الإيجابية هي وقود القيادة الناجحة. نعم، هذا حقيقي! فالتفاؤل يشحن الفريق بالحيوية ويحفّز الأفكار الجديدة ويخلق بيئة يشعر فيها الجميع بأنهم موضع اهتمام.
لكن ثمة خيطاً رفيعاً يفصل بين التفاؤل البنّاء ونظيره الهدام المعروف بـ "الإيجابية السامة". فعندما يزيد التفاؤل على حده ويتحول إلى إنكار للواقع أو استهانة بالصعوبات، يؤدي إلى شعور مَن حولك بالإحباط والتجاهل.
يقول الأستاذ في جامعة ولاية أريزونا ومؤسس مبادرة بروجيكت هيومانيتيز (Project Humanities) لتعزيز الحوار والتواصل العابر للتخصصات، نيل ليستر: "من أبرز مساوئ الإصرار على النظر بإيجابية إلى كل شيء أنه يؤدي إلى تجاهل مشاعر الآخرين وتهميش تجاربهم. تكمن المشكلة في غياب التعاطف وعدم الاعتراف بمشاعر الآخرين وما يواجهونه من تحديات".
تقول المعالجة النفسية ومؤلفة كتاب "الإيجابية السامة: كيف تحافظ على الواقعية في عالم مهووس بالسعادة؟" (Toxic Positivity: Keeping It Real in a World Obsessed with Being Happy)، ويتني غودمان، إن الإيجابية السامة تنبع غالباً من عدم تقبّل المشاعر السلبية. وتؤكد أن تبنّي الإيجابية ليس أمراً سيئاً بطبيعة الحال، لكن "لكل موقف سياقه المناسب، وإذا أردت التواصل مع الآخرين بفعالية أكبر أو أردت أن تكون زميلاً أو مديراً مؤثراً، فعليك أن تتقبل مشاعر الآخرين المعقدة وتتفاعل مع مخاوفهم بصدق".
قد تصعب ملاحظة علامات الإيجابية السامة في سلوكك، لكنها خطوة أساسية لبناء علاقات حقيقية ودعم فريقك. إليك العلامات التي ينصح خبراؤنا بالانتباه إليها وحلولاً للتعامل معها:
العلامة الأولى: التهوين من مشكلات زملائك فور سماعها.
عندما يبوح لك زميل بمعاناته في مشروع صعب، قد يكون رد فعلك العفوي هو محاولة التخفيف عنه بعبارات مثل: "كل شيء سيكون على ما يرام" أو "لا تُعطِ الموضوع أكبر من حجمه". وعلى الرغم من المقاصد الطيبة لهذه العبارات، يرى ليستر أنها قد تأتي بنتائج عكسية وتسهم في نشر الإيجابية السامة؛ إذ يقول: "حينما يواجه أحدهم موقفاً يراه صعباً أو مخيفاً، ثم تقول له ببساطة: ’لا داعي للقلق‘ أو ’كل شيء سيكون على ما يرام‘، فإنك بهذا تنكر مشاعره وتقلل من شأنها. وإن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على أنك لا تنصت حقاً لما يقوله الآخرون، بل وتسهم دون قصد في خلق بيئة يفتقر فيها أعضاء الفريق إلى الإحساس بالدعم.
الحل البديل: تنصح غودمان بإعطاء الأولوية للاستماع للآخرين وفهمهم واحترام مشاعرهم، كما يوصي ليستر بضرورة تقبّل تجربة الطرف الآخر مثلما هي، بدلاً من محاولة فرض رؤيتك عليه، وتجنُّب الانسياق وراء المفاهيم المغلوطة عن القدرة على التحمُّل، موضحاً: "ثمة تصورٌ شائع بأن القوة تعني قدرة الإنسان على مواجهة كل شيء بمفرده والنهوض فوراً بعد أي انتكاسة، لكن هذا يتنافى مع حقيقة التجربة الإنسانية"، فمن الطبيعي أن يمر الإنسان بظروف صعبة ويحتاج إلى المساعدة أحياناً.
العلامة الثانية: اعتبار المشكّكين أشخاصاً "صعبي المراس".
عندما يكون لديك موظف دائم الشكوى أو النقد، فمن المؤكد أنك ستعتبره شخصية سلبية أو تمنحه لقب "الموظف صعب المراس"، لكن هذا التصور قد يكون أحد أعراض الإيجابية السامة، على حد قول غودمان التي أوضحت: "تتجلى هذه الظاهرة في بيئة العمل من خلال التشنيع على مَن يعبّر عن مخاوفه ووصفه بأنه مجرد متذمر أو مبالغ في النقد"، ما يوصل رسالة بأن مخاوفه غير مشروعة.
الحل البديل: لا تغفل قيمة الآراء الناقدة ضمن فريقك. تقول غودمان: "لا بد من وجود مَن يلفت الانتباه إلى الأخطاء والمشكلات". اعمل على تعزيز الأمان النفسي، بحيث يتمكن أعضاء الفريق من طرح المشكلات دون خوف أو شعور بالذنب. توضح غودمان أن بعض القادة يعتقدون خطأً أن السماح لأفراد فريقهم بالتعبير عن آرائهم سيؤدي إلى تراجع الإنتاجية، ولكن ثبت في واقع الأمر أن "منح الموظف مساحة ووقتاً للتعبير عن الرأي يعزز صحة بيئة العمل. أما كبت آرائه أو رفض الاستماع إليه فهو ما يؤدي في النهاية إلى الانفجار العاطفي بسبب تراكم المشاعر المكبوتة".
العلامة الثالثة: التركيز دائماً على "الجانب المشرق" والبحث عن "بارقة الأمل".
"لا يعرف قيمة النعمة إلا مَن يجرب المتاعب".
"الضربة التي لا تقتلني تقويني".
"رُبَّ ضارة نافعة".
يقول ليستر إن هذه الأمثال الدارجة قد تجعلك تبدو شخصاً شديد التفاؤل، لكنها غالباً ما تخفي وراءها إيجابية سامة. تضيف غودمان: "الأخطر من ذلك أن هذه العبارات اللطيفة في ظاهرها غالباً ما تبدو جوفاء وغير صادقة، بل ومتعالية أحياناً؛ إذ يشعر الآخرون بأنك تريد منهم التوقف عن الكلام، وغالباً ما يكون هذا مقصدك فعلاً".
الحل البديل: توقف عن ترديد العبارات المستهلكة. تنصح غودمان بالإنصات الفعّال لفهم احتياجات زميلك ورغباته في تلك اللحظة؛ فقد أثبتت الدراسات أن القائد الذي يطبق هذا النهج يقلل شعور موظفيه بالقلق ويعزز وعيهم الذاتي. تقول غودمان: "يريد الإنسان في أعماقه أن يشعر بأن الآخرين يفهمونه". تعلم من أسلوب المعالجين النفسيين الذين يعيدون صياغة الكلام للتأكد من فهمهم الصحيح لما يُقال. وتنصح باستخدام عبارات تُعبّر عن التعاطف، مثل: "أنا في صفك" أو "هذا منطقي" أو "أريد مساعدتك". ويضيف ليستر: "لا تفترض أنك تعرف شعور الطرف الآخر، ولا تحاول إسقاط تجربتك الشخصية عليه"؛ فقد نمر بالتجربة نفسها، لكنّ كلاً منا يتأثر بها على نحو مختلف.
العلامة الرابعة: الإسراع إلى اقتراح الحلول عند إبداء زملائك انزعاجهم، بدلاً من محاولة فهم مشاعرهم.
عندما يعبر أحد زملائك عن موقف يسبّب له التوتر في العمل، تسارع إلى اقتراح الحلول، وتنهال عليه بأسئلة مثل: "هل جربت هذا؟ ماذا عن ذلك؟ إليك ما يجب عليك فعله". يقول ليستر إن هذا التسرع في تقديم الحلول هو أحد أشكال الإيجابية السامة؛ لأنه يعامل مشاعر الزميل وكأنها عقبة يجب تجاوزها، بدلاً من الاعتراف بها واحترامها. ويضيف قائلاً: "قد لا تنتبه إلى أن زميلك لم يطلب منك حلاً، بل كان بحاجة إلى مَن يصغي إليه للشعور بأنه موضع اهتمام".
الحل البديل: ينصح ليستر بمنح زميلك الفرصة للتعبير عن مشاعره والتنفيس عنها قبل تقديم أي حلول، قائلاً: "استمع بقصد الفهم، لا لمجرد الرد". رغبتك في المساعدة تستحق التقدير، لكن حاول كبح اندفاعك لتقديم الحلول فوراً. وإذا سعيت لجعل النقاش أكثر إيجابية، فتنصح غودمان بالتركيز على "الخيارات الواقعية والممكنة لهذا الشخص، بدلاً مما كنت ستفعله لو كنت مكانه، فما يناسبك قد لا يناسب الآخرين".
العلامة الخامسة: عدم التردد في طرح أفكارك على لينكد إن كلما سنحت الفرصة.
تعج وسائل التواصل الاجتماعي بمظاهر السعادة المصطنعة، بدءاً من صور الغروب الساحرة وصولاً إلى اللقطات المنتقاة بعناية لتعكس حياة مثالية. تقول غودمان إن لينكد إن هو المنصة المثالية لمَن يسعون لإبراز الجوانب الإيجابية في مكان العمل؛ إذ تعج صفحاتهم بمنشورات تتحدث عن "الفخر الشديد" بزملاء العمل والشركات التي يعملون بها و"السعادة الغامرة" بالإعلان عن شغل وظائف جديدة، أو إتاحتها، واستعراض "الإنجازات المذهلة".
قد يكون الاحتفاء بالإنجازات خطوة استراتيجية ذكية تخدم مسارك المهني، وقد يكون الثناء على الآخرين لفتة لطيفة، لكن إذا كنت تفعل ذلك باستمرار لإظهار التفاؤل فحسب، فقد يكون هذا علامة على إيجابية سامة كامنة. تقول غودمان إن السعي الدائم لإظهار الإيجابية قد يخلق واجهة زائفة يبدو فيها كل شيء مثالياً، ما يضع صاحبه تحت ضغط مستمر للحفاظ على هذا المظهر.
الحل البديل: راجع نفسك في المرة القادمة قبل أن تكتب منشوراً أو تعليقاً يحفل بالمبالغات واللغة المنمقة التي تجعل الكلام يبدو مصطنعاً. تقول غودمان إن المطلوب ليس "الإفصاح عن أصعب جوانب حياتك على الإنترنت"، بل الحرص على ألا "تلجأ إلى الإيجابية للهروب من مشاعرك الحقيقية". ابحث عن أشخاص يمكنك مشاركة أفكارك ومشاعرك معهم بصدق؛ إذ تحذر من "مخاطر عدم وجود شخص موثوق يمكنك الفضفضة معه دون تحفظات أو أي وسيلة صحية للتنفيس عن انفعالاتك؛ لأن هذا قد يعرضك لضغط نفسي كبير". وتشدِّد على "أهمية بناء علاقات صادقة داخل بيئة العمل وخارجها".
إن مواجهة الإيجابية السامة لا تعني بالضرورة التخلي عن التفاؤل كلياً. يقول ليستر: "لا يُعد التحلي بالتفاؤل في حد ذاته شكلاً من أشكال الإيجابية السامة"، لكن الأهم أن تنشئ بيئة عمل يشعر فيها الزملاء بالاهتمام بهم وتفهُّم مشاعرهم. ولتحقيق هذه الغاية لا بد من إتقان فن الاستماع وتقديم الدعم الحقيقي والسماح للآخرين بالتعبير عن مشاعرهم دون تجميل حتى إن كان ذلك صعباً.