نموذج الإمارات في استشراف المستقبل من أجل تعزيز الجاهزية والاستباقية

6 دقيقة

يقول بيتر دراكر: "لا يمكنك التنبؤ بالمستقبل، ولكن يمكنك صنعه"، وكذلك يرى آلان كاي أن اختراع المستقبل أسهل من التنبؤ به، وعلى نحو مماثل، يؤمن الحائز جائزة نوبل في الكيمياء، إيليا بريغوجين، أن "المستقبل لا يمكن التنبؤ به، ولكن يمكن صنعه".

لكن القدرة على التفكير في خلق المستقبل وتشكيله تتطلب فهم الأنظمة الحالية، والنظم البيئية، والاتجاهات، والرؤى ثم رسم سيناريوهات وبدائل للوصول إلى صورة للمستقبل المرغوب فيه أو المفضل. فالبصيرة هي لبنة بناء الابتكار والاتجاهات هي أرض خصبة لخلق قيمة جديدة.

إذ ليس في الحياة شيء مستحيل إن استطعنا تخيّله، والتخيل هنا يجب أن يكون مبنياً على التحليل والدراسة المتعمقة للاتجاهات والإشارات الضعيفة (weak signals) والمؤشرات المستقبلية.

إن التغيرات في الهياكل الثقافية والمجتمعية، والتحولات الاقتصادية والمناخية، والتقدم التكنولوجي، والتطورات السياسية والجيوسياسية كلها عوامل تؤثر في اتجاهات المستقبل وتوقعاته، ولا بد من فهمها ووضع خطة استراتيجية مُحكمة للتعامل معها بفعّالية. إذ يمكن لاستخدام تحليل البيانات ودراسة السوق تحديد فرص الأعمال الجديدة والاحتياجات المستقبلية، والمساعدة على توجيه جهود التطوير والابتكار، وتحسين نظام التعليم من خلال الاستثمار في المهارات والتكنولوجيا المناسبة للتعليم.

كيف تتحرك دولة الإمارات نحو المستقبل؟

في مقولة للشيخ محمد بن راشد محفورة على واجهة متحف المستقبل في دبي، هي: "سر تجدد الحياة وتطور الحضارة وتقدّم البشرية، يكمن في كلمة واحدة، هي الابتكار"، واستشراف المستقبل هو مدخل للابتكار، ويُمثّل النهج الرئيس الذي تبنّته دولة الإمارات العربية المتحدة، فمن مرحلة التأسيس إلى مرحلة التمكين وتعزيز الفكر البعيد المدى، كانت رؤية الدولة متفردة ومركّزة على تحقيق نقلات نوعية وقفزات قياسية في كل المجالات وقيادة التغيير الإيجابي في المنطقة والعالم. هذا التفكير الأُسي (exponential thinking) متأصل في عقلية القيادة الإماراتية التي تحرص على جعله أحد المرتكزات والمهارات الرئيسة المطلوبة في نموذج القيادة الإماراتية.

لذا شكّل الحراك الإماراتي للمشاركة في نهج الاستثمار بالمستقبل علامة فارقة في سباق التميّز والريادة ومساعي الوصول إلى مستقبل أفضل وأكثر استدامة للمجتمع والأجيال المقبلة. فقد وظفت الدولة كل الأدوات التي تساعد على توقع الفرص والتحديات المستقبلية وتحليل آثارها، ووضع الحلول المبتكرة لها وتوفير البدائل عنها.

وحرصت حكومة الإمارات على تطوير استراتيجيات ومبادرات جعلتها تحجز مكاناً مهماً على خريطة المستقبل، حيث ركزت هذه الاستراتيجيات والمبادرات على مجالات الصحة والتعليم والتكنولوجيا والاقتصاد والخدمات الحكومية والأمن المائي والأمن الغذائي والاستثمار في رأس المال البشري، وشكّلت دولة الإمارات منصة لتبادل الأفكار والمعارف والتوجهات حول المستقبل من خلال القمة العالمية للحكومات، واستضافة الاجتماعات السنوية لمجالس المستقبل العالمية، بالإضافة إلى ملتقى دبي للمستقبل (Dubai Future Forum).

لقد واكبنا محطات كثيرة في مسيرة الإمارات نحو المستقبل، ففي عام 2016، تولدت حكومة المستقبل مع قرار تحويل وزارة شؤون مجلس الوزراء إلى وزارة شؤون مجلس الوزراء والمستقبل وتم تكليفها بمهام وضع استراتيجية وطنية للتأكد من مواكبة الحكومة وجميع القطاعات لمتغيرات المستقبل، وشهدت الحكومة إضافة وزراء للتغير المناخي والتسامح والتعايش، وانضمام أصغر وزيرة للتشكيل الجديد "شما المزروعي، 22 عاماً" لإدارة شؤون الشباب.

وفي العام نفسه، تحوّلت القمة العالمية للحكومات من حدث عالمي كان يُسمى "القمة الحكومية" إلى مؤسسة عالمية، ترصد التحديات وترسم السياسات الخاصة بالتطور والتقدم عالمياً في القطاعات كافة، وتدعم الحكومات بالتقارير والمؤشرات التنموية، ما خلق تأثيراً أكبر لفعاليات القمة وأضاف بعداً عميقاً للمواضيع والقضايا التي تطرحها. وفي عام 2020، أنشأت جامعة دبي مركزاً متخصصاً للاستشراف والدراسات المستقبلية لمواكبة استراتيجية الإمارات في استشراف المستقبل والعمل على بناء القدرات والمهارات وإجراء الدراسات المستقبلية. وفي عام 2022، دشنت مؤسسة دبي للمستقبل ملتقى سنوياً تحت مسمى "ملتقى دبي للمستقبل"، بهدف جمع مستشرفي المستقبل من شتى أنحاء العالم للتحاور والتعاون في رسم مستقبل أفضل للبشرية ومواجهة التحديات الكونية بفكر استشرافي.

اتخذت الإمارات الابتكار وسيلة للاقتراب من المستقبل، وتبنّت نهج التفكير التصميمي للمطابقة بين أنشطة الابتكار واحتياجات الأفراد، فأطلقت مبادرة التصميم الحكومي في عام 2019 بهدف تحويل الجهود الحكومية نحو تطلعات المجتمع واحتياجات أفراده، وغرس ثقافة التصميم في إطلاق المبادرات والسياسات وتطويرها، من أجل تفعيل الأدوار الاجتماعية والاقتصادية للأفراد، وصولاً إلى تحقيق مستهدفات "مئوية الإمارات 2071" التي تسعى إلى تقدم الدولة في المجالات كافة.

وتشغل دولة الإمارات اليوم المرتبة الأولى عربياً والـ 32 عالمياً في مؤشر الابتكار العالمي لعام 2024، ما يمكّنها من التحول إلى اقتصاد قائم على المعرفة، واستثمار الطاقات البشرية المبدعة في بناء مستقبل أفضل. إذ تؤكد رؤية "نحن الإمارات 2031" القوة الاقتصادية للدولة ودورها في خلق الفرص الواعدة للنمو المستدام، وتهدف إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي للدولة من 1.49 تريليون درهم إلى 3 تريليونات درهم، وتتضمن خطة عمل لضمان استمرار تطور الإمارات وإدخال التحسينات الاقتصادية والاستثمارية والاجتماعية والتنموية.

بنية رقمية تعزز النمو والرفاه

يتطلب خلق بيئة ابتكارية وريادية عالمية وضع بنية رقمية قوية وفعالة لتوظيف التكنولوجيا في خدمة المجتمع وتحقيق السعادة والرفاه لأفراده، وعليه استهدفت استراتيجية الإمارات للثورة الصناعية الرابعة، تحويل الإمارات إلى مركز تكنولوجي عالمي، وتحقيق اقتصاد وطني تنافسي قائم على المعرفة والابتكار والتطبيقات التكنولوجية المستقبلية التي تدمج التقنيات المادية والرقمية والحيوية.

لكن هدف التحول إلى مستقبل رقمي لا يمكن الوصول إليه دون جيل يمتلك مهارات قيادية وقدرات تكنولوجية متقدمة، فكان الرهان على الفئة الشابة لقيادة التغيير، ومن هنا ركّزت استراتيجية الثورة الصناعية الرابعة على إعداد جيل من المواهب والقدرات الوطنية الشابة، وتزويد أفراده بالمعرفة في العلوم والتكنولوجيا المتقدمة، عبر اعتماد نظام تعليمي يتناسب مع متطلبات الثورة الصناعية الرابعة، وتطوير البيئة المناسبة التي تحفز ريادة الأعمال في القطاعات الحيوية.

وبحسب موقع ستاتيستا، فإن قوة الاقتصاد الرقمي في الإمارات تتولد من قاعدة البيانات الكبيرة التي تمتلكها الدولة والمعدلات العالية للتبنّي الرقمي والمبادرات الحكومية الداعمة للابتكار، فضلاً عن تبنّي الشباب للتكنولوجيا الحديثة، ما أدى بدوره إلى ظهور شركات رقمية ناشئة، وتوقعت أن يتجاوز معدل انتشار تقنيات الواقع المعزز والواقع الافتراضي %50 بحلول عام 2027. كما وضعت الإمارات مستهدفاً بتعزيز الاقتصاد الرقمي ورفع مساهمته في الناتج القومي من %9.7 في عام 2021 إلى %20 بحلول عام 2031، بحسب تصريحات وزير الدولة للذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي والعمل عن بُعد.

ريادة عالمية في مجال الذكاء الاصطناعي

إن المستقبل أسرع مما نعتقد، ومع تزايد فعالية تعلم الآلات، لم يعد الحديث عن المستقبل مجرد ترف أو رفاهية، بل بداية لتسليط الضوء على التحديات والفرص المتاحة. لذا أطلقت حكومة دولة الإمارات استراتيجية الذكاء الاصطناعي 2031، التي مثّلت موجة جديدة في مسار الحكومة الذكية، وتستهدف الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في الخدمات وتحليل البيانات بمعدل %100، والارتقاء بالأداء الحكومي وخلق بيئات عمل مبتكرة لتسريع الوصول إلى مستهدفات مئوية الإمارات 2071.

ويخلق قطاع الذكاء الاصطناعي قيمة اقتصادية مضافة، فبحسب شركة بي دبليو سي (PWC)، من المتوقع أن يسهم القطاع بنحو 96 مليار دولار في اقتصاد الإمارات بحلول عام 2030؛ أي ما يعادل نحو %14 من الناتج المحلي الإجمالي، لذا ركزت الدولة على الاستثمار في الذكاء الاصطناعي من خلال عقد الشراكات والتعاون الدولي مع روّاد الصناعة، إذ قادت مؤخراً استثماراً عالمياً بقيمة 100 مليار دولار عبر اتفاقية بين شركة إم جي إكس (MGX) الإماراتية وشركات بلاك روك وغلوبال إنفراستركتشر بارتنرز ومايكروسوفت. إلى جانب اتفاقية بين شركة جي 42 (G42) ومايكروسوفت لتأسيس مركزين للأبحاث في أبوظبي لدعم قطاع الذكاء الاصطناعي المسؤول.

ولتحقيق هدفها في ريادة قطاع الذكاء الاصطناعي، تركز الإمارات على البحث والتطوير في هذا القطاع، حيث استطاع معهد الابتكار التكنولوجي، المركز العالمي للبحث العلمي التابع لمجلس أبحاث التكنولوجيا المتطورة، تطوير أول نموذج لغوي كبير (LLM)، نموذج نور، وهو أكبر نموذج مدرب مسبقاً على معالجة اللغة العربية الطبيعية، فضلاً عن النموذج اللغوي الكبير "فالكون" والعمل على إطلاق نسخ مطورة منه مثل فالكون 180 بي، وفالكون 2 11، وفالكون 2 11 بي "في إل إم" (VLM).

وتكللت الجهود المستمرة لجعل الإمارات مركزاً رائداً لتطوير أبحاث الذكاء الاصطناعي وتقنياته بإنشاء جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، لتكون أول جامعة للدراسات العليا المتخصصة في بحوث الذكاء الاصطناعي، وقد ترسخت مكانتها عالمياً، حيث أصبحت اليوم من بين أفضل 20 جامعة حول العالم في مجالات الذكاء الاصطناعي، والرؤية الحاسوبية، وتعلّم الآلة، ومعالجة اللغات الطبيعية، وعلم الروبوتات.

وفي السياق نفسه، تعتمد نظرة الإمارات للمستقبل أيضاً على الاستفادة من العلوم المتقدمة لمواكبة التحولات الكبرى المقبلة، واستكشاف الفرص على نحو استباقي، فوضعت أجندة الإمارات للعلوم المتقدمة 2031 الأسس لهذا التوجه حيث حددت 8 أولويات علمية تستهدف تحقيقها بحلول عام 2031. وتعمل هذه الأجندة على تشجيع البحث العلمي من أجل تطوير حلول مبتكرة لتحديات المستقبل.

خطوات مسؤولة تجاه حماية الكوكب

تشكّل التحديات البيئية جزءاً كبيراً من المستقبل، خاصة أن التقرير المناخي الصادر عن الأمم المتحدة يرسم صورة قاتمة لمستقبل الكوكب، متوقعاً أن ترتفع درجة الحرارة بحلول عام 2030 حاجز الـ 1.5 درجة مئوية. وهذا يتطلب اتخاذ إجراءات فورية حاسمة للحد من الانبعاثات.

اتخذت الإمارات دوراً مسؤولاً في مواجهة تغير المناخ من خلال مضاعفة إنتاج الطاقة المتجددة وزيادة كفاءتها، فأطلقت استراتيجية الطاقة 2050 التي تهدف إلى تعزيز كفاءة استهلاك الأفراد والمؤسسات للطاقة بنسبة %40، وزيادة نسبة الطاقة المتجددة من %25 إلى %50 من إجمالي الطاقة المنتجة في الدولة، واستثمار 600 مليار درهم حتى عام 2050، ووضعت الخطة الوطنية للتغير المناخي التي تمثّل الإطار الوطني الشامل لإدارة أسباب تغير المناخ وآثاره، بما يسهم في التحول إلى اقتصاد أخضر.

كما اختارت دولة الإمارات عام 2023 عاماً للاستدامة، الذي شهد العديد من المبادرات لتعزيز الوعي بقيم الاستدامة والتشجيع على تغيير السلوكيات واعتماد الممارسات الصديقة للبيئة. وفي العام نفسه، استضافت مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية للمناخ "كوب 28" (COP28)، الذي خرج باتفاق تاريخي بشأن تحول العالم بعيداً عن الوقود الأحفوري.

التفرّد في السماء

تتجاوز رؤية الإمارات المستقبلية حدود الأرض لتصل إلى عنان السماء، إذ تتخذ خطوات كبيرة نحو التحوّل إلى مركز عالمي لصناعة الفضاء، وبإطلاقها مسبار الأمل إلى مداره على كوكب المريخ في عام 2020، باتت أول دولة عربية وخامس دولة في العالم تصل إلى مدار الكوكب الأحمر، وثالث دولة في العالم تبلغ المدار من المحاولة الأولى.

وتضمّن البرنامج الوطني للفضاء، إعداد رواد فضاء إماراتيين، وخطة لـ 100 عام تهدف إلى بناء أول مستوطنة بشرية على الكوكب الأحمر بحلول عام 2117.

وقد رسّخت هذه الرؤى مكانة الإمارات في مجال صناعة الفضاء بعلومها وتقنياتها وتطبيقاتها وخدماتها المختلفة، من خلال زيادة الاستثمارات في تكنولوجيا الفضاء وبناء أرضية صلبة لكوادر إماراتية تخصصية في علوم الفضاء، لنسمع عن إنجازات هزاع المنصوري، أول رائد فضاء إماراتي، وسلطان النيادي، الذي أكمل مهمة استمرت 6 أشهر في محطة الفضاء الدولية، ونورا المطروشي، ومحمد الملا، وهما أول إماراتيين يتخرجون في برنامج وكالة الفضاء الأميركية "ناسا".

تحوّل استشراف المستقبل إلى ثقافة راسخة ومنظومة متكاملة في دولة تسابق الزمن لمواصلة التميز والريادة وتخيل المستقبل وصناعته. يقول الشيخ محمد بن راشد: "المستقبل سيكون لمن يستطيع تخيّله وتصميمه وتنفيذه، المستقبل لا يُنتظر، المستقبل يُمكن تصميمه وبناؤه اليوم".

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي