في عالمٍ يميل أكثر إلى الحذر والشك، تُظهر نتائج تقرير السعادة العالمي 2025 حقيقة مختلفة تماماً: الناس في الغالب يستحقون الثقة أكثر مما نتخيل. هذا الاكتشاف لا يحمل فقط بُعداً إنسانياً واجتماعياً، بل له انعكاسات مباشرة وعميقة على بيئة العمل، حيث تؤثر مستويات الثقة المتبادلة في فرق العمل على الأداء والإبداع والرفاهية العامة.
الثقة كمؤشر للسعادة والنجاح
يُعد مؤشر الثقة الاجتماعية أحد أبرز المحاور التي تناولها تقرير السعادة العالمي هذا العام. وقد تبين أن المجتمعات التي يتمتع أفرادها بمستويات عالية من الثقة المتبادلة، تحقق درجات أعلى في معدلات السعادة، والاستقرار، والقدرة على التكيف مع الأزمات. الثقة هنا لا تعني المثالية أو السذاجة، بل القناعة بأن غالبية الناس، حين تُمنح لهم الفرصة، سيتصرفون بنزاهة وحرص على المصلحة العامة.
هذه النتائج تحمل رسالة مهمة لأصحاب القرار ومدراء الموارد البشرية: بناء الثقة في بيئة العمل ليس مجرد شعار أخلاقي، بل هو استثمار استراتيجي ينعكس بشكل مباشر على جودة الأداء الفردي والجماعي.
لماذا نقلل من استحقاق الآخرين للثقة؟
تُظهر الأبحاث السلوكية أن الناس غالباً ما يقللون من احتمالية تصرف الآخرين بنزاهة. يُعرف هذا التحيز بـ "فجوة الثقة" (Trust Gap)، حيث يظن الفرد أن أغلب الناس سيستغلون الفرص لمصلحتهم الخاصة لو أُتيحت لهم، بينما الواقع يثبت العكس. في بيئة العمل، يؤدي هذا التحيز إلى أنماط إدارية محكومة بالرقابة المفرطة، والافتراضات السلبية، والسياسات العقابية، ما يخلق مناخاً من التوتر والخوف. الموظفون يشعرون أنهم مراقبون لا موثوق بهم، فيؤدي ذلك إلى تراجع روح المبادرة والابتكار.
لكن حين نراجع البيانات، نجد أن أغلب الموظفين لا يسعون للغش أو التهرب من المسؤولية، بل على العكس، يسعون للتقدير، والتأثير، والإسهام في نجاح مؤسساتهم، إذا ما أُتيح لهم ذلك.
الثقة تخلق أداءً استثنائياً
عندما تُبنى بيئة العمل على الثقة، تتغير المعادلة بالكامل. إليك بعض النتائج التي تدعم ذلك:
- زيادة الإنتاجية: تُظهر دراسات عديدة أن فرق العمل التي تسودها الثقة تحقق معدلات إنجاز أعلى، بسبب تقليل الحاجة للرقابة والعمليات البيروقراطية، وزيادة التعاون الطوعي بين الأفراد.
- تعزيز الإبداع: الإبداع لا يزدهر في بيئات يسودها الخوف. الثقة تمنح الأمان النفسي، ما يسمح للموظفين بطرح أفكارهم دون خوف من النقد أو العقوبة.
- تحسن الصحة النفسية: في البيئات المبنية على الثقة، تقل معدلات الاحتراق الوظيفي، وتزيد مستويات الرضا العام، ما ينعكس على الاستمرارية في العمل وجودته.
- سرعة اتخاذ القرار: في المؤسسات التي يسودها الشك، تُعرقل القرارات بسبب طبقات من الموافقات والمراجعات. أما الثقة فتمنح حرية التصرف ضمن أطر واضحة، ما يُسرّع وتيرة العمل ويزيد من مرونته.
أمثلة من الواقع: مؤسسات نجحت في بناء الثقة
- فنلندا: احتلت فنلندا المرتبة الأولى في تقرير السعادة العالمي لعام 2025 للعام الثامن على التوالي. يُعزى هذا النجاح إلى ثقافة الثقة المتجذرة في المجتمع الفنلندي، حيث تُمنح الثقة للموظفين في أماكن العمل، ما يعزز من رضاهم وإنتاجيتهم.
- شركة زابوس (Zappos): تعتمد زابوس على نظام إدارة أداء يركز على الاستقلالية والثقة والنمو والتعلم. هذا النهج يعكس التزام الشركة بثقافة متساوية تعزز الأداء والنمو.
- شركة سيسكو (Cisco): تُعتبر سيسكو من بين الشركات التي تعزز ثقافة الثقة والتعاون، ما ساهم في تحسين الأداء العام وزيادة رضا الموظفين.
كيف نبني الثقة في المؤسسات؟
بناء الثقة لا يتم بقرارات إدارية فجائية، بل هو نتاج عملية تراكمية تتطلب وعياً والتزاماً طويل الأمد. إليك بعض المبادئ التي تساعد في تحقيق ذلك:
- الشفافية: مشاركة المعلومات بوضوح وصدق تبني الجسور مع الموظفين. لا شيء يهدم الثقة أسرع من الشعور بأن الإدارة تخفي الحقائق أو تتلاعب بها.
- التمكين بدل الرقابة: بدلاً من تتبع خطوات الموظف لحظة بلحظة، امنحه الأدوات والثقة للقيام بعمله، وقيّم النتائج لا التفاصيل.
- العدالة والإنصاف: الثقة تنمو عندما يشعر الموظفون أن الجميع يُعامل بعدالة، وأن لا أحد فوق القواعد أو دونها.
- الاعتراف بالخطأ: حين تخطئ الإدارة وتعترف بذلك بشفافية، فإنها تبني نموذجاً ثقافياً يُشجع على الصدق والمسؤولية المتبادلة.
- الاستماع الفعّال: خلق مساحات آمنة للتعبير عن المخاوف والآراء بدون خوف من العواقب يُعد أحد أعمدة بناء الثقة.
نتائج تقرير السعادة العالمي 2025 يجب أن تكون دعوة للتأمل وإعادة التفكير في طرق إدارتنا للمؤسسات. نعم، هناك مخاطر في الثقة، لكن الثقة نفسها تولّد بيئة تقل فيها الحاجة إلى الحذر المفرط، وتزداد فيها دوافع الانتماء والمبادرة.
حين نبدأ بافتراض حسن النية بدل سوء النية، سنكتشف أن بيئات العمل التي تسودها الثقة تكون أكثر فعالية، إنتاجية، وسعادة.