تواجه الشركات في مختلف دول العالم حقبة جديدة من عصر العولمة؛ فقد اجتمعت عوامل عدة من توترات جيوسياسية وظهور نقاط ضعف مؤثرة أدت إلى تعطُّل سلاسل التوريد بسبب تفشي جائحة كوفيد-19 وتصاعد السياسات القومية، ما يُنذر بظهور عقبات غير مسبوقة في البيئة التجارية العالمية. بالإضافة إلى ذلك، فإن فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأميركية مؤخراً يشير إلى اتباع نهج عملي أكثر يركز على المصالح المباشرة في العلاقات الخارجية والتبادل التجاري.
هذا كله يعني ضرورة أن يعيد المدراء النظر في استراتيجياتهم المتعلقة بالتوسع الدولي، بدءاً بتعميق فهمهم لنقاط ضعفه، ثم إعادة النظر في العديد من الأفكار التي ظلوا يعتبرونها مسلَّمات على مدار فترة طويلة جداً من الزمن. ونستعرض فيما يلي 8 أسئلة عليهم أن يجيبوا عنها.
1. ما هي مصادر المواد الأولية المستخدمة في عمليات الشركة، سواء كانت مواد رئيسية أو ثانوية؟
ثمة نقاط ضعف واضحة تستطيع الشركات ملاحظتها بسهولة، لكن التحدي الحقيقي يكمن في التعامل مع المشكلات غير المتوقعة التي تظهر فجأة دون سابق إنذار، والكثير من الشركات التي تعتمد على موردين أجانب تواجه تحديات مرتبطة باختباء هذه المشكلات المفاجئة في المستويات الدنيا من سلاسل التوريد التابعة لمورديها؛ إذ كشف النقص الحاد في الأدوية المكافئة بالسوق الأميركية خلال جائحة كوفيد-19 عن أزمة تتجاوز اعتماد الولايات المتحدة على الشركات الهندية المصنعة لهذه الأدوية؛ فقد أظهر أيضاً اعتماد العديد من هذه الشركات على شركات صينية لتزويدها بالمكوّنات الدوائية، وكان بعضها في مدينة ووهان الصينية وهي البؤرة الأساسية لتفشي الجائحة؛ كما واجهت شركات صناعة السيارات نقصاً حاداً في رقائق أشباه الموصلات بسبب عدم إدراكها أن مورديها الواقعين في مواقع جغرافية بعيدة يعتمدون على قدرات إنتاجية آسيوية تخدم قطاعات متعددة، وقد أدت الجائحة إلى ارتفاع الطلب على الإلكترونيات الاستهلاكية وأجهزة الكمبيوتر الشخصية بمعدلات غير مسبوقة وزيادة تخصيص قدرات إنتاج الرقائق الإلكترونية لتلبية احتياجات هذه القطاعات، ما أدى فجأة إلى طول أوقات الانتظار التي تستغرقها شركات صناعة السيارات للحصول على الرقائق الإلكترونية، حتى إنه وصل إلى عام كامل.
أدى تعدد المستويات في سلاسل التوريد إلى صعوبة اكتشاف العديد من نقاط الضعف، كما أن رسم خريطة كاملة لسلسلة التوريد بهدف كشف نقاط ضعفها مهمة شاقة ومكلفة جداً بسبب اشتمال سلسلة التوريد الواحدة على مئات الأطراف، خاصة أن معظم الموردين يفضلون عدم الكشف عن أسماء مورّديهم أو هوياتهم.
أجريت مؤخراً مشروعاً بحثياً سلّط الضوء على إحدى هذه المشكلات المفاجئة، ولاحظتُ أن الكثير من الشركات الأميركية المحلية المصنِّعة لحبوب الإفطار والخبز المدعم بالعناصر الغذائية والدقيق والمعكرونة والأرز، وغيرها من المنتجات المشتقة من الحبوب، تعزز منتجاتها بحمض الفوليك، وهو شكل من أشكال الفولات يُعرف أيضًا بفيتامين (ب-9). وكانت هذه الشركات تشتري حمض الفوليك في معظم الأحيان من شركات توريد المكونات الغذائية، غالباً في تركيبة تضم مكونات أخرى؛ لكن دراستنا غير المنشورة وجدت أن 58% من إجمالي واردات حمض الفوليك (حسب عدد الشحنات) و78% من إجمالي واردات الفيتامينات إلى الولايات المتحدة تأتي من الصين. ربما تكون هذه مفاجأة لبعض الشركات المصنعة والمستهلكين على حدٍّ سواء.
يكمن سر فهم نقاط الضعف في طرح الأسئلة حول مصدر المكوِّنات الأساسية، وهذا يعني تجاوز المكوِّنات الحيوية الواضحة، مثل رقائق أشباه الموصلات والمعادن الأساسية، والبحث أيضاً عن أشياء مثل المواد الكيميائية العضوية والمواد التخصصية وأي شيء يتركز إنتاجه في دولة واحدة أو دولتين. على الرغم من أهمية إجراء هذا التحليل، فإن شركات كثيرة تتجاهله.
2. كيف تطبّق الشركة مبدأ توطين الإنتاج في استراتيجيتها؟
هذا يعني تصنيع المنتجات داخل دول ترتبط فيما بينها بتكتل تجاري وطرحها في أسواقها الداخلية، أي تصنيع المنتجات في أميركا الشمالية وطرحها في أسواق دول أميركا الشمالية، وتصنيع المنتجات في الصين وطرحها في السوق الصينية، وتصنيع المنتجات في أوروبا وطرحها في أسواق دول أوروبا، وهلمّ جرّاً، بحيث يكون هذا إجراءً دفاعياً قوياً في حال زادت القيود التجارية والرسوم الجمركية، كما أنه يوفر بعض الحماية من تقلبات أسعار العملات. تطبق شركات محدَّدة فعلياً مبدأ توطين عملياتها الإنتاجية. على سبيل المثال، تصنع شركة الأجهزة الطبية، بي دي (BD)، منتجاتها في الولايات المتحدة لطرحها في السوق الأميركية، ولديها مصنعا في الصين لطرح منتجاتها في السوق الصينية. وثمة شركات، مثل شركة دانفوس (Danfoss) وشركة غروندفوس (Grundfos)، تنتمي إلى دول صغيرة مثل الدانمارك وتطبق مبدأ توطين عملياتها الإنتاجية منذ زمن طويل. أما شركة إيرباص فقد طبقت هذا المبدأ على عمليات تجميع الطائرات ذات الهيكل الضيق ولا تقتصر خطوط التجميع النهائي بها على فرنسا وألمانيا، ولكنها قائمة أيضاً في الصين والولايات المتحدة، وقد ساعدتها هذه الاستراتيجية إلى حدٍّ بعيد على النجاح في كلتا السوقين.
لا يزال بالإمكان الاعتماد على منطقة واحدة لتوفير المكونات الرئيسية للمنتج شريطة أن يكون هناك تنوع في الموردين أو استراتيجية للتخزين الاحتياطي؛ إذ تصنع شركة نوفو نورديسك (Novo Nordisk) نسبة كبيرة من إمدادات العالم من الإنسولين في مدينة كالونبورغ الدانماركية، لكنها تحتفظ بمخزون يكفي لسنوات عديدة باعتباره احتياطياً أمنياً، كما تطبق مبدأ التوطين على المرحلة الأخيرة في إنتاج الأدوية التي تتضمن تعبئة الجرعات النهائية وتجهيزها للتوزيع.
المشكلة هي أن العوامل السياسية والاقتصادية قد تعيد تشكيل هذه التكتلات التجارية إذا تعرّضت لتقلبات عنيفة في المستقبل؛ فدخول الشركات الصينية إلى المكسيك قد يكون له أثر سلبي على العلاقات التجارية بين المكسيك والولايات المتحدة، ما يُنذِر بإمكانية حدوث توترات تجارية في المستقبل، كما أن المجر وغيرها من دول أوروبا الشرقية جذبت الاستثمارات الصينية بفضل سهولة وصولها إلى أسواق الاتحاد الأوروبي، ما يعرّضها لمشكلات مشابهة. تؤثر هذه التوترات بصفة خاصة على مجال السيارات الكهربائية، لكنها قد تمتد لتشمل قطع غيار السيارات.
