديهم مهارات خاصة وحديثة في القيادة والإدارة الحديثة بينما لا يتوفر في السوق أكثر من 24%، وفي مجال البيع وتطوير الأعمال تلاحظ أن 48% من عيّنة الدراسة تتطلب مهارات خاصة فيها في حين لا يتوفر في جانب العرض سوى 12%. وبينت الدراسة أن 33% من المؤسسات بحاجة إلى عاملين لديهم مهارات إدارة المشاريع في الوقت الذي لا يتوفر في السوق سوى 19%.

ويبدو أن ندرة القادة المتميزين والمناسبين للتعامل والتعايش مع مستجدات المرحلة ليس بأقل تحدٍ من سابقه. ففي دراسة أعدّها معهد القيادة والإدارة العالمي في لندن (آي إل إم) (ILM)، تبيّن أن معايير مستوى القيادة ومهارات القادة ستتغير بشكل جذري في السنوات القليلة القادمة. ووفق تقرير صادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس فإن 44% من المهارات القيادية المتفق عليها حالياً ستتغير في العام 2025. كما تتوقع دراسات دافوس أن 42% من المهام العملية للوظائف ستكون مؤتمتة في العام 2027 ، وحسب الدراسة الأولى فإن 61% من القادة الذين شملتهم الدراسة يؤكدون أنه لا تتوفر لديهم المهارات القيادية اللازمة لقيادة مؤسساتهم في الفترة الحالية بما فيها من مستجدات وتحديات. ومن جانب آخر، فإن 54% من المؤسسات تشير إلى أنها لم تتمكن من العثور على موظفين يحملون المهارات المطلوبة للتعامل بمهنية مع مستجدات الفترة الحالية ومتطلباتها.

من خلال خبرتي في مجالات الاستشارات والتدريب والتعليم والعمل التنفيذي أُلاحظ أن أكبر التحديات التي يواجهها قطاع الأعمال والحكومة في المجتمع العربي خاصة تتمثل غالباً في ندرة القوى البشرية المتميزة القادرة على قراءة مستجدات المرحلة ومتغيراتها المتسارعة والتعايش معها.

الحل في نظري يكمن في التركيز -من قبل الأفراد والمؤسسات- على التدريب وتعزيز المهارات وتطوير المهن، وتقديم ذلك على الإغراق والهوس في تحصيل الشهادات الأكاديمية التقليدية. ومن المعلوم كما تشير إليه دراسات مسحية أن 78% من الإبداعات والابتكارات الحديثة لم تصدر عن مراكز بحثية ولا عن جامعات علمية بل جاءت من أفراد عاديين استثمروا في تدريب أنفسهم.

يبدو أن سلاح الإبداع والإنجاز في المستقبل سيميل إلى صالح المهارات التقنية والحرفية أكثر منه في الشهادات الأكاديمية.

المستقبل سيكون من نصيب المتميزين من أصحاب المهارات فقط.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي