من المؤسف أن يشهد أي من الوالدين في العالم موت طفلهما، ولكن زميلي السابق "ويل" وزوجته "ماري" شاهدا طفليهما بلا حول ولا قوة يستسلمان لمرض ضمور العضلات النخاعي (SMA). كان "آيزاك" و"ليزي" يعجزان عن الجلوس أو التكلم أو تناول الطعام من دون مساعدة، وتوفي كل منهما في عمر الطفولة المبكرة. فما ضرر ارتفاع تكاليف الأمراض النادرة؟
المسبب الجيني لموت الأطفال
إن المسبب الجيني الأكثر شيوعاً لموت الأطفال الرضّع هو مرض ضمور العضلات النخاعي، حيث يصيب 1 من كل 11 ألف طفل حديث الولادة في كل عام. وتؤدي إصابة الأطفال الرضع بالنوع الأكثر شيوعاً والأخطر من مرض ضمور العضلات النخاعي (SMA1) بشلل تدريجيّ قبل أن يبلغوا ستة أشهر، ويموت معظمهم قبل عامهم الثاني. اكتشف المسبب الجيني لمرض ضمور العضلات النخاعي قبل 20 عاماً، وهو طفرة في جين الخلايا العصبية الحركية للعمود الفقري 1 (SMN1)، وعلى الرغم من الأبحاث المكثفة حول هذه المسألة، لم يُكتشف أي علاج فعال حتّى فترة قريبة. بقي الأمر على حاله إلى أن أعلنت "إدارة الغذاء والدواء الأميركية" (FDA) في ديسمبر/كانون الأول من العام 2017، أنها وافقت على اعتماد مادة نوسينرسن (التي تباع تحت الاسم التجاري "سبينرازا") علاجاً فعالاً لمرض ضمور العضلات النخاعي ومنحت ترخيصه لشركة "بايوجين" (Biogen) التي تعمل مع شركة "أيونيس فارماسيوتيكالز إنك" للمستحضرات الصيدلانية (Ionis Pharmaceuticals Inc).
تتكون مادة النوسينرسن من النيوكليوتيد مضاد الإحساس، وهو عبارة عن سلسلة حمض نووي قصيرة تزيد إنتاج بروتين "إس إم إن" (SMN). أجريت تجربة فريدة من نوعها على 82 رضيعاً مصاباً بمرض ضمور العضلات النخاعي، تمكن خلالها 40% ممن تلقوا العلاج تحقيق إنجازات على مستوى القدرة على الحركة، بما في ذلك الجلوس والزحف والمشي، مقارنة بأولئك الذين لم يتلقوا العلاج. أوقفت "إدارة الغذاء والدواء" الدراسة في مرحلة مبكرة لأن "نوسينرسن" كان شديد الفعالية.
شعر كل من الأهالي وموردي الأدوية بالغبطة إثر خبر الموافقة على الدواء، لكن فرحتهم لم تدم طويلاً. حيث أعلنت شركة "بيوجين" بعد 5 أيام من الموافقة على الدواء أن كل جرعة ستكلف 125 ألف دولار أميركي. بما أن المرضى كانوا سيحتاجون لست جرعات في العام الأول، و3 جرعات سنوياً بعد ذلك، ما يعني أن العلاج سيكلف 750 ألف دولار لكل مريض في العام الأول و375 ألف دولار في كل عام بعدها.
ضرر ارتفاع تكاليف الأمراض النادرة
يوجد ما لا يقل عن 10 آلاف مريض مصاب بضمور العضلات النخاعي في الولايات المتحدة الأميركية، أكثر من نصفهم تقريباً مصاب بنوع (SMA1) أو (SMA2) (وهما أخطر نوعين منه). إذا عولجت هذه الفئة وحدها بدواء "نوسينرسن"، فستبلغ التكلفة الكلية في السنة الأولى 3.8 مليارات دولار وستبلغ التكلفة السنوية بعدها 1.9 مليار دولار (لا تشمل هذه الأرقام التكاليف الأخرى) وستكون التكلفة الفعلية أكبر حتى، وذلك لأن العلاج فعال، ومن ثم سيعيش مرضى ضمور العضلات النخاعي لوقت أطول كما هو مأمول، ما يعني أن عدد مرضى ضمور العضلات النخاعي الذين سيحتاجون إلى العلاج المستمر سيزداد بمرور الوقت.
في حين يجب أن تسلط الانتقادات حول أسعار الدواء الضوء على إمكانيات المريض في تحمل تكاليف العلاج والأسعار الاستغلالية التي تفرضها شركات الدواء عديمة الضمير، فإن قرار شركة "بيوجين" بتسعير الدواء يكشف عن وجود تهديد أكبر يواجه نظام الرعاية الصحية الأميركي، وهو أنه قد يستحيل على المواطنين تحمل التكلفة التراكمية لعلاجات الأمراض النادرة.
اقرأ أيضاً: تكلفة زيارة الطبيب البيطري تخبرنا عن سبب ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية للأفراد
عبّر العديد من الخبراء عن قلقهم إزاء قرار التسعير الذي أصدرته شركة "بيوجين". توقّع جيفري بورجس، المحلل في بنك "ليرنك" (Leerink)، في تقرير نُشر في ديسمبر/كانون الأول 2017، أن "قرار تسعير دواء "سبينرازا" سيتسبب في عاصفة من الانتقادات، وقد يصل الأمر إلى تغريدات رئاسية على "تويتر". ونشر طبيب القلب الشهير إريك توبول على "تويتر" تغريدة: "موضوع متكرر في مجال التكنولوجيا الحيوية — #مرض_نادر #RareDisease: اكتشاف كبير يتم استغلاله".
كما نجد رد فعل ويل المؤلم الذي يعكس بلا شك مشاعر كل من تأثر بمرض ضمور العضلات النخاعي، فهو يقول: "أصابني إعلان شركة "بيوجين" عن تكاليف دواء "نوسينرسن" بصدمة مروعة، لا يمكن للكلمات أن تعبر عن شعوري العميق بالألم حين أفكر بذلك".
من المتوقع أن يصبح دواء "نوسينرسن" طي النسيان، وذلك بسبب وجود علاج جيني واعد لمرض ضمور العضلات النخاعي يلوح في الأفق، وهو يعمل عن طريق جرعة واحدة. هل كان لذلك تأثير على قرار شركة "بيوجين" الاستغلالي فيما يخص تسعير الدواء؟ قد لا نعرف الإجابة عن ذلك أبداً؛ فشركات الدواء ليست مضطرة لتفسير أسعارها.
هناك حوالي 25 إلى 30 مليون أميركي مصاب بما يصل عدده إلى 7 آلاف مرض نادر. يبلغ متوسّط تكلفة الدواء الموافق عليه بموجب قانون "أورفان درغ آكت" (Orphan Drug Act) المعروف اختصاراً (ODA) لعام 1983، الذي يتحكّم بالموافقة على أدوية الأمراض النادرة، 118,820 دولاراً أميركياً لكل عام. لو افترضنا أن التكلفة مشابهة -فإذا تمت الموافقة على دواء واحد بموجب قانون (ODA) لنسبة 10% من الأمراض النادرة- ستتجاوز تكلفته الكلية 350 مليار دولار أميركي سنوياً – أي أكثر من 10% من المبلغ الكلي الذي تنفقه أميركا سنوياً على الرعاية الصحية وأكثر بكثير من تكاليف الرعاية الصحية المتعلقة بمرض السكري أو الزهايمر وغيره من أنواع الأمراض العقلية.
إن بدا ذلك غير معقول، فلنفكر بالدواءين المخصصين لعلاج مرض "حثل دوتشين العضلي"، وهما عقاران دوائيان وافقت عليهما إدارة "الغذاء والدواء" خلال الأشهر الستة الماضية: عقار "إتيبليرسن" الذي تبيعه شركة "ساريبتا" (Sarepta Therapeutics) ويكلف 300 ألف دولار سنوياً لكل مريض، وعقار "ديفلازاكورت"، الذي تبيعه شركة "ماراثون فارماسيوتيكالز" (Marathon Pharmaceuticals) ويكلف 89 ألف دولار سنوياً لكل مريض. على أي حال، إن الموافقة على مثل هذه الأدوية ذات التكاليف العالية يكشف عن حقيقة صادمة تقول إن وتيرة الاكتشاف العلمي تجاوزت اقتصادات الرعاية الصحية.
المرضى المصابون بضمور العضلات النخاعي
نتابع في جامعة "يوتا" حوالي 150 مريضاً مصاباً بضمور العضلات النخاعي. إن خضع كل واحد منهم للعلاج بدواء "نوسينرسن"، فستبلغ تكلفة العلاج 113 مليون دولار خلال السنة الأولى و56 مليون دولار بعدها (دون حسبان المرضى الذين ستشخّص إصابتهم لاحقاً). يمثّل سعر "نوسينرسن" المرتفع تحدياً أمام أي نظام رعاية صحي، خاصة أمام نظام فيه منظمة الرعاية الخاضعة للمساءلة مسؤولة عن أعداد كبيرة من المرضى (200 ألف طفل مصاب بالمرض الذي نتحدث عنه).
هناك مقاربات تسعى للاستجابة بشكل مناسب إلى هذه العلاجات الجديدة المكلفة وتتراوح إجراءاتها من إنشاء لوائح متخصصين للموافقة على كل مريض سيتلقّى العلاج، إلى تحديد حصة سنوية للأطباء من نسبة المرضى. لا تعتبر أي واحدة من هذه الاستراتيجيات مثالية، وتخاطر كل واحدة بنشوب الخصومات بين الأطباء والإداريين والمرضى.
لن نكون قادرين على تحمل تكاليف علاج الأمراض النادرة التي وافقت عليها إدارة "الغذاء والدواء" بعد اليوم ما لم تتخذ الولايات المتحدة الأميركية الإجراء المناسب. لقد بدأت بعض شركات التأمين بتقييد إمكانية الوصول لدوائي "نوسينرسن" و"إتيبليرسن". كما أن إمكانية إلغاء قانون الرعاية الصحية "أوباما كير"، الذي يحظر حدود الإنفاق القصوى في التأمين الصحي مدى الحياة، تعني المزيد من التقييد على إمكانية وصول المرضى المصابين بأمراض مزمنة نادرة للرعاية الصحية.
يجب أن تعتمد قرارات التغطية على فهم لقيمة الدواء (النتائج بالنسبة للتكلفة). فيما يتعلق بدواء "نوسينرسن"، لا جدال حول التأثير الكبير للدواء على نوعية حياة الأطفال المصابين بمرض ضمور العضلات النخاعي.
يحدّد "المعهد الوطني للصحة وتفوق الرعاية" (نايس) (NICE) في المملكة المتحدة، الفعالية من حيث التكلفة أو القيمة الخاصة بالأدوية التي تمت الموافقة عليها استناداً إلى تأثيرها على جودة الحياة التي عدلت نوعيتها عبر العلاج. هذه التحديدات هي ما تعتمد عليه قرارات تغطية العلاج الخاصة بنظام الصحة الوطني (NHS). في المقابل، لا يُسمح لـ "إدارة الغذاء والدواء" أن تأخذ بالاعتبار التكلفة أو القيمة في عملية اتخاذ القرار، وليس هنالك مؤسسة حكومية أميركية مكافئة لـ "المعهد الوطني للصحة" وتفوق الرعاية.
اتخذ "معهد المراجعة السريرية والاقتصادية" (آيسر) (ICER)، وهو مؤسسة صغيرة غير ربحية مقرها في بوسطن، خطوة نحو التسعير القائم على القيمة عبر إقامة نموذج يشبه "نايس". سيساعد تطوير عملية مراجعة للقيمة ما بعد الموافقة على نمط "نايس" أو "آيسر"، مع استخدام الإشراف والمساءلة المناسبين، على ضمان بقاء القرارات المتعلقة بالتغطية عادلة ومناسبة من حيث التكلفة. من المرجح أن يفرض نظام الصحة الوطني مبدأ تقنين الرعاية بسبب تكاليف الحفاظ على الصحة والأدوية التي ترتفع يوماً بعد يوم. يجب أن تتطرق أي خطة ناجحة لإدارة تكاليف الدواء المتزايدة للجوانب المتعددة للمشكلة، بما في ذلك، على سبيل المثال، التسعير المستند على القيمة، والشفافية، وإعادة استيراد الأدوية، وتعديل قانون الأدوية اليتيمة.
يجب تشجيع "إدارة الغذاء والدواء" وغيرها من الجهات الفيدرالية التي تؤدي عمليات الدفع، بما في ذلك برنامج "ميديكير" (Medicare)، لكي يأخذوا بالاعتبار تكاليف الأدوية ونتائجها، ويجب أن تسهم هذه العملية في الاستثمار الفيدرالي المخصص لاكتشافات الأدوية. (تسلمت شركتا "أيونيس" و"كولد سبرينغ هاربور" تمويلاً من منحٍ فيدرالية لدعم عملية التطوير المبكرة لدواء "نوسينرسن").
يجب أيضاً أن يُسمح للجهات الفيدرالية الحكومية التي تقوم بالدفع بالتفاوض حول تخفيضات الأسعار وإعادة استيراد الأدوية (مع شروط للتحكم المناسب بالجودة). بعد أن وعد الرئيس ترامب بالسماح لبرنامج "ميديكير" بالتفاوض حول تخفيضات أسعار الجملة الخاصة بالأدوية الموصوفة، تخلى في خطوة مخيبة للآمال عن وعده بعد اجتماع مع جماعات ضغط ومسؤولين تنفيذيين من قطاع الصناعات الدوائية.
ينبغي أن يُشترط على شركات الصناعات الدوائية الكشف عن تكاليف عمليات التطوير وتبريرها، وخصوصاً تلك التي تسعى للحصول على فوائد كبيرة بموجب قانون الأدوية اليتيمة. هناك أمثلة عديدة على شركات الأدوية التي تستغل شروط قانون الأدوية اليتيمة لكي تعيد استخدام أدوية الأمراض النادرة معقولة الثمن، وعادة ما يترتب على ذلك تكاليف هائلة لا تبرير لها. اقترحت شركة "ماراثون" سعر 89 ألف دولار لدواء "ديفلازاكورت"، وهو متوفر بالفعل في أوروبا وكندا بسعر يتراوح بين 1,000 إلى 2,000 دولار، أي هناك زيادة في السعر بنسبة 6,000%. (بعد أن اشتكى من ذلك عدد من أعضاء "الكونغرس"، تم تأجيل إطلاق الدواء). يقود السيناتور تشاك غراسلي، رئيس اللجنة القضائية لمجلس الشيوخ، تحقيقاً حول هذه الممارسات وغيرها من خروقات قانون الأدوية اليتيمة.
من المفترض أن يهدف نظام الرعاية الصحية إلى توفير أفضل رعاية تتمحور حول المريض وحاجاته. وينبغي أن تمنح قرارات التغطية ومخصصات الموارد الأولوية للقيمة التي يحصل عليها المرضى، وليس لأرباح الشركات الدوائية أو شركات التأمين. العلاجات مثل "نوسينرسن" هي غير أخلاقية طالما أن الحصول عليها خارج قدرة المرضى المادية، ذلك إن كنا ملتزمين كمجتمعٍ بشفاء أمراض مثل ضمور العضلات النخاعي. تلعب كل من الحكومة، والشركات الدوائية، وشركات التأمين، وأنظمة المستشفيات، والأطباء، دوراً جماعياً في توفير الوصول للرعاية الصحية الملائمة وبسعر معقول من أجل تفادي ضرر ارتفاع تكاليف الأمراض النادرة.
اقرأ أيضاً: