أدت زيادة توافر البيانات في عالم الواقع إلى خلق حالة من الإثارة الهائلة في مجال الرعاية الصحية. وبحسب بعض التقديرات، تزداد أحجام البيانات الصحية بنسبة 48% سنوياً. ولقد شهد العقد الأخير ازدهاراً في جمع هذه المعلومات وتخزينها. ومن بين هذه البيانات، توفر السجلات الصحية الإلكترونية للمرضى فرصة كبيرة للتوصل إلى استنتاجات جديدة وإلى تغيير الفهم الحالي للرعاية الصحية للمرضى.
لكن تحليل بيانات السجل الصحي الإلكتروني للمريض يتطلب أدوات يمكنها معالجة كميات هائلة من البيانات سريعاً وفي وقت قصير. وهنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي، وبشكل أكثر تحديداً التعلم الآلي، الذي يزعزع بالفعل مجالات مثل اكتشاف العقاقير والتصوير الطبي، وإن كان لا يزال في بداياته الأولى فقط ولم يتم الكشف عن كل إمكاناته الهائلة في مجال الرعاية الصحية.
لننظر في تلك الحالة الخاصة بشركة أدوية عملنا معها. فقد طبقت هذه الشركة التعلم الآلي على السجلات الصحية الإلكترونية وعلى غيرها من البيانات لدراسة الخصائص أو المسببات التي تستدعي انتقال المرضى الذين يعانون من أحد أنواع أورام الغدد الليمفاوية غير السرطانية إلى خط آخر من العلاج. أرادت الشركة أن تفهم التطور السريري للمرض بشكل أفضل، وأن تفهم أفضل علاج يناسب المرضى في كل مرحلة من مراحل المرض. تسلط قصة هذه الشركة الضوء على ثلاثة مبادئ توجيهية يمكن لشركات الأدوية الأخرى استخدامها لنشر التحليلات المتقدمة بنجاح في مؤسساتها.
وضع فرضيات ذات مغزى (وضمان التأييد المؤسسي) يتطلبان إشراك الأطراف المعنية المناسبة. ففي حين أنّ الدافع قد يكون الدخول مباشرة إلى البيانات والبدء في تحليلها، إلا أنّ الخطوة الأولية الحاسمة هي وضع الأسئلة الأساسية الخاصة بالعمل والتي يجب الإجابة عنها ووضع الفرضيات؛ إذ إنّ إنشاء قائمة شاملة بالفرضيات التي يمكن التعامل معها سوف يتيح للفريق فرصة تحديد أنواع البيانات التي ستكون ضرورية لاختبار تلك الفرضيات وإثباتها (أو دحضها).
من المهم التعرف على وجهات نظر الأطراف المعنية المؤثرة حول الفرق الوظيفية في جميع أنحاء الشركة لضمان توفر الخبرات المناسبة عند التفكير في الفرضيات من أجل توفير أعلى قيمة للشركة. ويساعد هذا أيضاً في كسب التأييد وبناء الثقة في التحليلات.
في هذه الحالة، شكلت شركة الأدوية فرقاً من مجموعاتها المختصة بعلامتها التجارية وفرقاً من مجموعاتها الطبية وأخرى من مجموعات التحليل الذكي للأعمال التجارية لوضع فرضيات حول دلالات التنبؤ المحتملة لحاجة المرضى للانتقال من علاج إلى آخر، بالإضافة إلى مسببات هذا الانتقال. على سبيل المثال، في محاولة من جانب المجموعات المختلفة لوضع الفرضيات بشأن ما يسرع تطور المرض أو يبطئه، شاركت المجموعة الطبية بفهمها السريري للمرض، وقدم فريق العلامة التجارية فهماً مفصلاً لعروض العلاج الخاصة بالشركة وكيف يستخدمها الأطباء. كما قدم فريق التحليل الذكي للأعمال التجارية الأساليب والطرق التحليلية ومجموعات البيانات التي استخدمت بالفعل لتشكيل الفهم الحالي لتطور المرض ومراحل العلاج .
أفضل مجموعة بيانات ربما تكون مزيجاً من مجموعات من البيانات. من الأهمية بمكان تحديد مجموعة بيانات تكون واسعة النطاق وغنية بما يكفي لتدريب خوارزمية التعلم الآلي بشكل صحيح. وينطبق هذا على وجه الخصوص على علم الأورام، حيث تكون هناك حاجة إلى عدد كبير من المتغيرات - بما في ذلك العمر والنوع وتاريخ التشخيص والتاريخ الدوائي والعلاجي ونتائج المختبر واللقاءات التي تمت في المستشفى - التي يتم جمعها حول العديد من المرضى على امتداد فترة زمنية طويلة بما يكفي لإجراء تحليل فعال.
أدركت مجموعة التحليلات في الشركة الدوائية أنّ بياناتها الداخلية لم تحدد المتغيرات التي من المرجح أن تتنبأ بحاجة المريض للانتقال إلى أسلوب علاج آخر بعمق كاف. لأجل هذا انتهجت المجموعة استراتيجية استخدمت فيها البيانات الداخلية والخارجية، حيث جمعت بين مجموعة بيانات السجل الصحي الإلكتروني المتكاملة والمنظمة الخاصة بالأورام وبعض التحاليل التي تم تكرارها والتحقق من صحتها في بيانات المطالبات الطبية.
تم جمع البيانات كافة مع بعضها وإدخالها في محرك للتعلم الآلي لاكتشاف السمات آلياً (AFD) بحيث أتاح هذا المحرك للشركة فرصة اختبار الملايين من الفرضيات في غضون ساعات. استكشف المحرك كل تنويع محتمل لبيانات المريض لمعرفة ما إذا كانت هناك أي متغيرات لها علاقة ذات دلالة إحصائية مع الانتقال إلى خط علاجي لاحق. ساعدت الرؤى التي تم الحصول عليها من الخبراء المتخصصين في ضمان صلة نتائج اكتشاف السمات آلياً من الناحية السريرية. على سبيل المثال، عندما ارتبطت زيادة مؤشرات وظائف الكبد مع تقدم المرض، أكد المسؤولون الطبيون أنه على الرغم من أنّ ذلك لم يكن عاملاً سبق أن أخذوه في الاعتبار، إلا إنه كان ممكناً من الناحية السريرية.
حلقات التعليقات والملاحظات (المتعددة) هي مفتاح الحصول على نتائج رائعة. تعتبر عملية الاختبار والتعلم المتكررة أمراً بالغ الأهمية لتطوير نموذج دقيق. اختبرت مجموعة التحليلات في شركة أدوية أكثر من 200 نتيجة مختبرية وأمراض مترافقة مزمنة رئيسة وعناصر من التاريخ الطبي للمرضى. لقد ساعد التعلم الآلي على تحديد مجموعات المتغيرات الهامة التي تتنبأ بالحاجة إلى الانتقال إلى خط علاجي جديد وعزلها. وتم التحقق من صحة النماذج وتنقيحها لتجنب الضوضاء والحد من عدد المتغيرات.
بعد أسابيع من تكرار التعلم والتثبت، جرى بنجاح تطوير نموذج للتنبؤ بتقدّم حالة المريض بداية من التشخيص الأولي وحتى الخطوط العلاجية اللاحقة. على وجه التحديد، تم استخدام التعلم الآلي لاستخلاص السمات والمسببات المرضية من التاريخ العلاجي للمريض ومن تاريخه المختبري والدوائي، واستخدمت السمات التي تم التحقق من صحتها في ترتيب المرضى وتصنيفهم حسب الاحتمال المتوقع للانتقال إلى خط علاجي آخر.
كشفت النماذج الكثير من الإيضاحات الهامة، بما في ذلك:
- أوجه التباين الحادة في نتائج مختبرية محددة، مثل ارتفاع مؤشرات وظائف الكبد، ما يعني زيادة احتمالية انتقال المريض إلى الخط التالي من العلاج بنسبة تصل إلى 140% في بعض الحالات.
- كانت احتمالية انتقال المرضى الذين يخضعون لعلاج المداومة إلى الخط التالي من العلاج أقل بمعدل 20%.
***
مع استخدام البيانات والعمليات التنظيمية والمعرفة الإكلينيكية الملائمة وتطبيقها، يمكن أن يحدث التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي فرقاً كبيراً في مجال الدواء والرعاية الصحية في وقتنا الحالي على الرغم من بعض القيود التي لا تزال قائمة. على سبيل المثال، ربما يكون من الصعب فهم سبب وصول بعض النماذج المعقدة إلى استنتاجاتها، كما أنّ تسمية مجموعات البيانات الضخمة المطلوبة للنماذج الملحة يمكن أن تكون عملية شاقة للغاية.
ومع ذلك، يجري حالياً التعامل مع مثل هذه القيود، حيث تساعد تقنيات وأساليب مثل "لايم" (LIME) في إظهار منطق الاستدلال في النموذج. وهناك جهود حثيثة لاستخدام التعلم الآلي نفسه لتسمية مجموعات البيانات. ومع رفع القيود، سوف تتوسع بشكل كبير فرص الرعاية الدوائية والرعاية الصحية. تلك الشركات التي بدأت بالفعل في الاستفادة من التعلم الآلي ستكون لديها قاعدة راسخة من البنية التحتية والعمليات والإجراءات المطلوبة للاستفادة من هذه الفرص.