في استوديو هادئ يقع بمنطقة القوز الإبداعية في دبي، تستعد الفنانة الإماراتية الشابة، شمّا، لعرض أول أعمالها في مهرجان سكة للفنون والتصميم؛ إذ تقول إنها كانت تسهر حتى وقت متأخر من الليل لرسم مسودات أفكارها المبدئية، مدفوعة بحلمها بتقديم ثقافتها ومواهبها للعالم. وشمّا في عامها الأخير بجامعة زايد حيث تواصل دراستها للحصول على درجة البكالوريوس في التصميم الغرافيكي. والآن، مع انطلاق المهرجان وفتح أبوابه أمام آلاف الزوار، تقف مزهوة بجانب عملها لتجسد مثالاً حياً لموهبة لاقت الرعاية وأُتيحت لها الفرصة التي لم تتردد في اغتنامها لتحقيق حلمها.
هذه القصة ليست استثنائية، ولكنها ترمز إلى رؤية أكبر تمثل نمطاً عاماً؛ فقد عززت دبي مكانتها باعتبارها مركزاً عالمياً للإبداع والابتكار لتصبح مدينة تزدهر فيها الفنون والثقافة جنباً إلى جنب مع التقدم الاقتصادي. تمثل هيئة الثقافة والفنون في دبي (دبي للثقافة) محوراً أساسياً لهذا التحول، إلى جانب العديد من الشركاء والجهات الفاعلة في منظومة العمل الإبداعي بدبي، إذ تسهم مبادراتها في تمهيد الطريق للمواهب الناشئة وإعادة تعريف مفهوم بناء اقتصاد إبداعي مستدام.
التعليم: حجر الأساس للإبداع
لا يزدهر الاقتصاد الإبداعي مصادفة، بل لا بد من العمل على تنميته من خلال الاستثمار الاستراتيجي في التعليم وتطوير المواهب. وتدرك الهيئة أن التعليم هو حجر الأساس في هذه الرؤية، حيث تعمل على تصميم برامج تمكّن المبدعين الإماراتيين والمقيمين في دولة الإمارات العربية المتحدة من تطوير مهاراتهم والتواصل مع المجتمع العالمي.
وفي منتدى المدن الثقافية العالمي 2024 بدبي، كشفت رئيسة هيئة الثقافة والفنون في دبي، لطيفة بنت محمد بن راشد آل مكتوم، عن تقرير ”مستقبل التعليم في الاقتصاد الإبداعي” الذي مثل علامة فارقة في هذا المضمار. يدعو التقرير إلى إعادة النظر في النماذج التقليدية ويحث على دمج الإبداع في النظم التعليمية، مع اقتراح حلول مبتكرة لمعالجة الثغرات في الجهود التنظيمية والتمويلية وأنظمة الدعم، ويؤكد أن الاستثمار في التعليم الإبداعي هو استثمار في المستقبل. ومع توقع نمو الإنفاق العالمي على التعليم الإبداعي من 135 مليار دولار إلى 174.6 مليار دولار بحلول عام 2027، فثمة تحديات وفرص هائلة في هذا القطاع.
يجسّد التقرير العالمي خُلاصة هذه الرؤية، حيث يشدد على العلاقة المحورية بين التعليم والاقتصاد الإبداعي المستدام. وبما أن القطاعات الثقافية والإبداعية تمثل حالياً %6.2 من الوظائف العالمية، وهو رقم من المتوقع أن ينمو بنسبة %40 بحلول عام 2030، فإن التقرير يبعث رسالة واضحة مفادها أن المستقبل يكمن في تزويد الجيل القادم بالمهارات والمنصات اللازمة للنجاح.
منصة سكة: منظومة حية للإبداع
كانت سكة في بداياتها عام 2011 معرضاً فنياً يستمر أسبوعاً واحداً قبل أن تتحول إلى منصة تستمر على مدار العام وتدعم الفنانين في مختلف مراحل رحلتهم. ويعكس تحول سكة من فعالية تقليدية إلى منظومة متكاملة تحولاً أوسع في المنهج الفكري بإمارة دبي يعطي الأولوية للتنمية الطويلة الأجل، بدلاً من البحث عن النتائج الفورية القصيرة الأجل.
تعتمد المنصة على 3 ركائز أساسية: بناء القدرات، وإبراز المواهب، واستدامة النمو. وقد طورت المصممة والمقيّمة الإماراتية للتصميم، كاملة العلماء، استراتيجية المنصة بالتعاون مع الجهات المنوطة بمنظومة الإبداع في دبي، وعلى رأسها مؤسسات مثل مركز تشكيل ومعرض آرت دبي ومؤسسة السركال للفنون ومركز جميل للفنون. وقد تفاعل نحو 6 آلاف مستفيد مع منصة سكة منذ توسعها، وعزّزت مبادراتها المسارات المهنية للعديد من المبدعين الشباب. ومن خلال أكثر من 1,000 برنامج لتنمية المواهب قدمتها المنصة بين عامي 2022 و2024، اكتسب المشاركون المهارات وتلقوا الإرشادات وأُتيحت لهم فرص عرض أعمالهم، وهي عوامل بالغة الأهمية للنجاح. يمثل الشكل التالي عروض منظومة سكة فيما يتعلق بدورات تعلم المبدعين ونموهم.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك قصة الفنانة الإماراتية الناشئة، سارة الخيّال، التي انتقلت من عرض أعمالها في مهرجان سكة إلى عرضها في معرض فردي بمركز 1971 المرموق للتصاميم. تجسّد قصة سارة وأمثالها القوة التحويلية لمنصة سكة التي لا تسلط الضوء على المواهب فحسب، بل تمهد الطريق أيضاً للنمو المستدام.
ومن الأمثلة الأخرى مهندس الروبوتات الأول في مركز دبي للتصميم، أحمد العطار، الذي عرض أعماله في مهرجان سكة للفنون والتصميم عام 2023، ثم توسع لعرضها في منطقة مخصصة بالكامل لأعماله ضمن فعاليات المهرجان عام 2024. ومنذ ذلك الحين، شرع العطار في مشروعه الجديد، حيث أطلق مشروع ريالتي لابز (Reality Labs) في حي الشندغة التاريخي، مع التركيز على تطوير المواهب ورعايتها في المجالات المشتركة بين الفنون والتكنولوجيا.
أهمية منصات العرض
تمثل فعاليات مثل مهرجان سكة ومهرجان ”المرموم: فيلم في الصحراء”، منصات لانطلاق المواهب الإبداعية، حيث تتيح الفرص لظهور الفنانين الناشئين وإثبات وجودهم. تعمل هذه المنصات على تعزيز النمو الفردي، فضلاً عن تعزيز سمعة دبي أيضاً باعتبارها مركزاً عالمياً للثقافة وحاضنة للإبداع ومركزاً مزدهراً للمواهب.
ومن خلال التركيز على إبراز المواهب، تعزز هيئة الثقافة والفنون في دبي التزامها بإرساء هوية إبداعية تجمع بين الطابعين المحلي والعالمي. ومن خلال مبادرات مثل تالنت أتلييه (Talent Atelier)، التي نُفذت بالشراكة مع دار ليكول دو فان كليف أيه آرپِل (L›ÉCOLE de Van Cleef & Arpels)، تعمل المدينة على سد الفجوة بين التعليم والممارسة المهنية بتقديم رؤى وفرص واقعية للمشاركين.
بناء منظومة إبداعية مستدامة
لا يستند الاقتصاد الإبداعي في دبي على مجموعة من المبادرات فحسب، فهو منظومة مصممة بعناية لدعم النمو على مر الزمن. ويمزج نهج هيئة الثقافة والفنون في دبي بين التعليم والشراكات وأنظمة الدعم الطويلة الأجل لضمان مرونة القطاع واستدامته. يشكل التعاون جوهر هذه الاستراتيجية. ومن خلال توحيد الجهات الحكومية والمؤسسات الخاصة والمؤسسات الأكاديمية، أنشأت الهيئة شبكة تمكّن المبدعين من الازدهار. يتسق هذا النموذج مع استراتيجية دبي للاقتصاد الإبداعي التي تهدف إلى زيادة إسهام القطاع في الناتج المحلي الإجمالي للإمارة وخلق إرث ثقافي دائم.
ومع تحول الاتجاهات العالمية، تواصل دبي الريادة من خلال تقديم نموذج يُحتذى به. ومن المتوقع أن تسهم القطاعات الثقافية والإبداعية بأكثر من 8 ملايين وظيفة جديدة في مختلف أنحاء العالم بحلول عام 2030، وهي شهادة حقيقية على ازدياد الأهمية الاقتصادية لهذا القطاع؛ وتضمن استثمارات دبي في التعليم والبنية التحتية وتطوير المواهب بقاءها في طليعة هذا التحول.
وضع معيار مرجعي للقطاع الثقافي والإبداعي
يجلب التقدم الذي أحرزته دبي رؤى ثاقبة لا تُقدَّر بثمن لتعزيز تطوير القطاعات الإبداعية في مختلف أنحاء العالم. ويمكن العثور على بعض هذه الرؤى في تقرير ”مستقبل التعليم في الاقتصاد الإبداعي” الذي يقدم خطة توجيهية ويدعو الأطراف المعنية إلى إعطاء الأولوية للتعليم وتبني استراتيجيات تركز على المنظومة كلها. وبتطوير منصات ترعى المواهب وبناء الشراكات بين مختلف القطاعات، يمكن للمدن إطلاق العنان لإمكانات اقتصاداتها الإبداعية.
هناك عدد لا يحصى من القصص الأخرى لأفراد تغيرت حياتهم بفضل التزام دبي بتعزيز الثقافة والإبداع. ومن خلال الرؤية الأشمل لهيئة الثقافة والفنون في دبي، والتعاون مع الجهات الفاعلة الرئيسية في المنظومة الإبداعية، تعمل المدينة على إعادة صياغة مستقبل الاقتصاد الإبداعي.
يكمن مستقبل الثقافة والإبداع في التعليم والابتكار والتعاون، وتشكل دبي إرثها الإبداعي من خلال العمل باعتبارها منظومة حية قادرة على التكيف مع المتغيرات والتعلم من الأخطاء ومواصلة الابتكار.