شهد قطاع الأعمال خلال العقد الماضي تغيّرات هائلة. ونتيجة لذلك، فإنّ مهارات القوى العاملة والشروط المطلوبة منها تغيّرت هي الأخرى. فثمة وظائف اليوم لم تكن موجودة قبل 10 أعوام، مثل: العلماء المتخصصين بالبيانات، ومدراء شبكات التواصل الاجتماعي، وخبراء تطوير التطبيقات الهاتفية. وبعد 5 أعوام من اليوم، ستكون لدينا أدوار جديدة باشتراطات جديدة ليست قائمة اليوم. وفي الوقت الذي حصل فيه هذا الأمر كان هناك قطاع واحد تأخّر عن اللحاق بالركب، ألا وهو التعليم العالي.
إنّ السرعة التي تتطور بها متطلبات الابتكار التكنولوجي والصناعة تفوق بأشواط كبيرة قدرة التعليم العالي على التكيف. فهذا النظام التعليمي لا زال يركّز على المحاضرات والامتحانات، ما يبقي الطلاب غير مهيئين للدخول إلى سوق العمل والانضمام إلى القوى العاملة. وهم يكابدون معاناة كبيرة نتيجة لذلك، كما أنّ هذه المعاناة تمتد أيضاً لتشمل مؤسسات التعليم العالي والشركات التجارية ذاتها. فكيف يمكننا أن نتوقع من الطلاب أن يكونوا موظفين فعّالين وناجحين في وقت نستعمل فيه مجموعة نماذج عفا عليها الزمن في تحضيرهم وتهيئتهم؟
عندما أجرينا في معهد القيمة التجارية في شركة آي بي إم (IBM) مسحاً شمل مجموعة من القياديين في العالم الأكاديمي وفي مختلف القطاعات الصناعية حول الوضع الحالي للتعليم العالي، وافقونا على رأينا. فقد اكتشفنا أنّ 51 في المئة من المشاركين في الاستطلاع يعتقدون أنّ النظام الحالي للتعليم العالي يفشل في تلبية احتياجات الطلاب، بينما كان 60 في المئة تقريباً يعتقدون أنّ ذات النظام يفشل في تلبية احتياجات مختلف القطاعات الاقتصادية.
وكشف هؤلاء القياديون في العالمين الأكاديمي والصناعي أنّ المهارات المطلوبة لنجاح القوى العاملة هي بالضبط المهارات التي يفتقر إليها الطلاب. مثل: مهارات التحليل، وحل المشاكل، والتعاون، والعمل الجماعي، والتواصل في سياق مكان العمل، والمرونة، والرشاقة في العمل، والقدرة على التكيف السريع. وما يؤكد على هذه النقطة هو أنّ 71 في المئة من المعنيين بالتوظيف في الشركات أشاروا إلى أنّ العثور على أشخاص يمتلكون خبرة عملية كافية بين صفوف المتقدمين إليهم هو التحدي الأكبر الذي يواجهونه عندما يلجؤون إلى توظيف أشخاص من مؤسسات التعليم العالي.
وبالتالي، فإنّ تعزيز قيمة نظام التعليم العالي اليوم، والأهم من ذلك، المساعدة في تحضير الطلاب لحياة ما بعد الجامعة، يعني تبنّي مقاربة في التعليم تكون أكثر عملية وأكثر قابلية للتطبيق. واتفق المشاركون في المسح وبشكل ساحق بأنّ توفير تعليم قائم على الخبرة العملية والتجربة هو أمر أساسي لسد الفجوات الحالية الموجودة في الأداء. ومن الأمور التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من ذلك أيضاً بناء شراكات إضافية بين العالم الأكاديمي وبين القطاع الخاص، وتوسيع الشراكات القائمة بينهما حالياً، وذلك بهدف خلق نظام تعليمي أكثر قيمة.
تعتبر جامعة الولاية في سان خوسيه (SJSU)، في كاليفورنيا الأميركية مثالاً جيداً على مؤسسة أدركت الحاجة إلى اتباع منهج في التعلم قائم على التجربة والخبرة وإلى التركيز على المهارات المرتبطة بالجانب الاجتماعي في العمل. فقد قامت هذه الجامعة بالشراكة مع آي بي إم بتصميم برنامج يوفّر للطلاب الفرصة لتعميق مهارات التعارف الاجتماعي، ويسمح لهم بتعلم كيفية التأقلم مع التحديات الموجودة في العالم الفعلي لأي شركة. وكجزء من المواد التي يدرسونها في البرنامج، فإنّ الطلاب يعملون بإشراف أشخاص من آي بي إم يقدّمون لهم الإرشادات والتوجيهات. كما أنّهم يتلقّون تعليماً حول الاستعمالات الداخلية والخارجية لتكنولوجيا التعارف الاجتماعي، وكيف يمكن تطبيقها على العمليات ضمن الشركات – من الموارد البشرية إلى التسويق إلى تطوير المنتجات – وذلك بهدف الوصول إلى تعاون أكثر كفاءة، وإلى تحقيق المزيد من الابتكارات السريعة.
على سبيل المثال، قام الطلاب، خلال أحد هذه المشاريع، بإجراء تقويم للبيئة التسويقية لأحد الشركاء التجاريين لشركة أي بي إم. هذا الأمر استدعى من الطلاب إجراء "تقويمات للجانب الاجتماعي من العمل" تقوم على دراسة أنماط التعاون الداخلي في الشركة، والطريقة التي تتبعها في بناء العلاقات مع الموردين. بعد ذلك تعين على هؤلاء الطلاب العمل معاً لوضع خطة لتحسين عمليات التسويق، حيث اقترحوا أن تستفيد الشركة بشكل أكبر من المدونات على الإنترنت، ومن مقاطع الفيديو، ومن التشارك في المحتويات الرقمية من أجل تحسين تدفق المعلومات والتعاون في أرجاء المؤسسة بأكملها. ويمكن القول أنّ التجربة العملية التي يمنحها هذا النوع من المهام إلى الطلاب تهيئهم بشكل أفضل للمهام التي سيضطرون إلى تنفيذها في العالم الحقيقي.
ويتوقع الطلاب من مؤسساتهم التعليمية أن تزودهم بتجارب أكثر ارتباطاً بالتكنولوجيا المتقدمة، غير أنّ هذه المؤسسات لا تلبي طموحاتهم بشكل دائم. وبالتالي، يتعين على الجامعات أن تبدأ بتبني واستعمال الأنماط الجديدة في التكنولوجيا، وخاصة في مجال تحليل البيانات الضخمة أو ما يعرف باسم التحليلات (analytics)، وكذلك الحوسبة السحابية، وكل ما يمت بصلة إلى الهواتف والأجهزة المتحركة، وشبكات التواصل الاجتماعي من أجل زيادة إمكانية الوصول إلى المحتوى التعليمي، والدمج بين العوالم الفعلية والرقمية من أجل تطوير التجارب التفاعلية للطلاب، وتحسين عملية اتخاذ القرار.
ولنأخذ مثلاً آخر من كلية إيمليون للأعمال هذه المرة. فقد طورت هذه الكلية بيئة للتعليم العالي تجعلها "كلية للأعمال الذكية". إذ توفّر تعليماً في مجال الأعمال يلبّي الاحتياجات الشخصية لكل طالب بحسب طلبه، وتوفّر هذا التعليم على المستوى العالمي باستعمال تكنولوجيا الحوسبة السحابية. فالمواد الخاصة بقطاع الأعمال متاحة عبر أجهزة عديدة، وبلغات عديدة، في مقرات الجامعة في فرنسا، والصين، والمغرب، وكذلك في مقرات افتراضية في الأسواق الناشئة، مثل غرب أفريقيا. هذا المزيج من الحوسبة السحابية، والبيانات الضخمة، وتحليل البيانات الضخمة، فضلاً عن الخبرة التقنية المعمقة التي تمتلكها كلية إيمليون يخلق نموذجاً تعليمياً قائماً على "التعلّم المتدفق" الذي يوفّر للطلاب إمكانية فريدة وشخصية للتطور والتدريب بشكل يُعتبر أكثر ارتباطاً وصلة بالمهارات المطلوبة من القوى العاملة هذه الأيام. وبأسلوب مشابه للطريقة التي يختار بها المستهلكون اليوم المواد الترفيهية التي يفضلونها، فإنّ طلاب إيمليون قادرون على اختيار المواد والمحتويات التي تناسب مسارهم المهني، في الأماكن والأوقات والطرق التي يرغبون بها.
يُظهر كل من هذين المثالين أنّ إدخال التحولات على المناهج وتبنّي التكنولوجيا يتطلّبان من المؤسسات أن تدرس إمكانية التعاون مع الشركاء في القطاعات الصناعية والاقتصادية المختلفة. فقد وافق 57 في المئة من القياديين في العالمين الأكاديمي والصناعي على أنّ التعاون ضروري من أجل تقديم تعليم عال فعال إلى الطلاب، في حين أنّ 56 في المئة يعتقدون بأنّ التعاون بينهما ضروري خلال مرحلة وضع المناهج وتطويرها.
لقد بدأنا نشهد ظهور نماذج تعليمية جديدة قائمة على التعاون، وتسهم في إعادة صياغة شكل العملية التعليمية بأكملها. ففي العام 2011، ساعدت شركة آي بي إم في تطوير نموذج جديد بالكامل وطرحه، ويسمّى "مسارات في التكنولوجيا للمراحل الجامعية الأولى والمدارس الثانوية" (P-TECH). ويجمع هذا النموذج ما بين المهارات الوظيفية والمهارات التقنية، ويشدد على المواد المتعلقة بالعلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات، كما يجمع ما بين التعليم الثانوي المجاني والكليات المجتمعية. ويمنح الطلاب أساساً متيناً في المنهاج الأكاديمي الأساسي يرتبط بالمعايير الأساسية المشتركة. ويعمل هذا النموذج على ربط طلاب الصفوف من التاسع إلى الرابع عشر، والذين يتمّ قبولهم من دون اختبارات أو اشتراطات خاصة، بموجهين ومرشدين موجودين في قطاع الأعمال. كما أنّ الشركات المتعاونة مع هذا البرنامج توفر للطلاب خبرة عملية في مكان العمل من خلال تقديم فرص للتدريب الوظيفي. وبعد 6 أعوام من الدراسة، يحصل الطلاب على شهادة الثانوية العامة وعلى شهادة زمالة إضافية، والعديد منهم يحصلون على عروض عمل من الشركاء المتعاونين مع البرنامج من مختلف القطاعات الاقتصادية مثل شركة أي بي إم . ففي خريف العام 2015، كان لدينا 40 مدرسة على الأقل تطبّق هذا النموذج (P-TECH)، وتخدم عشرات آلاف الطلاب مع أكثر من 100 شركة متعاونة مع البرنامج.
لقد نجح التعليم العالي، ولأجيال عديدة، في دعم النمو، والتنمية الاقتصادية، والتغيير الاجتماعي. وعلى الرغم من أنّ القطاعات الصناعية لم يسبق لها أن واجهت هذا الحجم من التغيير والتحولات الجذرية المزعزعة التي تحدث اليوم، إلا أنّ هذه التحديات لا تخلو من فرص هائلة للمؤسسات وقادتها لإيجاد طرق لتقديم المزيد من القيمة للطلاب والقوى العاملة على حد سواء. لكن الاعتماد على التكنولوجيا الجديدة والتعاون مع القطاعات الصناعية من أجل بناء نموذج تعليمي جديد وخلق نظام شامل داعم، يسمح لنا أيضاً بصياغة طريقة جديدة في العمل والتعلم. حان الوقت لإعادة بث الحياة في نظام التعليم العالي لدينا بحيث يكون الطلاب جاهزين ومستعدين للنجاح في عالم دائم التغيّر والتطور.