تطوير عقلية رقمية: كيف تقود مؤسستك في عصر البيانات والخوارزميات والذكاء الاصطناعي؟

11 دقيقة
عقلية رقمية

عندما تولى تيري بريتون منصب الرئيس التنفيذي لشركة أتوس الفرنسية لخدمات تكنولوجيا المعلومات عام 2008، كان يعلم أن التحول الرقمي الهائل والفوري ضرورة لا غنى عنها. وقد ارتفعت الإيرادات السنوية بنسبة 6% تقريباً خلال فترة الركود الاقتصادي الكبير، لتصل إلى 6.2 مليار دولار، لكن أتوس لم تكن تنمو بسرعة تضاهي سرعة نمو منافسيها. فقد عانت الشركة صعوبات جمة بسبب عقلية الصومعة التي كانت تهيمن على وحدات العمل والعاملين في مختلف التخصصات، كما عانت شح الموارد العالمية في شبكة مرشحي الوظائف وتحتاج إلى تعزيز القدرات الابتكارية في مختلف أقسام الشركة. وهكذا كان التحول الرقمي هو السبيل الوحيد للمضي قدماً.

ولكن كيف سيبدو هذا التحول بالنسبة لعملاق تكنولوجيا المعلومات؟ بدأ بريتون بتوسيع نطاق الشركة وعولمتها، انطلاقاً من واقع تقديمها لخدمات المعاملات الإلكترونية عبر الإنترنت وتكامل الأنظمة والأمن السيبراني، وغيرها من الخدمات. حيث ضاعف حجم قوة العمل لتصل إلى 100,000 موظف، على أمل الصمود أمام الشركات المنافسة من حوله، بما في ذلك الشركات الناشئة ذات الطبيعة الرقمية في كلٍّ من وادي السيليكون والهند والصين. ووضع بريتون أيضاً خطة لدمج الذكاء الاصطناعي وغيره من التقنيات التي تعتمد على البيانات في عمليات الشركة وتحسين مهارات قوة العمل بعد نمو عددها.

اعتمدت خطة التحول الرقمي التي تبلغ مدتها 3 أعوام على خلق ثقافة التعلم المستمر، وتطلبت تطوير الموظفين لما نسميه العقلية الرقمية. وقد ناقش بريتون وفريقه الخيارات المتعلقة بكيفية التعامل مع هذه الأهداف. إذ كان البعض يعتقد أن البرامج التدريبية المكثفة هي السبيل الوحيد للمضي قدماً، فيما كان البعض الآخر مقتنعاً تمام الاقتناع بأن التعلُّم في العمل هو أفضل الطرق لتعلم الموظفين. وعملوا في النهاية على إنشاء برنامج "مصنع التحول الرقمي" الذي يمنح المنتسبين إليه شهادة في تحسين المهارات. وكان هدفهم المبدئي يتمثل في تدريب 35,000 موظف تقني وغير تقني على التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي.

تجدر الإشارة إلى أن الانتساب إلى برنامج تحسين المهارات كان تطوعياً. فقد أطلق فريق بريتون حملة ترويجية داخلية لتشجيع الموظفين على التعلم والحصول على الشهادة. كما أنشأ نظام ترشيح الأقران والإدارة لإغراء الموظفين للانضمام إلى البرنامج، وقدم مكافآت لتلبية معايير الشهادات. وكان مبرره في ذلك أنه إذا تم إقناع الموظفين بالحصول على شهادات الاعتماد طواعية، فسيكونون أكثر قدرة على استيعاب المهارات الرقمية الجديدة وتعديل سلوكياتهم في العمل وفقاً لذلك. وقد استوعبت برامج التعلم الجميع، بدايةً من علماء البيانات والمهندسين ذوي المهارات الرفيعة، وصولاً إلى الموظفين العاملين في تخصصات غير تقنية بالمعنى التقليدي، مثل المبيعات والتسويق.

مصفوفة الاعتماد

يثير التحول الرقمي مجموعة متباينة من الاستجابات لدى الموظفين.

وقد فاقت النتائج ما كان متوقعاً منها. فقد حصل أكثر من 70,000 موظف على شهاداتهم الرقمية خلال 3 سنوات فقط، ويرجع ذلك في الأساس إلى أن الموظفين أدركوا أن النمو في الشركة يتطلب إتقان المهارات الرقمية. كان من الواضح أن شركة أتوس تسير على الطريق الصحيح. فقد وصلت إيراداتها إلى ما يقرب من 13 مليار دولار، حينما ترك بريتون الشركة عام 2019 ليصبح المفوض الأوروبي لفرنسا.

الموظفون الذين يطوّرون العقلية الرقمية أكثر نجاحاً في وظائفهم ويتمتعون بمستويات أعلى من الرضا في العمل، وغالباً ما يحصلون على الترقيات.

ما هي العقلية الرقمية؟

يعد تعلم المهارات التكنولوجية الجديدة ضرورة لا غنى عنها لتحقيق التحول الرقمي. ولكن هذا ليس كافياً. إذا يجب تحفيز الموظفين على استغلال مهاراتهم في خلق فرص جديدة. وبالتالي فهم بحاجة إلى عقلية رقمية. ويصف علماء النفس العقلية بأنها طريقة التفكير في العالم والتعامل معه، تسهم في تشكيل طريقة إدراكنا وشعورنا وسلوكنا. والعقلية الرقمية هي مجموعة من المواقف والسلوكيات التي تمكّن الأفراد والمؤسسات من رؤية كيفية استخدام البيانات والخوارزميات والذكاء الاصطناعي في إطلاق إمكانيات جديدة ورسم مسار للنجاح في عالم قطاع الأعمال الذي تهيمن عليه بشكل متزايد التكنولوجيا الذكية كثيفة البيانات.

ويتطلب تطوير عقلية رقمية بذل بعض الجهد، لكنه يستحق الجهد المبذول بكل تأكيد. فقد ثبت لنا من واقع خبرتنا أن الموظفين الذين يطوّرون هذه العقلية أكثر نجاحاً في وظائفهم ويتمتعون بمستويات أعلى من الرضا في العمل، وغالباً ما يحصلون على الترقيات ويطورون مهارات مفيدة يمكن نقلها إذا قرروا تغيير وظائفهم. كما أن القادة الذين يمتلكون عقلية رقمية أكثر قدرة على إعداد مؤسساتهم للنجاح وبناء قوة عمل مرنة. والشركات التي تمتلك هذه العقلية تتفاعل بشكل أسرع مع التحولات في السوق وتكون أكثر قدرة على الاستفادة من الفرص الجديدة المتاحة في قطاعها.

وعلى غرار كافة مبادرات التغيير الأخرى، فغالباً ما يواجه التحول الرقمي مقاومة شرسة، ولا مفر من التعرُّض للعثرات في المراحل المبكرة. وقد ثبت لنا من واقع خبرتنا أن الشركات تعمل بشكل أفضل عندما تركز على مجالين مهمين: (1) إعداد الموظفين لثقافة مؤسسية رقمية جديدة، (2) تصميم الأنظمة والعمليات ومواءمتها. وسنستعرض في هذه المقالة المبادئ الأساسية لهذا العمل الهائل، مستخلصين دروساً من كلٍّ من شركة فيليبس وموديرنا ويونيليفر. حيث تقدم هذه الشركات خارطة طريق لتطوير العقليات الرقمية في مجموعات المواهب الحالية ومواءمة الأنظمة والعمليات للاستفادة من الكفاءة الرقمية.

لا تقتصر مهمة القائد على التأقلم، إذ يجب أن يتخذ من التكيف مع الأوضاع المستجدة منهجاً ثابتاً. إذ لا يعد التحول الرقمي هدفاً يحققه المرء وينتهي الأمر، بل هو وسيلة لتحقيق أهدافه.

عناصر نجاح برنامج تدريب الموظفين

يمثل التعلم المستمر نموذجاً جديداً للتعليم والنمو المهني، فقد ولت الأيام التي كان الموظفون يشغلون فيها وظيفة واحدة ويمتلكون مجموعة مهارات ثابتة تستمر معهم طوال مسيرتهم المهنية. وتتبع الشركات التي تنجح في تطوير مهارات قوة العمل لديها 6 ممارسات:

  1. وضع هدف للتدريب على مستوى الشركة.
  2. تصميم فرص التعلم التي تشمل كافة الأدوار الوظيفية.
  3. إعطاء الأولوية للأساليب الافتراضية، ما يجعل التعلم قابلاً للتطوير ومتاحاً للجميع.
  4. تحفيز الموظفين على التعلم من خلال الحملات والجوائز والحوافز.
  5. التأكد من فهم المدراء للعروض المقدَّمة حتى يتمكنوا من توجيه الموظفين وإلهامهم بشكل فاعل.
  6. تشجيع الموظفين على المشاركة في المشاريع ذات المكونات الرقمية وفرص التعلم العملي.

بناء ثقافة التعلم المستمر

عملت شركة فيليبس المتخصصة في الخدمات الصحية مؤخراً على تحويل كفاءتها الأساسية من توفير المنتجات الصحية إلى توفير الحلول الرقمية. وكان لزاماً عليها من أجل تطوير فكر الموظفين أن تنشئ بيئة التعلم المستمر. فقد دخلت فيليبس في شراكة مع شركة كورنرستون أون ديماند (Cornerstone OnDemand) المتخصصة في التعلم القائم على الأنظمة السحابية وبرمجيات الموارد البشرية، وذلك لإنشاء بنية تحتية مدعومة بالذكاء الاصطناعي تستطيع التكيف مع الاحتياجات الخاصة للمتعلمين ووتيرة تعلمهم. إذ يمكن للموظفين تبادل "قوائم تشغيل" لدروسهم ومشاركتها مع زملائهم، تماماً كما يشاركون قوائم تشغيل مقاطع الموسيقى. وتعمل منصات وسائل التواصل الاجتماعي على تسهيل التواصل بين الموظفين الجدد والأعضاء الأكثر خبرة الذين يمكنهم العمل كموجهين، ما يعزز العلاقات بين الأقران والموجهين وينفي عنها طابع العلاقات المصطنعة، بخلاف برامج التواصل الرسمية في الشركات.

وقد أكد قادة شركة فيليبس الذين يؤدون دور المعلمين في برنامج التعلم المستمر على الحاجة ليس فقط للمعرفة الجديدة، بل والتحوّل الثقافي أيضاً. إذ يتحملون مسؤولية مستقبل أعضاء فرقهم، وليس فقط إدارة مهمات العمل، ويشاركون خبراتهم ومعرفتهم وشغفهم في أثناء الدورات التدريبية. وتجمع الشركة بيانات حول كيفية استخدام الموظفين للمنصة، وتقيس العلاقة بين التعلم المستمر ومستوى الأداء، وتسبر أغوار كيفية إسهام مختلف الأدوات في مساعدة الموظفين على التعلم بطرق متوقعة أو غير متوقعة.

وتعتمد القدرة على تطوير العقلية الرقمية على مدى استيعاب الموظفين للمهمة. ويعد التفكير في كيفية تفاعلهم مع الأدوات الجديدة واستخدامها وكيفية إسهام هذه الأدوات في مساعدتهم على تحقيق أداء متميز أمراً ضرورياً للنجاح في تحقيق التحول الرقمي.

تسريع الاعتماد

غالباً ما يؤدي التحول الرقمي إلى تغييرات جذرية تنطوي على تغيير القيم والمعايير والمواقف والسلوكيات المشتركة. وهذا أمر بالغ الصعوبة، لذا من المفيد أن تبدأ عملية التحوّل بقرار جريء يسترعي الانتباه ويحث كل فرد في الشركة على فهم ضرورة وإلحاح الاتجاه الجديد. راجع "الأخطاء التي يرتكبها القادة غير المتمرسين" (What Inexperienced Leaders Get Wrong) على منصة هارفارد بزنس ريفيو (HBR.org). ومن أبرز الأمثلة على ذلك تنفيذ عملية إعادة هيكلة رئيسية وإجراء عملية استحواذ وإعادة توزيع الموارد وتعيين مسؤول التحول الرقمي الذي يعمل تحت الإشراف المباشر للرئيس التنفيذي والإعلان عن التخلص التام من نظام قديم.

وفي حين أن الإشارة إلى النظام الجديد تخلق حالة من الزخم، فإنه يعد إجراءً غير كافٍ. ويجب أن يتبع القرار الجريء مسيرة طويلة تبدأ بتقييم شعور الموظفين حيال خطط التحول الرقمي. فقد يتخوف البعض من المجهول، وقد يساور البعض الآخر القلق بشأن قدرتهم على التعلم وتنفيذ التكنولوجيا والمهارات الجديدة في وظائفهم. وستؤثر هذه المخاوف حتماً على الأدوار التقنية وغير التقنية. وقد يساور الموظفين أيضاً بعض الشكوك حيال أهمية التحول الرقمي للشركة ولوظائفهم.

وعند تنفيذ تغيير جذري، يجب على المدراء أن يوازنوا بعناية بين هذين البعدين الرئيسيين: القناعة الداخلية (أي درجة إيمان الموظفين بأن التغيير سيؤدي إلى فوائد ملموسة لهم ولمؤسستهم) والقدرة على التعلم (مدى ثقة الموظفين في قدرتهم على اكتساب المعرفة الكافية بالأساسيات لتلبية المعايير المطلوبة). ويتم اعتماد القدرات الرقمية على أعلى المستويات عندما يتم تحفيز الموظفين لتطوير كفاءتهم من واقع قناعتهم التامة باستراتيجية التحول وشعورهم الصادق بقدرتهم على الإسهام في تنفيذها على أرض الواقع.

ويتحد هذان البعدان في عملية التحول الرقمي لإنتاج الأرباع الأربعة لمصفوفة الاستجابات: مقهور، مُحبَط، غير مبالٍ، مُلهَم. (راجع "مصفوفة الاعتماد"). وفي أفضل السيناريوهات سيقع الأفراد في الربع العلوي الأيمن، مستلهمين الحافز للتغيير ومؤمنين بقدرتهم على تعلم المحتوى الرقمي. ويجب على المدراء تقييم الربع الذي يقع فيه كل عضو من أعضاء فريقهم، ثم العمل على نقل الأفراد من ربع إلى آخر حسب الحاجة.

تعزيز القناعة الداخلية. للمساعدة على إدماج الموظفين غير المقتنعين بأهمية اكتساب الكفاءات الرقمية (أولئك الموجودون في الأرباع السفلية)، يجب على القادة تكثيف الرسائل التي تشدّد على ضرورة تنفيذ التحول الرقمي كإجراء ذي أهمية حاسمة للشركة. ويجب عليهم تدشين حملة ترويجية داخلية لمساعدة الموظفين على تخيل إمكانات الشركة في حال كانت مدعومة بالتكنولوجيا الرقمية. ويجب على المدراء تشجيع أعضاء فريقهم على رؤية أنفسهم كمساهمين مهمين في المؤسسة الرقمية.

تعزيز الثقة في النفس. بعد ترسيخ القناعة الداخلية، يجب على المدراء التركيز على تعزيز الثقة بالنفس لدى أعضاء الفريق الواقعين في الربعين الأيسرين. فقد وجدنا أنه كلما زادت خبرة الأفراد في استخدام التكنولوجيا الرقمية، سواء من خلال التعليم أو التوظيف، زادت ثقتهم المكتسبة بأنفسهم. وتفيد مشاركة القصص أيضاً في هذا السياق، إذ يستطيع الأفراد بناء الثقة بشكل غير مباشر من خلال التعرف على تجارب الأقران والمدراء وغيرهم. وحينما يعمل قادة الشركة والمدراء المباشرون على تشجيع موظفيهم وتعزيزهم، سيتمكّن الموظفون من الإيمان بقدراتهم الخاصة. (راجع العمود الجانبي "عناصر نجاح برنامج تدريب الموظفين").

قد يبدو من الأفضل تعيين موظفين يمتلكون فعلياً المهارات التقنية اللازمة لتشكيل قوة عمل قادرة على دخول العصر الرقمي. ولكن معظم مسؤولي الشركات يعلمون جيداً أن ثمة تنافساً حاداً لاستقطاب المواهب، وبالتالي فإن تعيين ما يكفي من أصحاب المواهب الرقمية لتلبية الطلب يكاد يكون مستحيلاً في السوق الحالية. ونتيجة لذلك، يجب استكمال عملية التوظيف ببذل جهود مكثَّفة لتنمية مهارات المواهب الحالية.

ويجب على القادة تحديد الشخصيات المؤثرة بين صفوفهم ممن يمتلكون عقلية رقمية وتسخيرهم لمناصرة التحوّل بحيث يصبحون قدوة يحتذي بها الموظفون المترددون. وقد يكون المؤثرون أيضاً مفيدين جداً في تحديد مجالات الاهتمام بين الموظفين وتحديد الأفكار المطروحة لتحسين الأوضاع. كما أنهم أقدر من غيرهم على فهم نوعية الرسائل التي تلقى صدى طيباً لدى الموظفين. ومن المهم أيضاً عقد دورات تدريبية حول التحول الرقمي وإيصال الأهداف الجديدة.

مواءمة الأنظمة الرقمية

من الأهمية بمكان أن يفهم قادة المؤسسات كيفية إقدام الموظفين على نشر الأدوات الرقمية حتى يتمكنوا من بناء منظومات العمل والعمليات التكنولوجية التي تعزز العقلية الرقمية وتسريع التحول الرقمي.

فقد أجرى أساتذة كلية هارفارد للأعمال، ماركو آيانسيتي وكريم لاخاني وزملاؤهما، بحثاً توصلوا من خلاله إلى تحديد المكونات الرئيسية الثلاثة في شركة موديرنا ذات الطبيعة الرقمية والمتخصصة في التكنولوجيا الحيوية والأدوية. يتمثل المكوِّن الأول في القدرة الهائلة على الوصول للبيانات التي تعد مصدر القوة الأساسي للشركة التي مكّنتها من تطوير اللقاحات وغيرها من العلاجات. ويتمثل المكوِّن الثاني في اعتمادها على الحوسبة السحابية، ليس فقط كحل أرخص ثمناً، بل لأنه أسرع وأكثر مرونة من الخوادم الداخلية. أمّا المكوِّن الثالث فيتمثل في قدرتها على بناء خوارزميات الذكاء الاصطناعي لأداء عمليات البحث والتطوير بدقة وسرعة من المستحيل تحقيقهما يدوياً. وكما قال ستيفان بانسل، الشريك المؤسس للشركة ورئيسها التنفيذي للباحثين، فإن موديرنا هي "شركة تكنولوجيا تصادف أن عملت في مجال علم الأحياء".

فقد دأبت كبرى شركات الأدوية على العمل في وحدات منعزلة موزعة على مختلف دول العالم، لكن موديرنا لديها هيكل متكامل تماماً تتدفق فيه البيانات بحرية، بحيث يمكن لمختلف الفرق أن تعمل معاً في الوقت ذاته. وكما أشار خوان أندريس، رئيس العمليات التقنية ومسؤول الجودة في الشركة، فإن "الأهم من امتلاك أدوات أو خوارزميات رقمية متطورة هو التكامل على جميع المستويات. فالطريقة التي تتفاعل بها مختلف المكوّنات هي ما يهم في التكنولوجيا، وليس التكنولوجيا نفسها".

وعندما واجهت شركة موديرنا في يناير/كانون الثاني 2020 المهمة العاجلة المتمثلة في تطوير لقاح "كوفيد-19"، تمكّنت من تسريع العملية لأن التكامل على جميع المستويات كان موجوداً بالفعل. فقد عيّن بانسل مارسيلو دامياني قبل 5 سنوات للإشراف على التميز التشغيلي والرقمي، وكان بانسل حريصاً على عدم الفصل بين الدورين. وهو ما أوضحه بقوله: "كان تمكين مارسيلو من تصميم العمليات الإجرائية أمراً أساسياً. إذ لن تتحقق الرقمنة إلا عند الانتهاء من العمليات الإجرائية. وإذا كانت لديك عمليات إجرائية سيئة، فستحصل على عمليات رقمية سيئة". وهكذا سمحت الأنظمة والعمليات الإجرائية المتكاملة لكل موظفي موديرنا بنشر الحلول الرقمية الحالية للقاح والتوصُّل إلى الكثير من الحلول الأخرى داخل الشركة، إما بتصميم خوارزميات من الصفر أو تعديل الخوارزميات الحالية لإجراء تحليلات أعمق وأكثر تخصصاً. وبعد بضعة أشهر فقط من تفشي فيروس "كوفيد-19"، طوَّرت موديرنا ما يقرب من 20 خوارزمية لتطوير اللقاحات والحلول العلاجية وكانت تعمل على العديد من الخوارزميات الأخرى.

وقد عملت شركة يونيليفر، عملاق السلع الاستهلاكية، على تكييف أعمالها العالمية مترامية الأطراف مع العصر الرقمي. وكان النجاح بالنسبة لهذه الشركة المصنعة والعاملة في مجال تجارة التجزئة للسلع المنزلية الأساسية، التي تبيع منتجات أكثر من 400 علامة تجارية في 190 دولة، يعني تحقيق التوازن الدقيق بين خصوصيات الأسواق المحلية والعمليات التشغيلية العالمية بمفهومها الواسع. وكان الحل يتمثل في تشكيل فرق مرنة تستطيع التركيز على تخصيص المنتجات إلى أن تصل إلى "المحطة الأخيرة" بالتوازي مع مواءمة عملها في الوقت نفسه عبر مختلف الدول باستخدام القدرات الرقمية للشركة. وقد صمم راهول ويلد، نائب الرئيس التنفيذي لشؤون التحول الرقمي في يونيليفر وأحد أقدم العاملين المتمرسين في الشركة الذي تمتد خبرته بها لنحو 30 عاماً، هيكل فريق مرن سمح للأعضاء بالبقاء موزعين على مستوى العالم مع تمكينهم من الاستخدام الاستراتيجي للبيانات لطرح مبادرات مخصصة داخل الأسواق المحلية التي تشهد تغيرات متلاحقة.

وقد شكلت شركة يونيليفر تحت قيادة ويلد أيضاً 300 فريق مرن يتألف كلٌ منها من 10 أفراد يعملون عن بُعد وفي مختلف دول العالم ويمكن لهذه الفرق العمل على نطاق واسع. ووفقاً لما جاء على لسان ويلد، فإن الاستراتيجية تتكون من 3 أجزاء. أولاً: استخدام التكنولوجيا والأدوات التمكينية التي تسهم في الحد من الانقسامات العالمية والمحلية. إذ يمكن للعلامات التجارية التواصل مباشرة مع العملاء في الأسواق المحلية على نطاق أوسع بكثير من خلال المنصات الرقمية. ثانياً: إعادة تصميم العمليات الإجرائية الحالية للتكيف مع التكنولوجيات والأدوات الجديدة. ثالثاً: ضمان تمكين الأفراد من الوصول إلى التكنولوجيا والمهارات وامتلاكهم الحافز لاستخدامها.

مَن يختار الأدوات الرقمية؟

يجب أن يشارك المدراء وقادة الشركة بكل ما أوتوا من قوة في اختيار الأدوات الرقمية وتنفيذها. ولتحقيق هذه الغاية، يجب أن يعرفوا ما تستطيع أقسام تكنولوجيا المعلومات فعله وما لا يمكنها فعله اليوم. وتدلّ الشواهد التاريخية على أن فرق التكنولوجيا كانت مسلّحة بالأدوات التي تمكّنها من التعامل مع عمليات تنفيذ البرامج المكبّرة على مستوى المؤسسة وضمان صيانة البرمجيات التي تدعم عمليات الشركة وعملها بالطريقة السليمة. ولا تزال هذه الأهداف تشكّل الوظيفة الرئيسية لتنفيذ تكنولوجيا المعلومات بالأدوات المخصَّصة أو بأنظمة تخطيط موارد المؤسسات. لكن معظم التقنيات التي تعتمدها الشركات لتمكين التحول الرقمي تعتمد على الأنظمة السحابية (البرمجيات كخدمة). إذ يمكن للفرق ببساطة شراء التراخيص وتنزيل البرمجيات والبدء دون الحاجة إلى الدخول في دوامة تكنولوجيا المعلومات التكرارية.

في حين أن مسؤولي تكنولوجيا المعلومات يتولون بحكم العادة إدارة تطبيقات الدعم، فإن قادة الشركة هم أنسب مَنْ يتولى مهمة تحديد الأدوار والأنماط الجديدة، إلى جانب إعادة تشكيل الثقافة والأهداف المؤسسية بشكل فاعل. ويجب أن يبدؤوا بتحديد الأنشطة المحلية التي ستؤدي إلى تحقيق أهداف مؤسسية أكبر بشكل أكثر فاعلية، حيث سيؤدي ذلك إلى توجيه القائمين على اختيار الأدوات الرقمية واتجاه التحوّل. ونظراً لأن التغيُّرات الطارئة على العمليات القائمة على التكنولوجيا تؤدي إلى ظهور أدوار ومسؤوليات جديدة، فسيتم فتح شبكات تعاونية جديدة في المؤسسة. وتعتبر هذه الشبكات هي الدوافع الإيجابية الحقيقية للمؤسسة.

ويجب على الشركة جمع البيانات باستمرار لمراقبة جهود التحوّل وتقييم ما إذا كانت سلوكيات الموظفين تساعد ما نسميه عملية رقمنة العمل أم تعرقلها. ويجب على القادة دراسة كيفية تدفق المعلومات داخل المؤسسة وإزالة العقبات المؤسسية التي قد تحول دون تبني الموظفين للعملية الجديدة.

اعتبار التغيير أحد الثوابت الأساسية

تنُّص نظرية إدارة التغيير على أن المؤسسات تنتقل من المرحلة الحالية إلى المرحلة الانتقالية ثم إلى المرحلة المستقبلية. وتُعتبر المرحلة الانتقالية عادةً فترة زمنية محددة تشهد انتقال المؤسسة من الهياكل والعمليات والمعايير الثقافية المألوفة إلى أخرى جديدة. ومن المفهوم أن تساور الموظفين مشاعر حادة خلال المراحل الانتقالية لأنها ببساطة توجب عليهم فهم التصورات والسلوكيات الجديدة فهماً دقيقاً. وتتمثل مهمة الجميع خلال هذه المراحل المؤقتة المشوبة بالغموض في الموازنة بين ماضي المؤسسة ومستقبلها.

لكن بما أننا نعيش في عالم يحفل بالرقمنة، فلا توجد نهاية محددة للمرحلة الانتقالية، وذلك لأن الأدوات الرقمية تتغير باستمرار وبسرعة جنونية، كما هي الحال بالنسبة للمعرفة والمهارات اللازمة. ويجب ضبط البنية التنظيمية باستمرار للاستفادة من الرؤى الثاقبة المستمدَّة من البيانات الجديدة، ويجب على القادة مواصلة العمل على تطوير فكر الموظفين مع تطور المؤسسة.

وبعد النظر إلى التغيير باعتباره ثابتاً من الثوابت، بدلاً من اعتباره مجرد نشاط مؤقت يحدث بين مراحل انتقالية طارئة، استطاع تيري بريتون قيادة تحول رقمي ناجح في شركة أتوس. وقد يكون من المفاجئ أن تحتاج شركة تكنولوجيا المعلومات إلى المساعدة في عملياتها المرتبطة بالتحول الرقمي الخاص، ولكن هذا يؤكد وجهة نظرنا حول مدى أهمية تطوير عقلية رقمية. ولا يعني مجرد إتقان الموظفين لإحدى التكنولوجيات أنهم مستعدون للتكيف مع التكنولوجيا التالية. إذ يحتاج القادة للنظر إلى التغيير الرقمي باعتباره مرحلة انتقالية متواصلة تتطلب من الجميع تبني فكرة استمرارية عدم الاستقرار بكل دينامياتها وغموضها.

حيث تتغير التكنولوجيا الرقمية باستمرار ويتغير تأثيرها دائماً وأبداً على الهياكل المؤسسية والأدوار الوظيفية وكفاءات الأفراد واحتياجات العملاء. ولا تقتصر مهمة القائد على التأقلم، إذ يجب أن يتخذ من التكيف مع الأوضاع المستجدة منهجاً ثابتاً. ولا يعد التحول الرقمي هدفاً يحققه المرء وينتهي الأمر، بل هو وسيلة لتحقيق الأهداف ذات الطبع الفريد لكل شخص. فمن خلال العقلية الرقمية، يستطيع الموظفون في مختلف أقسام المؤسسة التسلُّح بالأدوات التي تمكّنهم من اغتنام الفرص التي يتيحها عالمنا الديناميكي.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي