ظهر جنيه بريكستون (وهو العملة الخاصة بمدينة بريكستون البريطانية) بصفته عملة ورقية لأول مرة في سبتمبر/أيلول 2009. وبعد عامين، تم الإعلان عن إطلاق المنصة الإلكترونية للعملة نفسها، والتي تمكّن حاملها من الدفع عن طريق إرسال رسالة نصية قصيرة. وهذه العملة التي أطلقت بالشراكة مع "الاتحاد الائتماني لبريستول" (Bristol Credit Union)، يستعملها الآن أكثر من 650 شركة ومؤسسة، حيث يبلغ حجم الأموال المتداولة حالياً من هذه العملة بشكليها الورقي والإلكتروني 528,000 جنيه.
يعتبر جنيه بريكستون وسيلة للمبادلة، لكنه من الناحية التقنية لا يعتبر وسيلة قانونية لإجراء الصفقات، لأنه لا يشكل وعداً مدعوماً من الحكومة بالدفع إلى حامله. لكنه مثال جيد على ظاهرة جديدة أسميها "المال القبلي" (نسبة إلى القبائل).
فالأموال القبلية هي عبارة عن عملة لم توجدها مؤسسة أو سلطة وطنية، وإنما مجموعة من الناس الذين لديهم قضية مشتركة. أما أنصار جنيه بريكستون فإنهم يستعملون الشعار التالي: "تجعل المجتمع يشعر بالفخر". وثمة مناطق أخرى في المملكة المتحدة وخارجها تحاول إطلاق عملات جديدة. حيث إن هناك 70 عملة مكمّلة من هذا النوع في إسبانيا وحدها، على سبيل المثال، وأكثر من 5,000 عملة حول العالم.
فلماذا تشهد "الأموال القبلية" تنامياً وتصاعداً في نفس الوقت الذي نجد فيه الحواجز أمام التجارة والعولمة تتداعى وتنهار؟ من جهتهم، يقول الاقتصاديون الكلاسيكيون بأن المال يؤدي وظائف ثلاث: يعطي قيمة للسلع القابلة للتداول، وهو وسيلة للدفع، كما أنه احتياطي للقيمة. بيد أن هناك وظيفة رابعة مهمة غالباً ما يتجاهلها الناس ولا ينتبهون إليها: يمنح المال نوعاً من الإحساس بالانتماء. والمال يعطي إحساساً بالهوية. وليس من قبيل المصادقة أن تحمل القطع النقدية والعملات الورقية صور الملوك والرؤساء والأبطال القوميين.
فيما يخص جنيه بريكستون، فهو يؤدي الوظيفتين الأوليين أداء جيداً: فهو يعطي قيمة للسلع القابلة للتداول، ويمكن أن يُستعمل للدفع. ولكنه على الأرجح ليس جيداً في أداء الوظيفة الثالثة، أي كاحتياطي قيمة – فهذا النوع من العملات المُكمّلة يميل إلى خسارة قيمته مع مرور الوقت. ولكن الأهم من كل ذلك بالنسبة لجنيه بريكستون هو أنه يمنح إحساساً بالانتماء. ما يعني بأن حامله جزءاً من قبيلة.
فخلال القرن التاسع عشر، حاولت الدول القومية المنشأة حديثاً البحث عن عناصر موحدة تلم شمل أبناء المجتمع وتربطهم معاً. وقد اتخذ هذا الأمر أشكالاً عديدة: مثل وجود دستور وطني، ولغة وطنية، ومصارف وطنية، وعملة وطنية، بما في ذلك وضع الرموز الوطنية على العملات الورقية الصادرة حديثاً. على سبيل المثال، إنشاء البيزيتا الإسبانية عام 1868 جاء بالتوازي مع إنشاء "بنك إسبانيا" عام 1856، واحتكاره لإصدار العملة عام 1874، مع إلغاء جميع العملات الأخرى التي كانت قيد الاستعمال في ذلك الزمان (إيسكودوس، ريال، مارافيديس). وبعد إصدار البيزيتا، صدرت العملات الورقية والعملات المعدنية والطوابع وكلها تحمل صوراً لرموز الأمة الاسبانية: الملوك والملكات وغير ذلك من الأيقونات السياسية والثقافية.
أما اليوم، فإن البيزيتا الإسبانية والفرنك الفرنسي واللير الإيطالي والمارك الألماني – وكلها تحتل مكانة خاصة في قلوب وعقول بنات وأبناء الدول الأصلية التي أصدرتها – قد استبدلت باليورو. بينما اللافت أن المملكة المتحدة، وهي دولة على شكل جزيرة، لا تزال تحتفظ بالجنيه الإسترليني. وبالتالي، فإن الدول القومية، على الأقل في أوروبا، لم يعد لها المعنى نفسه الذي كان قائماً يوماً.
وبما أن التماهي مع الدول القومية القديمة يفقد قوته رويداً رويداً، فإن الروابط القبلية أصبحت أقوى. فالقبائل لم تعد تعرَّف بالحدود الوطنية، وإنما بالمجتمعات ذات المصالح المشتركة. ومع تراجع رموز الفخر الوطني، فإن القبيلة تصبح هي حامل الهوية – وترغب بتبنّي عملتها الخاصة بها. وإذا ما نظرنا إلى الأمور من هذه الزاوية، نجد أنه من المنطقي تماماً أن تظهر الآن العملات المكمّلة المستندة إلى مجتمع محلي معين.
حتى الآن ليس هناك تماهٍ عاطفي كبير مع المؤسسات الأوروبية. فهي مفرطة في حجمها، ومفرطة في طابعها المجرد، وبعيدة عن تجسيد ارتباطنا العاطفي. لكن البشر لديهم حاجة أساسية للانتماء إلى مجتمع محلي ما يمكنهم من المساهمة والمشاركة فيه. كما أن العملات المستقلة تعطي إحساساً بالاستمرار والانتماء يشعر به المواطنون الأوروبيون في هذه الأوقات الانتقالية التي نمرّ بها.