تحظى الاستدامة باهتمام متزايد من الشركات الأميركية، وذلك على الرغم من الآراء المتناقضة التي يبديها قادة الحكومة الأميركية حول التغير المناخي وكيفية تحقيق الاستدامة المالية في الشركات، أضف إلى ذلك رفع المساهمين لسقف مطالبهم البيئية والاجتماعية، وإبداء المستهلكين قلقهم إزاء الكيفية والمعايير التي تتبعها الشركات في صنع منتجاتها، هذا فضلاً عن تعبير الموظفين الموهوبين من جيل الألفية (الأشخاص الذين ولدوا في الفترة بين منتصف الثمانينيات من القرن السابق إلى منتصف التسعينات من القرن نفسه) عن رأيهم بالرغبة في مغادرة الشركات المتقاعسة عن ركب الاستدامة. وفي الوقت نفسه، تسهّل التقنيات الحديثة من تحقيق العائد على الاستثمارات المخصصة للاستدامة على المدى المتوسط والبعيد.
وقد شهدت ثمانينيات القرن الماضي ظاهرة مماثلة، عندما احتلت الجودة مكانة هامة بين الشركات الصناعية، وأدى ذلك إلى تبنّي الكثير من معايير الجودة في المكافآت التحفيزية، حيث ساعدت هذه الإجراءات المسؤولين التنفيذيين على تركيز اهتمامهم وضمان تنفيذ مبادرات تحسين الجودة، وكنتيجة لذلك، تحسنت خلال العقد التالي لذلك مباشرة، مستويات الجودة كثيراً، لذلك آن الأوان للشركات أن تقوم بالخطوات نفسها تجاه الاستدامة.
الجدوى المتعلقة بالاستدامة
كما هو متعارف عليه بين مستشاري التعويضات، لا يمكن أن تتضمن خطط الشركة أكثر من مجموعة محددة من المعايير، لذلك تحتوي معظم الخطط على أقل من 6 معايير: واحد أو اثنان من المعايير المالية مثل نمو المبيعات والعائد على الأسهم، واثنان أو ثلاثة من المعايير غير المالية التي تنتمي إلى مجالات مثل الجودة أو الابتكار، ووجود أكثر من ذلك يهدد بتشتيت تركيز المسؤولين التنفيذيين. لذا، حتى تبرّر لجنة التعويضات معياراً جديداً، يجب أن يكون لديها دراسة جدوى قوية.
لحسن الحظ، فإنّ نطاق دراسات الجدوى المتعلقة بالاستدامة واسع، حتى وإن كان من الصعب في بعض الأحيان قياسها، ونذكر منها:
- يمكن للالتزام القوي بالاستدامة تعزيز سمعة الشركة لدى العملاء والموظفين.
- يمكن أن تؤدي الاستدامة إلى كسب رصيد سياسي لدى الهيئات الرقابية الحكومية، والتي قد تمنح للشركة قدراً أكبر من حرية الحركة.
- لا يتعلق الأمر بالحدّ من مخاطر تراجع أداء الشركة فحسب، بل يمكن للشركة أيضاً خلق منتجات وخدمات جديدة مربحة لتلبية الحاجات العالمية الملحّة مثل الحاجات المرتبطة بندرة المياه، والأمن الغذائي، وانبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
- أخيراً، يمكن أن تغطي بعض الاستثمارات الموجهة للاستدامة تكاليفها على المدى البعيد، وذلك عن طريق تقليص استهلاك الطاقة والحدّ من التبذير.
من المرجح أن تصمد هذه العوامل حتى ولو قلّصت الحكومات في الولايات المتحدة الأميركية والبلدان الأخرى تدخلها الرقابي، ونعتقد أنه من غير المرجح أن يحدث ذلك على المدى البعيد.
كيفية تحقيق الاستدامة المالية في الشركات
وقد أدرك المساهمون هذه الأمور وعبّروا عنها. إذ حدّدت شركتنا "سيملر بروسي" (Semler Brossy) حوالي 200 مقترح مرتبط بالبيئة حتى عام 2017، وذلك من طرف مساهمي شركات "راسيل 3000" (Russell 3000)، وهو ما يفوق إجمالي المقترحات التي حددناها عام 2016، كما ارتفع متوسط دعم المستثمر لمثل هذه المقترحات ليبلغ مستوى جديداً قدره 29%، وحصل 4 مقترحات على دعم الأغلبية، أي أكثر من عدد المقترحات التي حصلت على دعم الأغلبية خلال السنوات الست السابقة مجتمعة.
وتقدم المؤسسات الاستثمارية المساعدة لتنفيذ هذه المقترحات. فقد ذكرت مؤخراً مؤسسة "بلاك روك" (Black Rock)، أكبر مؤسسة تنشط في مجال إدارة الأصول، أنه "يمكن أن توفر العوامل البيئية والاجتماعية وعوامل الحوكمة المرتبطة بنشاط الشركة أفكاراً جوهرية حول فاعلية الإدارة، ومن ثم التنبؤ بالفرص المستقبلية للشركة على المدى الطويل".
اقرأ أيضاً: 6 طرق يتحدث بها قادة الشركات عن الاستدامة
تمثل هذه العبارة "المرتبطة بنشاط الشركة" شرطاً أساسياً. وبدلاً من العمل على تحقيق كل أهداف الأمم المتحدة في مجال التنمية المستدامة التي يبلغ عددها 17، على سبيل المثال، من المرجح أن تتجه الشركات إلى مواءمة جهود الاستدامة حسب الأولية التجارية، فمثلاً تكرس شركة "كوكاكولا" الكثير من الموارد لإنشاء إمدادات بالمياه النظيفة في البلدان النامية. أما شركة التعدين الكبيرة "باريك غولد"، فتعمل على الحفاظ على النظم الإيكولوجية المحلية عندما تنقب عن المعادن. كما ساهم تجار تجزئة الملابس مثل "وول مارت" (Walmart) في تحسين ظروف عمل العمال منذ الانهيار المأساوي لمصنع "رنا بلازا" (Rana Plaza) في بنغلاديش في عام 2013، كما أن معظم الشركات الكبرى في صناعة السيارات تستثمر في السيارات الكهربائية.
علاوة على ذلك، لا يتعين على كل شركة أن تتوقع إضافة معيار الاستدامة إلى معاييرها الأساسية المعتمدة في التعويضات، على الأقل ليس في الوقت الحاضر، وإنما يجب أن تقتصر هذه الخطوة على الشركات التي لديها دراسات جدوى واضحة وخطط تطوير محددة. ومن خلال تجربتنا، يمكن القول إن معظم الشركات لم تنفّذ حتى الآن هذه الخطط والدراسات، فبدون مقاييس محددة بدقة ومدعمة بخطط ملموسة، تصبح الاستدامة هدفاً مبهماً يسهل على المسؤولين التنفيذيين إهماله، وهو ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى عواقب غير مقصودة.
في حال غياب الاستدامة عن معايير التعويضات، تحتفظ مجالس الإدارة بالحق في تخفيض المكافآت التحفيزية عند حدوث ضرر كبير في أعمال الشركة أو سمعتها، لذا فإن التصرفات غير المسؤولة التي يكون لها أثر سلبي في الاستدامة يمكن أن تؤثر أيضاً في المكافآت التي يحصل عليها الموظفون كحوافز. تميل معظم الشركات لعدم الإفصاح عن هذا الخيار واستخدامه ضمنياً، لكن إذا ما أردنا زيادة فاعليته، نوصي باستخدام لغة واضحة ومباشرة تعبّر عن سياسة "عدم الإضرار"، وتتعلق بتخفيض قيمة المدفوعات في حال وجود إخفاقات مرتبطة بالاستدامة، مثل حدوث تسرّب نفطي نتيجة لعدم أخذ الاحتياطات الكافية. يمكن أن يمثل مطلب مثل هذا تذكيراً مفيداً بأنّ الاستدامة قضية أساسية للشركة حتى في غياب المعايير الخاصة بها.
اقرأ أيضاً: كيف يجب أن تُربط مكافآت المديرين التنفيذيين بالاستدامة؟
على المدى القصير، نعتقد أن اعتماد معايير الاستدامة في أنظمة التعويضات الخاصة بالشركات سينحصر على أقلية كبيرة من الشركات، وذلك حتى لو كان من المرجح أن أغلبها سيعتمد هذه المعايير على مستوى الأقسام فقط. وإما أن تحصل هذه الشركات عادةً على مكاسب كبيرة جرّاء ريادتها في تبني معايير الاستدامة، وإما أن تواجهها مخاطر كبيرة في حال تخلفها عن السباق في تبني هذه المعايير. لكن حتى هذه الأقلية الكبيرة من الشركات تعتبر قفزة نوعية بالنسبة إلى الوضعية الحالية.
خلال دراستنا التي شملت شركات "إس آند بي 500" (S&P 500)، ربطت 2% فقط من الشركات المعايير البيئية بتعويضات المسؤولين التنفيذيين، وكانت نسبة الشركات التي ربطت التعويضات بمعايير متنوعة في حدود 2.6%، أما معيار الاستدامة الأكثر شيوعاً فكان معيار السلامة بنسبة 5% من الشركات، وهي غالباً الشركات التي تخسر كثيراً عند وقوع حوادث مرتبطة بالسلامة. وفي الواقع، كان قطاع الطاقة هو الأعلى في استخدام معايير الاستدامة بفارق واسع عن بقية القطاعات، وذلك بنسبة 25% من مجمل الشركات التي تستخدم معايير التعويضات. أما الآن وبعد أن أصبحت الاستدامة قضية ملحّة على نطاق أوسع، فيتعين على مزيد من القطاعات الصناعية تقييم دراسات الجدوى المحتملة.
وربما يرى المتشككون أن الاستدامة غامضة جداً بحيث لا تصلح كمعيار للتعويضات، لكن الدراسات تشير إلى غير ذلك، فقد استنتجت دراسات منفصلة عن الشركات الأميركية والكندية والألمانية إلى أن خلق حوافز تنفيذية للاستدامة كان فاعلاً في تعزيز الجهود المرتبطة بالقضايا البيئية والاجتماعية لتلك الشركات.
قبل 5 سنوات، تعهدت شركة عالمية للمنتجات الاستهلاكية بشكل جريء بالتخلص التدريجي من جميع غازات الاحتباس الحراري المنبعثة من مصانعها بحلول عام 2037. وقد سعت الإدارة إلى تحقيق وفورات مباشرة في الطاقة وخلق علامة تجارية أقوى تحظى باحترام المالكين والموظَفين والمستهلكين. لقد كانت خطة طموحة ولكنها أيضاً ملموسة.
في سبيل تنفيذ هذا الالتزام الكبير، ربط مجلس الإدارة تعويضات الإدارة العليا بالخطوات المحققة على طول المسار الممتد على مدار 25 عاماً. كما وفّر الحافز الوسائل اللازمة لتعزيز الالتزام عن طريق ضمان توفير الموارد الكافية لهذه المبادرة الرائدة في هذا القطاع. وبعد 5 سنوات، أحرزت الشركة تقدماً تخطّى الجدول الزمني المحدد، وهو ما دفعها إلى توسيع تعهداتها لتشمل الحد من الغازات المنبعثة من أجزاء سلسلة التوريد بكاملها.
في الوقت الذي ربما تتراجع فيه الحكومة الفيدرالية عن قضية الاستدامة، تدرك الشركات الأميركية بشكل متزايد أهمية الاستدامة كمسألة تجارية. كنتيجة لتنامي أهمية الاستدامة، يتلقى زملاؤنا في "سيملر بروسي" المزيد من المكالمات التي تستفسر عن ربط الاستدامة بتعويضات المسؤولين التنفيذيين، وهي الخطوة التي ليست في متناول جميع الشركات. أما بالنسبة إلى الشركات المستعدة لالتزام ملموس حول كيفية تحقيق الاستدامة المالية في الشركات، فيمكن لربط الاستدامة بتعويضات المسؤولين التنفيذيين أن يؤتي ثماره في قيادة السوق على المدى البعيد.
اقرأ أيضاً: