يعيش العالم اليوم أزمة صامتة في بيئات العمل. وفق تقرير غالوب 2025، تراجع مستوى التفاعل الوظيفي عالمياً إلى 21% فقط. هذه النسبة المنخفضة تعني أن معظم الموظفين في أنحاء العالم يعملون بلا حماس أو ارتباط حقيقي بمؤسساتهم، ما يكلف الاقتصاد العالمي خسائر قدرت بنحو 438 مليار دولار سنوياً في الإنتاجية المفقودة.
في المنطقة العربية، الوضع أكثر حرجاً. فقد أظهر التقرير ذاته أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من بين المناطق التي سجلت أدنى مستويات التفاعل الوظيفي عالمياً بنسبة لا تتجاوز 14%. بلدان مثل مصر والسعودية تعاني من هذه الظاهرة، إذ كشفت دراسات محلية أن الكثير من الموظفين يشعرون بانفصال عاطفي عن أماكن عملهم، ما يؤدي إلى معدلات استقالة مرتفعة وتدني ولاء الموظفين.
مقارنة عالمية: من يتصدر؟
رغم الصورة القاتمة عالمياً، هناك مناطق أظهرت قدرة أكبر على بناء بيئات عمل محفزة. استعراض معدلات التفاعل في مختلف الأقاليم يكشف الكثير عن سر تفوق بعض المناطق.
- الولايات المتحدة وكندا: تتصدران المشهد بنسبة تفاعل تبلغ 31%، وهي الأعلى عالمياً.
- أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي: تقترب بنسبة 31% أيضاً.
- أوروبا: تحتل مرتبة متأخرة بتفاعل لا يتجاوز 13%.
- منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: كما أشرنا، تقف عند مستوى عالمي بنسبة 14%.
السر في هذه الفروقات يكمن في جودة الإدارة وثقافة العمل الداخلية ومدى استثمار المؤسسات في تطوير قادة الفرق والاهتمام بالرفاهية النفسية للموظفين، فالتفاعل الوظيفي لا يأتي مصادفة؛ بل هو نتيجة سياسات إدارية ذكية وثقافات تنظيمية ناضجة. تشير بيانات غالوب إلى أن 70% من تفاعل الفرق يعتمد على أداء المدير المباشر. في الولايات المتحدة، مثلا، تستثمر كبرى الشركات مثل جوجل و"سيلز فورس" (Salesforce) مبالغ ضخمة في تطوير مديريها عبر برامج تدريب مستمرة:
- جوجل تطبق برنامجاً شهيراً بعنوان "بروجكت أوكسِجن" (Project Oxygen) الذي حدد السلوكيات الأساسية للمديرين الناجحين، وأثبت أن تدريب المدراء على المهارات الإنسانية - وليس فقط التقنية - يحسن تفاعل الفِرق بشكل كبير.
- أما شركة "سيلز فورس" (Salesforce)، فتركز على فكرة بناء ثقافة الاعتراف بجهود الموظفين باستمرار، مما رفع مستويات الارتباط والإنتاجية لديهم بنسبة كبيرة.
على الجانب الآخر، أظهرت شركات كبرى، مثل بعض البنوك الأوروبية، أن تجاهل التفاعل الوظيفي يقود إلى مشكلات كبيرة. تقرير غالوب يذكر أن أوروبا تسجل تراجعاً مستمراً بسبب فجوة كبيرة بين الإدارة العليا وباقي الموظفين وعدم توفير برامج تدريبية كافية للمدراء.
في الشرق الأوسط، التحديات مضاعفة. فمع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية السريعة، كثير من المؤسسات لم تواكب أهمية الاستثمار في تجربة الموظف. تقرير غالوب أشار إلى أن غياب التدريب الجيد للمديرين وقلة الاهتمام بالرفاهية النفسية كانا عاملين رئيسيين في تدني التفاعل.
ومع ذلك، هناك مبادرات واعدة. مثل بعض الشركات في السعودية بدأت تطبق برامج "التدريب على القيادة الإنسانية" لتحسين بيئات العمل، والإمارات تستثمر بشكل متزايد في بناء ثقافة السعادة المؤسسية، وتعد من الدول العربية القليلة التي ترتفع فيها مؤشرات الرضا الوظيفي نسبياً.
كيف نرفع تفاعل الموظفين؟
في عالم يشهد تراجعاً حاداً في ارتباط الموظفين بأعمالهم، يقدم تقرير غالوب خريطة طريق عملية للمؤسسات الراغبة في بناء بيئات عمل أكثر تفاعلاً وازدهاراً. نستعرض هنا أبرز هذه التوصيات مدعومة بأمثلة عالمية ناجحة.
1. تدريب المدراء: توفير برامج تدريب مستمرة تركز على المهارات القيادية والإنسانية
غالوب يؤكد أن 70% من تفاعل الفريق يرتبط مباشرة بالمدير، ومع ذلك تشير البيانات إلى أن أقل من نصف المدراء تلقوا تدريباً رسمياً، لذا، فإن تدريب المدراء لا يقتصر على المهارات التقنية فقط، بل يجب أن يشمل مهارات التواصل، التعاطف، إدارة النزاعات، وتقديم التغذية الراجعة البناءة. على سبيل المثال، مبادرة "بروجكت أوكسِجن" من جوجل حددت إطاراً لتطوير المدراء بناءً على 8 سلوكيات رئيسية مثل "الاستماع النشط" و"التمكين بدلاً من التحكم"؛ وسلسلة "فنادق هيلتون" تعتمد برامج تدريبية داخلية تركز على بناء قادة بمهارات إنسانية قوية، ما ساهم في تصنيفها كواحدة من أفضل أماكن العمل عالمياً.
2. تعزيز ثقافة الاعتراف والشفافية: الاحتفاء بالإنجازات الصغيرة والكبيرة بشكل منتظم
العرفان بالجهود لا يقتصر على الجوائز السنوية الكبرى. الدراسات تشير إلى أن التقدير المنتظم يحسن الرضا الوظيفي ويعزز الشعور بالانتماء. على سبيل المثال، شركة "سيلز فورس" (Salesforce) تطبق ثقافة شكر يومية عبر قنوات إلكترونية حيث يمكن لأي موظف شكر زميله أمام الجميع، مما خلق بيئة عمل إيجابية ومتحمسة، وبعض الشركات الأخرى من تقرير غالوب تقدم "موظف الأسبوع" بطريقة بسيطة لكن مؤثرة، مع مشاركة قصص نجاح الموظفين عبر البريد الإلكتروني الداخلي أو الاجتماعات العامة.
3. دعم رفاهية الموظفين: الاستثمار في برامج الصحة النفسية والتوازن بين الحياة والعمل
التفاعل الوظيفي مرتبط بشدة بالصحة النفسية والبدنية. تقرير غالوب يبين أن الموظفين المزدهرين نفسيًا أكثر إنتاجية وأقل غياباً. شركة "ساب" (SAP) الألمانية على سبيل المثال الألمانية وفرت للموظفين إمكانية الوصول إلى خدمات دعم نفسي مجاني، مع ورش مستمرة حول إدارة الضغط والإجهاد، أما شركة يونيليفر (Unilever) فأطلقت برنامج "مناطق الرفاهية النفسية' (Wellbeing Zones) داخل مكاتبها، وهي مناطق مخصصة للراحة والتأمل، مع أيام عمل مرنة لدعم التوازن بين العمل والحياة.
4. دمج الذكاء الاصطناعي بشكل إنساني: استخدام التكنولوجيا لتعزيز التفاعل لا استبدال الروابط الإنسانية
التحدي الحقيقي مع الذكاء الاصطناعي هو توظيفه لدعم التفاعل الإنساني لا استبداله. مثلاً، استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل اتجاهات الرضا الوظيفي أو دعم تخصيص خطط التدريب، دون إلغاء التواصل البشري المباشر. على سبيل المقال، شركة "آي بي إم" (IBM) تستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي للتوصية بفرص تطوير مهني لكل موظف بناء على اهتماماتهم وأدائهم، لكنها تترك القرار النهائي للموظف ومديره بعد نقاش مباشر، وبعض المؤسسات تستخدم روبوتات دردشة داخلية لتسهيل التواصل مع الموارد البشرية، لكنها تحافظ على إتاحة التواصل البشري في المواضيع الحساسة مثل الاستشارات النفسية أو النزاعات الوظيفية.
إجمالًا، الاستثمار في تدريب المدراء وبناء ثقافة تقدير وشفافية، ودعم رفاهية الموظفين، واستخدام الذكاء الاصطناعي بحكمة، يشكل منظومة متكاملة لإعادة إحياء بيئات العمل وتحقيق مستويات أعلى من التفاعل والالتزام.