ما الذي تخسره الشركات عندما يتقاعد خبراؤها؟

4 دقائق

ربما يشهد العالم قريباً تقاعد أعداد هائلة من الموظفين الذين ينتمون إلى جيل الازدهار (Baby Boomer) – وهم الأشخاص المولدون في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية من عام 1946 وحتى 1964.

ولعل هذا خبر جيد بالنسبة لهم وللجيل الجديد من الشباب الذين سيشغلون مكانهم. ولكن ماذا يعني ذلك فيما يتعلق بخسارة المعرفة المهمّة في مجال الأعمال القائمة على سنوات من الخبرة، أو ما يطلق عليه اصطلاحاً باللغة الإنجليزية Deep Smarts أي الفطنة العميقة؟ وفقاً لإحدى الشركات، فإن موجة التقاعد التالية والتي من المتوقع أن تشمل 700 موظف، قد ينجم عنها خسارة تراكم من الخبرات يمكن تقديره بأكثر من 27 ألف عام من الخبرة. إذا كان بالإمكان توظيف أصحاب هذه الخبرات والمهارات وغيرهم من أصحاب الكفاءات الكبيرة في السوق المفتوح، فلا بأس في ذلك. أو إذا كانت خطة التقاعد تنطوي على شغل الشاغر الوظيفي من قبل شخص مؤهل وعلى مستوى عال من الخبرة، فسيكون الأمر رائعاً.

ولكن خلال عشرات المقابلات التي أجريت مؤخراً مع عدد من رؤساء أقسام التكنولوجيا والمعلومات كبار مديري الموارد البشرية كجزء من التحضيرات الأولية التي سبقت تأليف كتابنا الذي يحمل عنوان "نقل المعرفة الحاسمة" Critical Knowledge Transfer، وجدنا أن المدراء غالباً لا يعلمون قيمة ما فقدوه إلا بعد مغادرة أولئك الأشخاص الذين يتمتعون بالخبرات العالية، وحينها قد يكون من الصعب جداً تعويض هذه الخسارة. وفي العديد من هذه الحالات، سمعنا عن تكبد الشركات خسائر فادحة في أربعة مجالات على وجه الخصوص: العلاقات، والسمعة، وإعادة التوظيف، والتجديد. وتم تقدير التكاليف الناجمة عن هذه الخسائر بما يصل إلى 20 ضعفاً من التكاليف الناجمة عن التوظيف والتدريب.

لنتطرق أولاً إلى تأثير هذه الخسائر على العلاقات. وهنا سنسلط الضوء على إحدى الشركات التي كان لديها موظف متمرس عمل لسنوات عديدة على تنسيق العلاقات وعمليات الاتصال مع المدراء التنفيذيين لعملاء الشركة، وفي بعض الأحيان كان يتواصل مع الخبراء في مجالات أخرى للحصول على الاستشارة والتحليلات. وفي هذا الخصوص، قال لنا أحد رؤساء قسم التكنولوجيا: "من الطبيعي أن يكون لدى الأشخاص الأذكياء علاقات قوية مع أشخاص أذكياء آخرين وهذا أمر جيد، ولكن عندما اضطر هذا الموظف إلى ترك العمل لدينا بسبب ظرف عائلي طارئ، لم يترك لنا سوى سجله الإلكتروني الخاص الذي يضم جهات الاتصال التي كان يتواصل معها، مجرد أسماء وعناوين البريد الإلكتروني وأرقام الهواتف، مما جعلنا نواجه مشكلة كبيرة تتمثل في عدم معرفتنا متى يمكننا استخدامها ومدى موثوقيتها وما هي الخبرات التي يتمتع بها الأشخاص الواردة أسمائهم في السجل. لم تكن أكثر من لائحة".

ولعل هذا الأمر ليس حميداً، إلّا أنّه ليس كارثياً في العادة. وسمعنا أيضاً عن المواقف التي تأثرت فيها سمعة الشركة، وذلك لأن الموظف البديل لم يتمتع بالمستوى المطلوب من الخبرة والمهارات. وهنا نستشهد بقصة المهندس الذي سنطلق عليه اسم خالد والذي كلف الشركة مبلغاً كبيراً ليتم إرساله إلى موقع العميل ليقوم بإصلاح مشكلة تسبب بها أحد المهندسين المبتدئين، وذلك بعد ما تم طلبه بالاسم من العميل الذي شعر بخيبة أمل كبيرة عندما سمع أن خالد سيتقاعد. وكان خالد على معرفة تامة بمعدات العميل والأعطال التي قد تحصل لديه، ونموذج العمل الذي عليه اتباعه لتحقيق النتائج التي ترضي العميل. وقال خالد: "كانت المشكلة ببساطة هي أن المهندس الجديد لا يمتلك الخبرة المطلوبة".

ماذا عن توظيف شخص آخر لديه المهارات والخبرة ذاتها؟ حتى لو كان ذلك ممكناً، لا نعتقد أن وضع شخص آخر يمتلك المهارات نفسها لشغر مكان الموظف الذي ترك العمل أمر مستحسن، بل نرى أن توظيف شخص يمتلك مهارات أفضل وأفكاراً جديدة سيحقق فائدة أكبر للشركة. ولكن عندما يتعين على الموظف الجديد قضاء المزيد من الوقت لفهم خطوط الإنتاج أو العمليات الحيوية، وتعلم القواعد غير الرسمية وطرق إنجاز المهام، ومعرفة كيفية تفاعل الوحدات المؤسسية فيما بينها، سيكون ذلك مجرد مضيعة للوقت. وهنا نأخذ تجربة إحدى الشركات التي استحدثت نظام إعداد التقارير المالية الداخلي، حيث أنفقت حوالي 6 ملايين دولار على مدار عامين، لتكتشف بعد ذلك أن النظام لا يتماشى مع ممارسات أعمالها واسعة النطاق. وذلك بعد أن استثمر في النظام الجديد دون الحصول على التوجيهات من مدير تكنولوجيا المعلومات السابق الذي بقي يعمل مع الشركة لمدة 30 عاماً، ولكنه ترك العمل لديها وتوفي بعد ذلك بفترة قصيرة. وفي هذا الخصوص، أوضح لنا رئيس قسم المعلومات قائلاً: "يتجلى الخطأ ببساطة في عدم طرح مدير تكنولوجيا المعلومات الجديد للأسئلة الصحيحة على البائع. حيث كانت أسئلته عما إذا كان يمكنهم القيام بذلك فقط، وليس كيف سيفعلون ذلك. فهو لم يكن يتمتع بالفهم الكافي حول الآلية التي تسير بها معظم أعمالنا الخارجية. ولا نذكر أن المدير السابق قد سبق له وأن ارتكب مثل هذا الخطأ. وأصبح يتعين علينا الآن البدء من الصفر تقريباً، وهنا لا يمكننا إلقاء اللوم على البائع، لأن ذلك كان خطأنا بكل بساطة".

ولعل أثمن معرفة قد تفقدها الشركات هي تلك المتمثلة في قدرتها على التجديد والابتكار، وإمكانية تقديم منتج جديد يرتقي بمعايير أي قطاع. وفي حين أن الابتكار يعتمد بالدرجة الأولى على اتباع أساليب تفكير جديدة، إلا أنه يعتمد أيضاً على سنوات عديدة من الخبرة والمعرفة في كيفية تصميم وتصنيع نوع معين من المنتجات. فعندما قررت شركة "بوينغ" تصنيع طائرة Dreamliner 787، توقعت إدارة الشركة حينها أن هذه الطائرة ستكون الأكثر تطوراً في القطاع منذ 60 عاماً. واعتمد نجاح هذا المشروع شديد التعقيد بالدرجة الأولى على الخبرة العملية الطويلة التي يتمتع بها مهندسو الشركة. ومع ذلك، وبما أن حوالي نصف كبار موظفي الشركة التقنيين سيدخلون مرحلة التقاعد خلال السنوات القليلة المقبلة، أدركت إدارة "بوينغ" أنه من الضروري تصميم منهجية منضبطة لجمع المعرفة والخبرات بالتفصيل في مجال تطوير وصناعة الطائرات، حيث قال لنا جون تريسي، رئيس قسم التكنولوجيا: "لا يمكنك الاكتفاء فقط بكتابة كيفية إنشاء طائرة جديدة على صفحة أو اثنتين من التعليمات للأشخاص الآخرين الذين سيشغلون مكانك بعد رحيلك. بل تحتاج إلى وضع استراتيجيات وأساليب لتسجيل ومشاركة تجارب وخبرات معقدة لم يكن من السهل اكتسابها على مر السنوات".

لا يمكننا على الإطلاق استخراج ونقل جميع تلك المعرفة العملية التي اكتسبها أحد الخبراء عبر سنوات طوال، ولكن من الأهمية بمكان تحديد ما يجب استخراجه وحفظه من ذاك الخبير قبل أن يترك الشركة. وتعد برامج مشاركة المعرفة والخبرات والتدريب، وحتى اتباع أسلوب الاستجواب المعرفي مع الخبير قبل أن يترك الشركة، من الخطوات الواجب تطبيقها لضمان الحفاظ على تلك المعرفة والخبرات التي اكتسبها خلال سنوات عمله ضمن شركتك، لتشكل بدورها قاعدة رئيسة يستند إليها الموظفون الجدد.

ولا تقتصر الخسائر المرتبطة بنقص نقل المعرفة على الجوانب الأربعة التي ذكرناها أعلاه، ولكنها تعد الأكثر انتشاراً، حيث أنها كفيلة بتعريض شركتك للخطر بشكل مباشر أو في المستقبل. وهذه جوانب لا يمكن لأي مدير شركة تجاهلها.

_______________________________________________

دوروثي ليونارد: أستاذة فخرية في إدارة الأعمال في كلية هارفارد للأعمال، وكبيرة المستشارين في شركة "ليونارد بارتون جروب" للخدمات الاستشارية (Leonard-Barton Group)، والتي تنظم ورشات عمل حول مثل هذه المواضيع ومواضيع أخرى ذات صلة. ولها 4 مؤلفات تم نشرها في "هارفارد بزنس ريفيو برس"، ومنها كتاب بعنوان "نقل المعرفة الحاسمة" Critical Knowledge Transfer (صدر من هارفارد بزنس ريفيو برس، 2015). والتر سواب: أستاذ فخري في علم النفس، ورئيس سابق لقسم علم النفس في جامعة تافتس. ومؤلف مشارك لثلاثة كتب، ومنها كتاب "نقل المعرفة الحاسمة". غيفين بارتون: العضو المنتدب لشركة "ليونارد بارتون جروب" للخدمات الاستشارية. يحمل بارتون شهادة دكتوراه من جامعة بوسطن.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي