بينما يجري النقاش حول التشريعات والضوابط والمؤشرات اللازمة لتحسين نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، تظهر موجة جديدة من التحليلات والتقنيات التي يمكنها المساعدة إلى حد كبير في خفض التكلفة وحالات دخول المستشفيات، مع تحسين النتائج للمرضى في الوقت نفسه. من خلال تفادي دخول حالتين فقط من الأمراض المزمنة الواسعة الانتشار إلى المستشفيات، مثل مرضى القلب والسكري، ستوفر الولايات المتحدة المليارات كل عام.
ومن أجل هذه الغاية، سعيت أنا وزميلي في "مركز هندسة الأنظمة والمعلومات" ضمن "جامعة بوسطن"، إلى الاستعانة بقوة خوارزميات التعلم الآلي لهذه المشكلة الحساسة. ومن خلال جهدنا المستمر مع مستشفيات بوسطن، بما فيها "مركز بوسطن الطبي" و"مستشفى برغهام آند ومنز"، وجدنا أنه بإمكاننا التنبؤ بالحالات التي تستدعي دخول المستشفى لهذين المرضين قبل سنة تقريباً وبمعدل دقة يصل إلى 82%. سوف يمنح هذا التنبؤ مزودي الرعاية الصحية الفرصة للتدخل في وقت أبكر بكثير واتقاء الحاجة إلى دخول المستشفى. ويعمل فريقنا أيضاً مع قسم الجراحة في "مركز بوسطن الطبي"، ويمكنه الآن التنبؤ بحالات إعادة دخول المستشفى التي تحدث خلال 30 يوماً من إجراء جراحة عامة، فالأمل معوّل هنا على توجيه الرعاية ما بعد الجراحية بحيث تُمنع العودة إلى المستشفى.
وفي إطار تعاوننا مع المستشفيات، وفرت لنا السجلات الصحية الإلكترونية (دون تحديد الهوية الخاصة بالمرض)، التي تتضمن جميع المعلومات التي تمتلكها المستشفى عن كل مريض، بما في ذلك الديموغرافيا والتشخيصات وحالات الدخول والعمليات والعلامات الحيوية التي دوّنت لدى زيارة الطبيب، والأدوية التي تم وصفها، ونتائج التحاليل المخبرية. إذ نطلق بعدها العنان لخوارزمياتنا من أجل التنبؤ بالأشخاص الذين يحتاجون إلى دخول المستشفى. يمنح هذا التنبؤ المستشفى فرصة للتدخل، فيُعالج المرض بشدة أكبر في بيئة الرعاية الخارجية ويتم تجنب الرعاية باهظة التكلفة المرتبطة بإدخال المريض المستشفى، بينما يحسّن في الوقت نفسه من حالة المريض أيضاً.
إذ تتجاوز نسب دقة هذه التنبؤات النسب التي يمكن التوصل إليها باستخدام أنظمة التقييم التي نشأت من دراسة فرامنغهام الشهيرة للقلب، وهي الدراسة القلبية الوعائية الجماعية المستمرة وطويلة الأمد التي بلغت الآن الجيل الثالث من المشاركين. باستخدام ذلك النظام، يقيّم الطبيب عمر المريض والكولسترول والوزن وضغط الدم وعدة عوامل أخرى للتوصل إلى الاحتمالات الفردية لحدوث مرض قلبي خلال السنوات العشر القادمة. وباستخدام دراسة فرامنغهام لتقييم مخاطر الإصابة بأمراض الأوعية القلبية على مدى عشر سنوات، يمكن التنبؤ بدقة تبلغ 56%، وهي نسبة أقل بكثير من 82% التي حققناها.
في الواقع، وجدنا أنه حتى عند إدخال عوامل من دراسة فرامنغهام العشرية لتقييم المخاطر في أساليب التعلم الآلي الأكثر تطوراً، ظلت النتائج أدنى من نتائجنا (معدل دقة يبلغ 69%). وبناء على ذلك، يبين هذا أن استخدام السجلات الصحية الإلكترونية للمريض بكاملها، التي تحتوي على 200 عامل بدلاً من الاعتماد فقط على بضعة عوامل رئيسية يؤدي إلى نتائج تنبؤ أكثر تفوقاً. كما أن المنهج المعتمد على الخوارزمية يتمتع بالمرونة من ناحية الحجم بحيث يمكن تطبيقه على عدد كبير جداً من المرضى، وهو أمر من المستحيل فعله بالمراقبين البشريين فقط.
وهناك فوائد ضخمة يمكن تحقيقها من استخدام تحليلات التعلم الآلي في مجال الرعاية الصحية. اعتماداً على دراسة لسنة كاملة من حالات دخول المستشفى. حيث قدرت "الوكالة الأميركية لبحوث الرعاية الصحية والجودة" (U.S. Agency for Healthcare Research and Quality)، أنه يمكن تجنب 4.4 ملايين حالة من حالات دخول المستشفيات في الولايات المتحدة، التي تقدر تكاليفها الإجمالية بـ 30.8 مليار دولار. حيث هناك 9 مليارات منها تذهب لمرضى يعانون من أمراض القلب و5.8 مليار دولار لمرضى يعانون من مضاعفات مرض السكري. هذه وحدها تشكل نصف حالات الدخول غير الضروري إلى المستشفيات.
من ناحية أخرى، تُجبر الإصلاحات المستمرة في نظام الرعاية الصحية المستشفيات على تحمل مخاطر مالية أكبر بسبب ربطها السداد بالنتائج. ورداً على ذلك، يتزايد توظيف المستشفيات للتحليلات والتقنيات الحديثة باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من عمليات المستشفى. لهذا أصبحنا نرى توظيفاً لتحليلات الأعمال رائجة الاستخدام في شركات الطيران وشركات الشحن في جدولة مواعيد غرف العمليات والموظفين، وهناك خوارزميات أخرى يجري تطويرها لمساعدة الأطباء على إجراء التشخيصات. وطور فريقي طرقاً لمعايرة الأدوية تلقائياً في وحدات الرعاية المشددة بحسب ما تتطلبه حالة المريض.
ليست هذه التطورات إلا غيضاً من فيض. فنحن على أعتاب تغييرات رئيسية في الرعاية والمراقبة الصحية، ويبدو أن "جوجل" وغيرها من الشركات ذات الخبرة الكبيرة في تجميع البيانات والتعلم على استعداد لدخول هذا المجال. حيث إن هناك عدد لا يحصى من التقنيات والأجهزة الطبية القابلة للزرع مثل أجهزة إيقاف الرجفان وضابط النبض، وحتى متتبعات اللياقة الصحية والساعات والهواتف الذكية التي تجمع أصلاً بيانات عن صحتنا واختيارات نمط حياتنا. كذلك تعرف بطاقتنا الائتمانية وأنظمة الدفع الإلكتروني تاريخ مشترياتنا ونوع الأطعمة التي نستهلكها. والنتيجة نشوء سجل طبي شخصي غني نحمله في جعبتنا.
وإذا كان بإمكاننا الآن التنبؤ بالحالات المستقبلية لدخول المستشفى بدقة تتجاوز 80%، تخيل ما يمكننا فعله إن استطعنا الوصول لذلك الكنز الدفين من البيانات الشخصية. إذ يمكن عندها لأنظمة التوصيات تنبيهنا لتبني عادات وسلوكيات أكثر صحية في الأكل. عندها سندرك أن السر لاتقاء نشوء حالات تحتاج إلى العلاج هو إبقاء الناس معافين.
نعم، هناك مخاطر في التحليلات والعلاج المعتمد على البيانات والرقابة الصحية. ولا أحد منّا يرغب في إعلام الآخرين عن حالتنا الصحية والمخاطر التي ربما نواجهها، لذلك تُعتبر الخصوصية والأمان وموثوقية الأنظمة وطرائقنا الجديدة هواجس مهمة. ولكن بدلاً من التعامل مع الموضوع من هذا المنطلق علينا العمل لتقوية طرائقنا ومعاهدنا وقوانينا وأُطرنا التنظيمية لتجنب هذه العواقب غير المرغوب بها. إذ تُعتبر الخوارزميات أساسيات طرق التشفير، ومعالجة البيانات مع الحفاظ على الخصوصية، ويمكن لأنظمة الكشف عن الاحتيال والتطفل أن تساعد في ذلك أيضاً.