يلقى حلم تحويل الشغف إلى عمل مربح استحسان الناس من الأجيال جميعها، ولا سيما حديثي الانضمام إلى قوة العمل؛ إذ تطمح نسبة 50% من الجيل زد إلى إدارة أعمالها الخاصة نتيجة لخيبة أملها من عالم الشركات ورغبتها في بناء مسار مهني يتوافق مع قيمها، لكن تحويل هذا الحلم إلى حقيقة معقد.
في الواقع، يفتقر العديد من الشباب إلى التمويل والمرونة اللازمين للتخلي عن وظائفهم الحالية التي توفر لهم الأمان المالي، ما دفع الطموحين منهم إلى الموازنة بين العمل بدوام كامل والعمل الإضافي؛ ما يتيح لهم اختبار فرص جديدة وتطويرها قبل اتخاذ خطوات أكبر. ومع ذلك، قد تصعب إدارة كلا الالتزامين معاً، ولدي تجربة شخصية في هذا الصدد.
عملت مدة تصل إلى 70 ساعة في الأسبوع خلال معظم مسيرتي المهنية؛ إذ شغلت منصب مستشارة إدارية في النهار، وصانعة محتوى على يوتيوب ومتحدثة في المساء. وتمكنت بعد التعلّم من التجربة والأخطاء على مدى عدة سنوات من كسب جمهور مخلص وتنمية قناتي على يوتيوب ليصل عدد مشاهدات المحتوى إلى 20 مليون مشاهدة. وعلى الرغم من أني لم أكن أسعى إلى بناء شركة خاصة بي، فقد عزز استثماري في العمل الإضافي إحساسي بالإنجاز والغاية في الحياة، وساعدني على تحسين أدائي في وظيفتي الحالية من خلال تطوير مهارات وخبرات فريدة في مجال ترويج العلامة التجارية.
وإذا كنت تتطلع مثلي إلى بدء عمل إضافي ناجح تشعر بالشغف تجاهه وتأمل تحويله إلى وظيفة بدوام كامل في المستقبل، فقد تكون إدارة الوقت إحدى أكبر العقبات التي تواجهك. كانت العوائق التالية التي واجهتها خلال رحلتي الشخصية هي الأصعب:
- استنزاف الطاقة: كيف أستعيد طاقتي كي أتمكن من العمل على مشروعي الشخصي بعد يوم طويل؟
- معضلة الكفاءة: كيف أحقق أقصى استفادة من وقتي؟
- مزلق الاستمرارية: ماذا يحدث عندما تقف التحديات عائقاً أمام قدرتي على الاستمرار؟
جمعت من خلال تجربتي الشخصية والاستفادة من تجارب الآخرين الذين نجحوا في توسيع مشاريعهم القائمة على الشغف نصائح قيّمة تساعدك على تحقيق أقصى استفادة من وقتك المتاح وجعل بداية مشروعك مميزة تُعينك على تحقيق أهدافك المنشودة.
مجاهدة النفس والثبات في الدقائق الـ 10-15 الأولى
يمثّل الإعياء الشديد العائق الأول والأصعب لبدء العمل على مشروعك الجانبي، إذ قد تكون فكرة الاستراحة ومشاهدة مسلسلك المفضّل على نتفليكس جذابة بعد أسبوع عمل طويل. ووجدت أن سر التغلّب على استنزاف الطاقة يكمن في الإصرار على مواصلة العمل في الدقائق الـ 10-15 الأولى؛ إذا نجحت في ذلك فستجد أن تخصيص الوقت لشغفك يعزز شعورك بالدافع والحيوية بدلاً من أن يستنزف طاقتك.
أظهرت الدراسات أن حالات التدفق الذهني؛ أي اللحظات التي تشعر فيها بالاندماج العميق وتفقد فيها إحساسك بالوقت، تجدد طاقتك وتعزز قدرتك على الإبداع وتمنحك شعوراً بالسعادة والرضا؛ والعمل على المشاريع القائمة على الشغف يحفز هذه الحالات بطبيعته لأنه يقوم على دافع داخلي (مثل الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية؛ قد لا تشعر بالرغبة في بدء التمارين ولكن ما إن تدخل حالة التدفق الذهني تشعر بالسعادة والرضا لأنك بذلت جهداً).
يمكنك أيضاً الاستعانة بإشارات الوسط المحيط لتسهيل الانتقال إلى المشروع القائم على الشغف، وجعل الوقت المخصص له عادة دائمة. يؤكد مؤلف كتاب "عادات ذرية" (Atomic Habits)، جيمس كلير، أهمية تصميم البيئة في الحفاظ على العادات؛ على سبيل المثال، يسهّل وضع الحذاء الرياضي بجوار السرير ممارسة الجري في الصباح، وبالمثل، يشير تجهيز بيئة مخصصة لمشروعك القائم على الشغف لدماغك بأن الوقت حان للتركيز.
بالنسبة إلي، أستمع إلى موسيقى الجاز نفسها عند العمل على مشروعي القائم على الشغف ولا أستمع إليها في أي وقت آخر، وما إن تبدأ أندمج في العمل على الفور.
خصص ساعة واحدة للعمل على مهمة واحدة فقط كل أسبوع.
لا بدّ أن تجد ساعة واحدة في الأسبوع تخصصها لمشروعك، بغض النظر عن مدى انشغالك، فالفكرة برمتها تنطوي على ترتيب الأولويات. وإليك دليلاً لمساعدتك على الاستفادة إلى أقصى حد من هذه الساعة، سواء كانت مساء أحد أيام الأسبوع بعد العمل، أو صباح يوم العطلة قبل أن تبدأ نشاطاتك الأخرى، أو أي وقت فراغ يتاح لك:
1. ضع أهدافاً ذكية.
الأهداف الذكية هي أهداف محددة وقابلة للقياس والإنجاز وملائمة وذات إطار زمني محدد، وهي ليست مقتصرة على وظيفتك الحالية فحسب، بل هي أهداف مهمة تُعينك على تطوير شغفك أيضاً.
لذلك اسأل نفسك: "ما الذي أرغب في تحقيقه من خلال شغفي؟ هل هو إنشاء قناة على وسائل التواصل الاجتماعي حول الطهي؟ أم الحصول على فرصة لإلقاء محاضرة في منصة تيد إكس؟ أم إنشاء شركتي الاستشارية الخاصة؟" اختر مجالاً ثم حدد هدفاً ذكياً له، فذلك يساعدك على تنظيم أمورك والحفاظ على دافعيتك، ولا سيما عندما يكون الوقت محدوداً.
ويجب أن ينطوي هدفك الذكي على بعض التحديات ويحفزك على الخروج من منطقة راحتك، شرط ألا يكون طموحاً لدرجة تُعجزك عن تحقيقه. على سبيل المثال، إذا كان هدفك إنشاء قناة ناجحة على وسائل التواصل الاجتماعي، فقد يكون هدف الوصول إلى مليون متابع خلال 6 أشهر هدفاً صعباً يقودك إلى الإحباط؛ في حين يمثّل الوصول إلى 10,000 متابع خلال 6 أشهر هدفاً واقعياً قابلاً للتوسيع.
خذ مثلاً صديقتي، آيرين فان، وهي مغنية حازت أغنيتها لقب أغنية اليوم المفضلة في إذاعة مستقلة للموسيقى وتشغل منصب مديرة منتج بدوام كامل في شركة مايكروسوفت في الوقت نفسه، إذ تقول إن الفترة الزمنية التي تتراوح بين 6 أشهر إلى عام واحد هي الفترة المثلى لمعظم المشاريع القائمة على الشغف؛ فهي توفر وقتاً كافياً لتحقيق تقدم ملموس، وليست طويلة لدرجة تُفقد الإنسان حافزه.
2. ركز على إكمال مهمة واحدة في كل مرة
يتطلب تحقيق الأهداف جهداً يفوق توقعاتنا عادة، وذلك أحد أهم الأسباب التي تؤدي إلى فشل الأفراد في مواصلة مشاريعهم القائمة على الشغف بنظري؛ إذ يشتتون انتباههم بالعمل على عدة مهام في آن واحد. يؤكد صديقي جيا جيانغ، وهو مؤلف كتاب "هدف الإجراء الواحد" (One Action Goal)، أهمية البدء بخطوات صغيرة، ويقترح التركيز على الأولويات المهمة وتجاهل كل ما سواها.
ولتطبيق هذه النصيحة، اكتب كل الخطوات التي عليك اتخاذها لتحقيق هدفك الذكي الأول، ثم اختر خطوة أو إجراءً واحداً فقط للتركيز عليه خلال الساعة التي خصصتها.
وكي تحدد "الإجراء الواحد" الذي ستركز عليه، اسأل نفسك: "أي الخطوات التي كتبتها ضرورية لتحقيق هدفي الذكي وأيها اختيارية؟ وما هي الخطوة التي يجب إنجازها أولاً (أو الآن) من بين الخطوات الضرورية؟".
لنتأمل مثال إنشاء قناة على وسائل التواصل الاجتماعي: قد يتمثّل "الإجراء الواحد" في تحليل 3 فيديوهات لاقت صدىً واسعاً في مجالك وتحديد عناصر نجاحها؛ يقضي الكثيرون أشهراً عادة في اختيار المعدات المناسبة أو اسم القناة بدلاً من تطوير المحتوى الجذاب الذي يُعد الخطوة الأهم، ومن ثم يُتيح لك تخصيص الوقت لهذا "الإجراء الواحد" تحليل طبيعة المنافسة وفهم منافسيك وتطوير فكرة تثق في نجاحها، وفي المقابل يُعد تصميم شعار مميز إجراءً اختيارياً في هذه المرحلة.
3. كرر الإجراء الواحد
بمجرد أن تحدد "الإجراء الواحد"، كرّره كل أسبوع إلى أن تنهي هذه الخطوة الأولى التي تُسهم في تحقيق هدفك الذكي، ثم انتقل إلى الخطوة أو الإجراء الضروري الثاني.
تذكّر أن السر يكمن في التركيز على إجراء واحد في كل مرة، إذ لا يتطلب تحقيق النتائج الاستثنائية جهوداً جبارة أو تضحيات كبيرة بالضرورة؛ وعندما تقسّم الأهداف الكبيرة إلى أهداف أصغر ستجد أنها قابلة للإنجاز حقاً.
سَل نفسك: كيف أجعل العمل ممتعاً؟
للاستمرارية أهمية بالغة لبناء الزخم في مشروعك القائم على الشغف، لكن قد تجري الرياح عكس ما تشتهي السفن أحياناً. وإذا لُمت نفسك في كل مرة تتأخر فيها عن هذه الساعة المخصصة للعمل الإضافي، فقد تشعر بالإحباط وتجد صعوبة في مواصلة السعي. يضع العديد من الأشخاص الناجحين معايير صارمة لأنفسهم، لكن الاستمرارية ليست انعكاساً لقوة الإرادة فقط؛ بل هي مقياس نهائي يُستخدم للإشارة إلى مدى توافق هدفك مع ذاتك الصادقة.
وإذا بدأت تلوم نفسك مجدداً بسبب مشروعك القائم على الشغف، فاسأل نفسك: "كيف أجعل هذا العمل ممتعاً؟" ستتمكن من الاستمرار في العمل إذا تولّد لديك دافع لأدائه، مثل الاستمتاع به أو الإيمان بإسهامه في غاية أكبر.
عندما بدأت قناتي على يوتيوب التي تركز على تقديم نصائح حول مهارات الخطابة والتواصل، اعتقدت أنني يجب أن أُدرج 3-5 نصائح في كل فيديو على الأقل، وأن أُظهر وجهي لإضفاء بعض الود إلى المحتوى وجعله جذاباً للجمهور. لكني لم أتمكن من الاستمرار بذلك؛ إذ استنزفت طاقتي ووقتي في التزين لأجل التصوير وتحرير النص الذي سألقيه والبحث المستمر عن نصائح جديدة، ما قادني إلى التسويف في النهاية.
ثم فكرت ملياً وسألت نفسي: "كيف يمكنني جعل هذا العمل أكثر متعة؟ ما الذي يمكنني نشره حول عملي الحالي؟" ثم قررت التوقف عن تصوير نفسي وبدأت تحليل مقاطع لحوارات المشاهير في البرامج التلفزيونية باستخدام صوتي لإضافة التعليقات. وكلما وجدت رداً مُتقناً في حوار تلفزيوني ما، أُعد مقطع فيديو أشارك فيه النصائح المستفادة حول تحسين مهارات التواصل مستعينة بصوتي فقط. سهّلت عليّ هذه الاستراتيجية عملية النشر، وساعدتني أيضاً على زيادة عدد المشاهدات.
لكن صديقتي، سندس خالد، صانعة المحتوى التي جمعت أكثر من 600,000 متابع عبر منصات مختلفة وتعمل بدوام كامل في شركة جوجل أيضاً، اتبعت نهجاً مختلفاً؛ إذ كانت تقضي 4-5 ساعات في تحرير فيديو واحد مدته 5 دقائق فقط، إلى أن استنزفت هذه العملية طاقتها. فقررت تكليف محرر بمهمة تحرير الفيديو، ما ساعدها على استعادة الشعور بالسعادة والقدرة على نشر المحتوى بانتظام.
باختصار، يكمن سر النجاح في العمل على المشروع القائم على الشغف في اكتشاف الأعمال التي تلقى استحسانك، والتفاني في العمل عليها، وجعلها جزءاً ممتعاً من حياتك؛ فهذه الرحلة مجزية، سواء كان هدفك بناء شركة أو تحقيق الرضا والسلام النفسي؛ وتكمن بدايتها في الاستثمار في الوقت اللازم للنمو.