3. كيف نقلّص الحجم المطلوب لتحقيق الكفاءة الإنتاجية؟
ستكون هناك فوائد كبيرة للاستثمارات التي تقلل الحد الأدنى من القدرة التصنيعية المطلوبة لخدمة الأسواق المحلية أو الإقليمية بكفاءة، وستتيح هذه الاستثمارات للشركات القدرة على تطبيق مبدأ اللامركزية على العملية الإنتاجية، أي توزيعها على مناطق أوسع بمختلف أنحاء العالم. يمثل هذا مبرراً منطقياً لاستثمار الشركات في الابتكارات المرتبطة بآليات العمل، مثل التصنيع الكيميائي بتدفق مستمر الذي يسهم في تقليل حجم مواقع الإنتاج وتكاليفها الأولية، فضلاً عن إسهامه في الاستفادة من تكنولوجيات تعلم الآلة الحديثة لتحسين المردود وتقليل الهدر.
يبدو أن هذا هو ما تحاول شركة رابيدوس (Rapidus) اليابانية الناشئة المتخصصة في مجال أشباه الموصلات والمدعومة من شركات تويوتا وإن تي تي (NTT) وسوفت بنك (SoftBank) وسوني وإن إي سي (NEC) ودينسو (Denso) وكيوكسيا هولدنغز (Kioxia Holdings) وبنك إم يو إف جي (MUFG Bank) والحكومة اليابانية، وذلك بتجاوز التقنيات الحالية والدخول مباشرة في تطوير رقائق متقدمة تكنولوجياً. إنها استراتيجية محفوفة بالمخاطر، لكنها قد تحقق عائداً ضخماً في حال نجاحها.
4. أين يمكن نقل تصنيع المنتجات الكثيفة العمالة بحيث تكون أكثر أماناً؟
غالباً ما تكون هناك صعوبة في تطبيق مبدأ التوطين على المنتجات التي يعتمد تصنيعها بدرجة كبيرة على الأيدي العاملة ولا يمكن الاستغناء عنها وإحلال الأتمتة محلها؛ فنقل العملية الإنتاجية من دولة مرتفعة التكاليف، مثل الولايات المتحدة، إلى دولة منخفضة التكاليف، مثل الصين أمرٌ سهلٌ؛ إذ كان الوفر الناتج عن الانخفاض الكبير في تكاليف الإنتاج كافياً لتعويض تكاليف بناء مصنع في الصين وتوظيف قوة عاملة وإنشاء شبكة مورّدين؛ حتى إن فترات استرداد التكاليف استغرقت أقل من عام في بعض الحالات.
قد يبدو الاعتماد على المكسيك لخدمة السوق الأميركية منطقياً من الناحية النظرية، لكن مخاطره آخذة في الازدياد؛ فعلى مدار العام الماضي، شهدت شركات الشحن البحري والجوي نمواً كبيراً في خدماتها المباشرة من الصين إلى المكسيك، كما أن العجز الذي تعانيه الولايات المتحدة في تجارتها مع المكسيك يزداد باستمرار. وإذا اعتُبرت المكسيك مجرد قناة بديلة لدخول البضائع الصينية إلى الولايات المتحدة، فمن المؤكد أن ذلك سيثير توترات تجارية وقد يؤدي إلى فرض المزيد من الرسوم الجمركية أو القيود التجارية.
إن خيارات المواقع الجغرافية التي تكون فيها أجور العمالة منخفضة نسبياً ويمكنها خدمة السوق الأوروبية أكثر تنوعاً، وهي تشمل دول شرق أوروبا وشمال إفريقيا وتركيا. قد تكون الدول الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى ودول جنوب آسيا مناسبة أيضاً، على الرغم من ضرورة انتباه الشركات إلى مخاطر الشحن عبر البحر الأحمر وقناة السويس ودراسة الأوضاع الحالية جيداً لتقييم احتمالات استمرار الاضطرابات في المستقبل.
يمكن توفير مزايا جيوسياسية على المدى البعيد بالبحث عن مصادر للإنتاج أو التوريد في دول أخرى، خصوصاً دول الجنوب النامية التي تشمل كلاً من دول أميركا الوسطى والجنوبية والهند وبنغلاديش وإندونيسيا ودول جنوب شرق آسيا وإفريقيا. تتفاوت درجات المخاطر السياسية في هذه المناطق، وهو الدرس الذي تعلمناه من تجربة الصين على مدى العقود الثلاثة الماضية. ولما كان الاستثمار الأجنبي المباشر والتجارة وسيلتين تستخدمهما دول الجنوب النامية لرفع مستوى معيشة الملايين من سكانها، فإنهما تقللان من معدلات الهجرة من تلك الدول وتمكّنان الدول المتقدمة من تعزيز علاقاتها معها؛ لكن تحقيق هذه الغاية يستوجب التزام حكومات دول الجنوب النامية بالنزاهة النسبية والتمتع بالدعم الشعبي الواسع.
5. هل ستسمح الرسوم الجمركية بإعادة تصنيع المنتجات في الولايات المتحدة بدلاً من الدول المنخفضة التكلفة؟
من المؤكد أن التصريحات الرسمية الصادرة عن المسؤولين الأميركيين التي تفيد بأنهم "سيعيدون توطين الصناعة في الولايات المتحدة" ستصطدم يوماً ما بحقيقة مفادها أن الرسوم الجمركية وحدها ستعجز عن تعزيز القدرة التنافسية للمُنتَج المحلي ما دامت تكلفته مرتفعة في الأساس؛ ولم يظهر بعد دليل يدحض صحة نظرية قوة الأسواق الحرة لآدم سميث ونموذج الميزة النسبية لديفيد ريكاردو. وما لم يكن المستهلكون مستعدين لدفع مبالغ أعلى ولم يظهر أي مؤشر على وجود مثل هذه الرغبة، فسنضطر في النهاية إلى مواجهة التناقضات التي تُثار حالياً في العديد من النقاشات السياسية.
في النهاية، يجب أن يركز الإنتاج في المناطق المرتفعة التكلفة على المنتجات التي تشكّل فيها تكلفة العمالة نسبة أقل من إجمالي تكلفة المواد، مثل المنتجات الفريدة من نوعها التي يعتمد تميزها الأساسي على التصميم أو التكنولوجيا الهندسية، ومن أبرزها محركات الطائرات أو عمليات التصنيع الحيوي المتقدمة التي تعتمد في أساسها على المعرفة والقدرات، أو العمليات الإنتاجية التي تعتمد على الأتمتة المكثفة أو الإنتاجية العالية للعاملين.
6. ما هي الاستراتيجية الأساسية للتمايز؟
على الشركات مراجعة استراتيجياتها الأساسية للتمايز وأساليب تطبيقها بمختلف المناطق في ظل حالة التجزؤ التي تشهدها الأسواق العالمية. هل هناك مكوِّن محوري أو تكنولوجيا حيوية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فأين ستنتجها؟ وإذا كانت تعتمد على رقائق أشباه الموصلات أو تكنولوجيا حيوية، فهل ستواجه قيوداً تصديرية عند تصدير المكونات أو النظم الفرعية عبر الحدود؟
أحد أهم الدروس التي تعلمها الكثير من الشركات الغربية هو أن الدخول في شراكات مع الشركات الصينية المحلية ضمن مشاريع مشتركة وفقاً لاشتراطات الحكومة الصينية مكَّن الشركات الصينية لاحقًا من منافسة نظيراتها الغربية، وفي كثير من الأحيان كانت تلك المنافسة في مجالات غير جوهرية بالنسبة للشركات الغربية؛ فعندما كانت شركة موتورولا جهة فاعلة في سوق الهواتف التقليدية بالصين، ساعدت شركة بي واي دي (BYD) على تحسين إنتاج البطاريات؛ لأن موتورولا أرادت مورّداً محلياً يزيد نسبة المكوِّن المحلي للحصول على مزايا ضريبية وجمركية. وأدى دخول شركة فولكس فاغن إلى السوق الصينية إلى إنشاء شبكات توريد أفادت منافسيها الصينيين لاحقاً، كما أدى تعاقد شركة آبل مع شركات، مثل فوكس كون (Foxconn) وكوانتا كمبيوتر (Quanta Computer)، إلى مساعدة مورديها في النهاية على تحسين مهاراتهم في تصنيع الأجهزة.
ثمة درسان محددان يمكن تعلُّمهما من هذه الأمثلة. أولاً: لا مفر من انتشار المعرفة التقنية لأنها تنتقل من خلال الخبرات العملية التي يكتسبها العاملون في أثناء عملهم، ومن ثم يحملونها معهم إلى مواقع عمل أخرى، ولا تبقى حكراً على شركة أو جهة معينة. قد تحاول الشركات تقليل سرعة انتشار المعرفة التقنية عن طريق حماية الملكية الفكرية من خلال تسجيل براءات الاختراع أو اتباع إجراءات قانونية لمنع تقليد منتجاتها، ولكن يبقى الابتكار المستمر أفضل وسيلة لحفاظ الشركات على موقعها الريادي. تدرك الشركات الصينية العاملة في مجال تصنيع مكونات الطيران هذا المبدأ جيداً؛ فعلى الرغم من علمها بأن منتجاتها وتقنياتها ستتعرض للتقليد، فإنها تواصل الاستثمار بكثافة في التطوير والابتكار للتفوق على المنافسين باستمرار.
يتمثل الدرس الآخر الذي يمكننا تعلمه (خاصة من شركة آبل) في قوة التمايز الناتجة عن تطوير برمجيات مبتكرة ومنظومة برمجية متكاملة؛ فعلى الرغم من قدرة العديد من المنافسين الصينيين حالياً على إنتاج أجهزة هواتف ذكية ممتازة، فقد تمكنت آبل من الحفاظ على مكانتها في السوق المحلية الصينية نفسها بفضل برمجياتها المتقنة ومنظومتها البرمجية المتكاملة، ما يشكّل حاجزاً قوياً ضد التقليد، على الرغم من اضطرار آبل إلى تعديل عروضها لتلبية متطلبات السوق الصينية، مثل عدم توفير تطبيقات معينة في الصين والامتثال للقوانين الصينية التي تتطلب تخزين بيانات المستخدمين داخل حدود الدولة.
يجدر بالشركات أيضاً إعادة النظر في الآثار البعيدة المدى لنقل الأعمال الهندسية والتقنية إلى دول أخرى، ولطالما كانت الشركات الأميركية مدركة لأثر نقل عمليات التصنيع إلى دول أخرى، لكنها لم تفكر بجدية حتى الآن في أثر الاستعانة بمصادر خارجية لتنفيذ التصميمات الهندسية.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك نقل تصميم رقائق أشباه الموصلات إلى آسيا والهند على مدار العقدين الماضيين، وهي الخطوة التي اتخذتها الشركات الأميركية التي لا تمتلك مصانع، مثل شركة كوالكوم (Qualcomm) وغيرها. وفي ظل سعي الهند إلى تعزيز قدراتها لإنتاج أشباه الموصلات محلياً، على هذه الشركات الأميركية الاستثمار في قدراتها المحلية للحفاظ على ريادتها؛ إذ تطوّر الشركات الهندية قدراتها لتصميم رقائق متطورة باستخدام أدوات تصميم أميركية، ولأن تكلفة توظيف المهندسين الهنود أقل بكثير مقارنةً بنظرائهم الأميركيين، فستفضِّل شركات مثل كوالكوم وبرودكوم وأيه إم دي (AMD) وإنفيديا (Nvidia) زيادة حجم الأعمال التصميمية المنفَّذة في الهند، ما قد يؤدي إلى إضعاف القدرات المحلية الأميركية بدرجة كبيرة. وقد يكون لهذا المنهج آثار خطيرة خلال العقد المقبل؛ فهذا السيناريو مشابه لما حدث في التسعينيات والعقد الأول من الألفية الثالثة عند نقل تصنيع الرقائق الإلكترونية إلى دول أخرى خارج الولايات المتحدة، وهو الخطأ الذي تحاول تداركه حالياً من خلال الموارد التي تُخصصها الحكومة الأميركية في إطار قانون دعم حوافز إنتاج أشباه الموصلات (CHIPS Act).
7. هل ينبغي أخذ عمليات الشحن والخدمات اللوجستية في الحسبان عند تصميم سلاسل التوريد؟
كل الجوانب التي ناقشتها حتى الآن تشير إلى ضرورة إعادة النظر في قابلية التداول (Tradability)، أي الجدوى الاقتصادية لإنتاج السلع والخدمات في أماكن بعيدة عن أسواقها الاستهلاكية. وخلال الأعوام الثلاثين الماضية، شهد العالم توسعاً غير مسبوق في القطاع القابل للتداول، لكن ذلك كان يعتمد على الانخفاض المتزايد في الحواجز الجمركية وغير الجمركية وعلى استمرار تطور سفن الحاويات الضخمة والشحن العابر للبحار بتكلفة منخفضة. وتشير التقديرات الحالية إلى أن النظام التجاري العالمي قد وصل إلى نقطة تحول، حيث لم تعد الحواجز التجارية تتناقص أو تبقى كما هي، بل بدأت تزداد؛ إضافة إلى أن تكاليف الشحن ستظل مرتفعة على الأرجح أو ستزداد بسبب تحمُّل شركات النقل تكاليف الامتثال للقيود البيئية التي أقرّتها المنظمة البحرية الدولية (IMO)، أو لأن قطاع النقل الجوي يواجه أيضاً التكاليف المتعلقة بتحقيق أهدافه لصافي الانبعاثات الصفرية بحلول عام 2050. ومن هنا حان الوقت لإعادة النظر في الافتراضات التي ربما تبنتها الشركات منذ عقود، عندما كان اختلاف تكاليف العمالة الدافع الأساسي للتوسع العالمي.
لم يعد من الممكن اعتبار الشحن والخدمات اللوجستية من الأمور المضمونة والمتاحة دائماً بكفاءة، فقد كان تصميم سلاسل التوريد الممتدة يعتمد على فرضية وجود وسائل نقل منخفضة التكلفة ومضمونة، لكن الأزمات المتكررة، وآخرها حرب غزة التي أثرت سلباً في حركة المرور بقناة السويس، أثبتت أن الروابط اللوجستية تشكل عناصر أساسية يجب مراعاتها عند تحليل كفاءة سلاسل التوريد وفعاليتها، فهذه الأزمات أو النزاعات العمالية في الموانئ الأميركية التي تُصنَّف باستمرار في أدنى المراتب من حيث الإنتاجية، تؤدي إلى زيادة تكاليف النقل، وينبغي أن تؤدي هذه العوامل إلى تعديل بعض الافتراضات الثابتة حول قابلية تداول السلع المادية.
8. هل يجب التخلي عن السوق الصينية؟
على الرغم من أن هذا التصور المتشائم حول مستقبل التجارة وتجزئة الأسواق العالمية قد يوحي لبعض قادة الشركات الغربية بأن على شركاتهم الانسحاب من السوق الصينية، وهو أمرٌ يفكر فيه بعض شركات صناعة السيارات، فالصين هي ثاني أكبر اقتصاد في العالم وبالتالي تظل سوقاً يجب الحفاظ على الحضور بها، وذلك لأهميتها باعتبارها سوقاً رئيسية ومصدراً للمنتجات والأفكار المبتكرة، كما أن الجهود الجبارة التي تبذلها الشركات الصينية للتوسع في الخارج تعني أنها ستكون طرفاً رئيسياً في أسواق الولايات المتحدة وأوروبا ودول الجنوب النامية بغض النظر عن الحواجز، ما يعني ضرورة التحري عن هذه الأسواق.
لقد حان الوقت لأن يعيد قادة الشركات الغربية النظر في العديد من افتراضاتهم القائمة منذ أمدٍ طويل حول التبادل التجاري والتوسع العالمي وتهيئة شركاتهم لتكون أكثر مرونة مع تطور الأحداث؛ لأن التقلبات في أنماط التبادل التجاري خلال السنوات الخمس الماضية والمفاجآت التي غذت هذه التقلبات أبرزت الحاجة إلى هذه المرونة. وعلى قادة الشركات ألا يعتبروا هذه التقلبات حالة شاذة؛ بل عليهم التعامل معها باعتبارها واقعاً جديداً يجب على الشركات قبوله والتعامل معه باعتباره جزءاً من استراتيجياتها المستقبلية.