كيف‭ ‬تؤسس‭ ‬شركة‭ ‬تسعى‭ ‬لتحقيق‭ ‬رسالة‭ ‬وليس‭ ‬مجرد‭ ‬أهداف‭ ‬ربحية؟

19 دقيقة
عندما أصبح غيري أندرسون رئيساً لشركة دي تي إي إنرجي لم يكن يؤمن بقوة رسالة الشركة.

إن حديثنا في هذا المقال لا يتعلق بالتزام الشركة بالمهمة الأساسية التي تركز عليها أولاً وقبل كل شيء ألا وهي كيفية تحقيق القيمة الاقتصادية، فشركة دي تي إي (DTE) على سبيل المثال كانت تلتزم بمهمة تحقيق مكاسب بعيدة المدى لحملة الأسهم، وقد أدرك أندرسون الرئيس التنفيذي للشركة أهمية تلك المهمة جيداً.

ولكن لا علاقة بين ما تنجزه الشركة من تعاملات اقتصادية ووجود رسالة لها؛ فرسالة الشركة تعكس أمراً أكثر طموحاً من مجرد تحقيق المكاسب والأرباح الاقتصادية؛ إنها تفسر طريقة نجاح الأشخاص المنخرطين في العمل داخل أي مؤسسة في إحداث فرق ويمنحهم شعوراً بمغزى ما يقومون به ويستقطب دعمهم ومؤازرتهم. ولكن أندرسون مثله مثل الكثيرين من القادة الذين التقيناهم كان في بداية عهده كرئيس للشركة غير مؤمن تماماً بمدى أهمية وجود رسالة للشركة. فمفهوم الرسالة لم يكن يتفق مع مفهوم الشركة من حيث أنه يرتكز في المقام الأول على المبادئ الاقتصادية البحتة.

ولكن عندما اندلعت أزمة الركود الكبير عام 2008 أدرك أندرسون أن عليه جعل الموظفين يكرسون جزءاً أكبر من جهودهم وطاقاتهم للعمل. وحتى قبل اندلاع الأزمة المالية كانت الدراسات الاستقصائية تظهر أن موظفي شركة دي تي إي لم يكونوا منخرطين في عملهم بشكل كبير. لقد كان ذلك بمثابة مأزق تقليدي: إذ لم يستطع الموظفون التحرر من السلوكيات القديمة البالية، ولم يستفيدوا من مهاراتهم وطاقاتهم الإبداعية لخدمة عملهم، ولم يكن أداؤهم يرقى إلى مستوى إمكاناتهم. وقد كان أندرسون يدرك أنه بحاجة إلى قوة عمل أكثر التزاماً وانخراطاً ولكنه لم يكن يعرف كيف يحقق ذلك.

كان ذلك عندما قام اللواء المتقاعد في الجيش جو روبلز الذي كان حينئذ الرئيس التنفيذي لشركة يو إس أي أي (USAA) وعضو مجلس إدارة شركة دي تي إي (DTE)، بدعوة أندرسون لزيارة بعض مراكز الاتصالات في الشركة. وبوصفه يعرف الكثير عن مراكز الاتصالات، كان أندرسون يتوقع أن يرى موظفين يقومون بعملهم بشكل روتيني ودون نشاط كبير، بيد أنه وجد موظفين نشيطين وإيجابيين وينخرطون كلياً في عملهم ويقدمون جهداً إضافياً لإرضاء الزبائن. وحينما سأل أندرسون عن السبب في ذلك، أجابه روبلز بأن أهم وظيفة القائد هي "ربط الموظفين برسالة الشركة".

وشرح روبلز قائلاً بأن كل موظف يلتحق بالشركة يخضع لعملية توجيه ثقافي مكثفة على مدار أربعة أيام ويقدم التزاماً ببذل جهود استثنائية لخدمة الأشخاص الذين قدموا كل ما عندهم لخدمة وطنهم – وهم العسكريون وأسرهم. ولم تكن تلك العملية التدريبية مجرد استثمار بسيط، إذ إن الشركة كانت تضم أكثر من 20,000 موظف. وقد كانت الدروس المستفادة من التدريب يتم تعزيزها وتطويرها باستمرار من خلال لقاءات استمزاج آراء الموظفين وغيرها من المحافل التي تسمح للموظفين من جميع المستويات بطرح الأسئلة وتقديم الأفكار حول كيفية تحقيق هدفهم السامي.

قبل الركود كان أندرسون سيرفض موقف روبلز عن رسالة الشركة ويعده كلاماً فارغاً وتبسيطياً، ولكن بعد أن وصل إلى طريق مسدود في محاولاته لإيجاد مخرج من الأزمة ودفع شركته نحو الازدهار، اضطر إلى إعادة النظر في بعض مسلماته الأساسية حول الإدارة، وبات منفتحاً حيال ما قاله روبلز. وعندما عاد أندرسون إلى المقر الرئيسي لشركة دي تي إي في مدينة ديترويت، قام بعرض شريط فيديو يظهر موظفيه وهم يعبرون عن أهدافهم العليا. (وكان قد استلهم هذه الفكرة من روبلز أيضاً)، وقد ظهر في هذا الفيديو سائقو شاحنات ومشغلو منشآت وقادة شركات كبرى وكثيرون غيرهم وصفوا الأثر الذي يتركه عملهم على رفاه المجتمع الذي يعيشون فيه – من عمال مصانع ومدرسين وأطباء يحتاجون إلى الطاقة التي تولدها شركة دي تي إي. وقد صفقت أولى مجموعات الموظفين المهنيين الذين شاهدوا الفيديو تصفيقاً حاراً، وعندما شاهده أعضاء الرابطة تأثر بعض منهم إلى درجة البكاء. فلم يحدث أن وضع عملهم ضمن إطار الإسهام في تعزيز الرفاه العام للمجتمع من قبل. وهكذا أسهم شريط الفيديو في بث الروح في بيان الرسالة الجديدة لشركة دي تي إي: "نغذي بطاقتنا شريان حياة المجتمع وندفع بعجلة تطوره نحو الأمام".

وما حدث لاحقاً كان أكثر أهمية: فقد كرس قادة الشركة أنفسهم لدعم رسالتها ووضعوها ضمن برامج الإعداد للالتحاق بالوظيفة والتدريب، والاجتماعات التي تنظمها الشركة، وأنشطة بناء ثقافة الشركة كأمسيات الغناء الجماعي ومهرجانات الأفلام السينمائية. ومع إيمان الجميع بصدق رسالة الشركة، بدأت عملية تحول حقيقي وشرعت نسب مشاركة الموظفين في عملهم بالارتفاع وحصدت الشركة جائزة غالوب لأفضل مكان عمل على مدار خمس سنوات متتالية. وقد انعكس ذلك على الأداء المالي للشركة في الاتجاه نفسه، فتضاعف سعر سهم دي تي إي في السوق أكثر من ثلاث مرات بين نهاية 2008 ونهاية 2017.

لمَ نجح نهج رسالة الشركة في العمل في حين أخفقت السبل الأخرى؟ فقد كان أندرسون قد حاول من قبل تغيير الأوضاع من خلال أنشطة التدريب وتعديل نظام الحوافز وتعزيز الرقابة الإدارية، ولكن جاءت النتائج مخيبة للآمال. وقد تبين أن سبب الفشل هو النهج المتبع – لا موظفي شركته.

إنها حقيقة يصعب الاعتراف بها. فإذا كنت تطبق المنطق الاقتصادي التقليدي البحت كما يفعل الكثيرون من المدراء التنفيذيين، فإنك تنظر إلى الموظفين بوصفهم وكلاء يعملون فقط لمصلحتهم الذاتية الخاصة وتنظم الممارسات التنظيمية والثقافة المؤسسية لديك وفقاً لذلك. بيد أن تلك النظرة لم تؤت ثمارها كما كنت تأمل.

وهكذا فإنك تصبح أمام خيارين: إما أن تضاعف رهانك على ذلك النهج الفاشل، انطلاقاً من الفرضية التي تذهب إلى أنك بحاجة فقط إلى المزيد من السيطرة والحزم لتحقيق الأثر المرغوب؛ وإما أن تجعل المؤسسة تتماشى مع الرسالة الأكثر مصداقية والتي تتداخل مع مصالح أعمالك وتساعدك على توجيه قراراتك. فإذا نجحت في تنفيذ الخيار الثاني، سيعمد موظفوك إلى تجربة أمور جديدة وسينتقلون إلى أسلوب التعلم العميق، وسيقدمون العديد من الإسهامات المفاجئة.

يتجنب الكثير من المدراء التنفيذيين خوض غمار العمل على رسالة شركاتهم. لماذا؟ لأن ذلك يناقض ما كانوا قد تعلموه في كليات الأعمال وربما خلال خبراتهم اللاحقة: وهو أن العمل في الأساس هو موضوع تعاقدي، ومن الطبيعي أن يسعى الموظفون إلى بذل أقل قدر ممكن من الجهد الشخصي والتكاليف المادية.

ولا تعد هذه الافتراضات خطأ بالضرورة – فهي تصف على نحو واقعي سلوك الموظفين في بيئات عمل متعددة. بيد أنها قد تتحول أيضاً إلى نبوءة تحقق ذاتها. فعندما ينظر المدراء إلى موظفيهم بهذه الطريقة، فإنهم يخلقون المشكلة ذاتها التي يتوقعونها. فيعمد الموظفون إلى اللجوء بالدرجة الأولى للحوافز وإجراءات الضبط المنصوص عليها في عقودهم؛ وبالتالي فإنهم لا يخفقون فقط في رؤية الفرص المتاحة لهم، بل يعانون من الصراعات ويرفضون الملاحظات التقييمية على أدائهم ويبدون أداءً منخفضاً ويعانون من الجمود الشخصي. وهكذا فعندما يعتقد المدراء أن افتراضاتهم حول الموظفين قد ثبت صحتها، فإنهم يمارسون عليهم المزيد من الضغط والتحكم، ويعتمدون أكثر فأكثر على الحوافز والمكافآت الخارجية. فيعمد الموظفون بدورهم إلى التضييق من نطاق اهتمامهم بحيث ينصب على استحقاق تلك الحوافز والمكافآت، وذلك بالطبع على حساب الأنشطة التي يصعب تقييمها وكثيراً ما يتم إهمالها، كإرشاد المرؤوسين ومشاركة الممارسات الفضلى مع المرؤوسين والزملاء. وهكذا تغدو القيم والأهداف السامية مجرد كلمات فارغة ويعمد الموظفون إلى الاكتفاء بتأدية مهامهم الضرورية فقط، ولذلك تفشل النتائج من جديد في الوصول إلى التوقعات المرجوة، فيضغط المدراء أكثر فأكثر على الموظفين.

نقدم في هذه المقالة إطاراً يمكن أن يساعد المدراء على الخروج من هذه الحلقة المفرغة. لقد توصلنا من خلال عملنا الاستشاري مع مئات المؤسسات ومن خلال أبحاثنا – التي تتضمن مقابلات مكثفة مع عشرات القادة وتطويراً لنموذج نظري – إلى نتيجة مفادها أنه عندما تتغلغل رسالة أصيلة في استراتيجية الشركة وإجراءات اتخاذ القرار فيها، تغدو المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية متطابقتين. وعلاوة على ذلك يسود ضغط عمل تنافسي إيجابي ويعود الموظفون إلى العمل النشط، ويتعزز التعاون المشترك والتعلم والأداء. وسنرى فيما يلي كيف يمكنك تطبيق سلسلة من الإجراءات المشابهة في مؤسستك، وذلك استناداً إلى أمثلة كثيرة متنوعة من عدد من الشركات.

كيفية القيام بذلك

عندما تتبنى المؤسسات نهج الرسالة وتسعى لتحقيقها، فغالباً ما يحدث ذلك لأن أزمة ما قد أجبرت القادة على مراجعة افتراضاتهم حول الدوافع والأداء وتدفعهم إلى تجربة مناهج جديدة. ولكنك لست مضطراً لانتظار وضع صعب لكي تغير نهجك في العمل، فباستطاعة الإطار الذي طورناه أن يساعدك في بناء مؤسسة تسعى لتحقيق رسالة، وذلك عندما لا تكون محصوراً في الزاوية. إن هذا الإطار يمكنك من تخطي أكبر الحواجز التي تقف في وجه تبنيك لرسالة – وهي النظرة "التجارية" الساخرة لحفز الموظفين على العمل – وذلك باتباع الخطوات الثمان الأساسية.

1. خطط لامتلاك قوة عمل محفَّزة

بحسب علماء الاقتصاد يواجه كل موظف مشكلة "الأصيل والوكيل"، التي هي النموذج الاقتصادي المعياري لتوصيف علاقة المؤسسة بعمالها وموظفيها. وفيما يلي الفكرة الأساسية لذلك النموذج: يوقع الأصيل (صاحب العمل) والوكيل (الموظف) عقد عمل، ويكره الوكيل بذل الجهد. ولقاء مبلغ محدد من المال يقوم الوكيل بإنجاز كمية محددة من العمل، لا أكثر. ولما كان بذل الجهد يكلف صاحبه العناء، يتخلف الوكيل عن بذل الجهد ما لم يقم الأصيل بتطبيق نظم الحوافز والمراقبة المنصوص عليها في العقد من أجل مواجهة ذلك الميل إلى عدم بذل الجهد.

يتعارض هذا النموذج مع فكرة المشاركة الكلية لقوى العمل. وبحسب هذا المنطق، فإن ما شاهده أندرسون في شركة يو إس أى أي غير ممكن الحدوث؛ بل إنه من الغباء أن يطمح المرء إلى نتيجة كتلك.

وتتمثل إحدى الطرق المناسبة لتغيير هذا الفهم في استعراض بعض الاستثناءات الإيجابية لهذه القاعدة أمام المدراء. انظر منشور شهر يوليو/ تموز 2015 على مدونة مايك رو (Mike Rowe) مقدم برنامج ديرتي جوبز (الوظائف المتدنية) الذي كان يعرض على قناة ديسكفري حول حادث تعرض له في أحد فنادق "هامبتون إن":

لقد تركت غرفة الفندق هذا الصباح لكي أقفز من طائرة ممتازة، فرأيت جزءاً من رجل يقف في الممر. كانت قدماه تقفان على إحدى درجات سلم منصوب وسط الممر، في حين كان الجزء الباقي منه في مكان ما داخل السقف.

عرّفته بنفسي، وسألته عما كان يعمل في الأعلى. فإلى جانب إشباع فضولي الطبيعي، بدا أن التحدث إلى هذا الرجل من شأنه أن يؤخر موعدي مع مغامرة القفز من الطائرة بعض الشيء، ولكني لم أكن متعجلاً للقيام بذلك. كان اسمه كوري مندل... وقد بدأنا سريعاً في الحديث.

قال: "حسناً يا مايك، هذه هي المشكلة. هنالك كسر في أنبوبي هذا، ومائي الساخن يتسرب إلى غرفة غسيلي. يجب عليّ أن أغلق صنبور الماء وأفك أنبوبي القديم وأركب مكانه أنبوبي الجديد قبل أن يلاحظ زبائني أن هنالك مشكلة".

سألت كوري إن كان يحتاج للمساعدة، فأخبرني أن مهمته لم تكن سيئة جداً.. ضحكنا.. ثم سألني كوري إن كان بوسعه التقاط صورة سريعة لي، وافقت طبعاً مفترضاً أنه سيرد لي المعروف. وسألني لماذا أرغب في التقاط صورة له، فقلت له بأنني أعجبت باختياره للألفاظ التي تستخدمها في كلامك.

ثم أردفت قائلاً: "أحببت الطريقة التي تتحدث بها عن عملك، فلم تقل "الماء الساخن"، بل قلت "مائي الساخن"؛ ولم تقل "غرفة الغسيل"، بل قلت "غرفة غسيلي"؛ ولم تقل "أنبوباً جديداً"، بل قلت "أنبوبي الجديد". إن غالبية الناس لا يتكلمون بهذه الطريقة عن عملهم، فهم ببساطة لا يمتلكون أعمالهم كما تفعل أنت."

قال كوري باستهجان: "إنه ليس "أي عمل"، بل إنه "عملي أنا"، وأنا سعيد بأن لدي هذا العمل وفخور بكل عمل أقوم به".

لم يكن كوري يعلم أن كلماته قد هونت عليّ مهمتي في ذلك اليوم؛ إذ إنني بعد ثلاث ساعات وعندما كنت أحاول استجماع شجاعتي لأقفز من الطائرة الممتازة كنت أفكر في شد حزام فتح "المظلة" – لا بل كنت أفكر في شد حزام فتح "مظلتي".

إن كوري مندل هو موظف يعمل من أجل رسالة الشركة؛ إنه بدلاً من أن يخفض جهده المبذول قدر المستطاع كما كان "الوكيل" النمطي سيفعل، تصرف بروح صاحب العمل كما لو كان هو الأصيل. ولعل حقيقة أن أمثاله موجودون على أرض الواقع هي حقيقة مهمة وذات دلالة؛ فعندما ندرب المدراء على كيفية إدخال الأعمال المدفوعة برسالة المؤسسة إلى مؤسساتهم، غالباً ما نقول لهم: "إن كان ذلك موجوداً في الواقع، فهو ممكن التحقيق". وإذا ما تمكنت من إيجاد مثال إيجابي واحد – شخص أو فريق أو أية مجموعة عمل تتخطى المعايير السائدة – يمكنك تشجيع الآخرين وحضهم على أن يحذوا حذوه. ابحث عن مثال متميز، وتفحص رسالة الشركة المؤدية إلى ذلك المثال المتميز، وتخيل هذه الرسالة تصبغ القوى العاملة لديك.

2. اكتشف رسالة الشركة

لقد التقينا مرة في شركة نفط عالمية بأفراد مجموعة كانت مكلفة من قبل الرئيس التنفيذي بالعمل على تعريف رسالة الشركة. وقد سلمونا وثيقة تمثل ثمرة أعمالهم على مدار شهور عدة، جرت فيها صياغة رسالة شركتهم، ورسالتها الأساسية، ومجموعة قيمها. درسنا الوثيقة وأخبرناهم بأنها غير فعالة – فتحليلهم ونقاشهم لم ينتجا سوى مجرد بديهيات.

لم يستخدم أفراد مجموعة العمل تلك سوى رؤوسهم لاختراع رسالة من المفترض أن تأسر قلوب الموظفين. بيد أنك لا تخترع هدفاً سامياً، إنه موجود مسبقاً، وما عليك سوى اكتشافه من خلال التعاطف الوجداني والشعور بالحاجات العميقة المشتركة لقوة العمل لديك وتفهمها.

ويتطلب ذلك طرح الأسئلة الاستفزازية والإنصات لأجوبة الموظفين واستيعابها والتفكير في مدلولاتها.

وتوفر ديبورا بول، العميدة السابقة لكلية التربية في جامعة ميشيغان، مثالاً جيداً على اكتشاف رسالة الشركة. فمثل غالبية الشركات تمر الكليات المهنية بنوع من "انحراف الرسالة الأساسية". وبوصفها عميدة جديدة، أرادت بال أن تستوضح هدف الكلية السامي، بحيث يمكنها زيادة تركيز الموظفين والتزامهم وتعاونهم فيما بينهم.

ولكي تتعرف على مؤسستها وتصحح مسارها، التقت بال بكل عضو في الكلية على حدة. ولقد توقعت أن تلقى تنوعاً كبيراً في الآراء – وهذا ما لاقته فعلاً، لكنها وجدت أيضاً أمراً مفاجئاً مشتركاً فيما بين جميع الموظفين وهو ما وصفته بأنه "قصة في طور النشوء" حول رغبة الكلية القوية لأن يكون لها أثر إيجابي على المجتمع. دونت بال ما سمعته من آراء وتشاركت به مع جميع الأشخاص الذين قابلتهم، وأنصتت إلى ردود أفعالهم واستمرت في تنقيح قصصهم.

لم يكن ذلك مجرد جولة إنصات إلى آراء الموظفين، بل كانت عملية واسعة النطاق ومنضبطة ومتكررة. تقول بال: "إنك تتعرف على اقتراحات جيدة، فتعمل عليها وتستوضحها وتدمجها مع بعضها وتعدلها باستمرار من خلال آلية تلقي الملاحظات او الآراء". وتصف بال هذه العملية بوصفها "عملية إبداع جماعي" مستعيرة عبارة من منهجيات التفكير التصميمي التي تتسم بالمرونة.

ومع استمرار العمل، اتضح أن الكلية كانت تمتلك نقاط قوة كان باستطاعتها توظيفها لخير المجتمع. فعلى سبيل المثال كانت الكلية تمتلك القدرة على التأثير في كيفية تدريب المؤسسات الأخرى حول العالم للمدرسين ومعالجة المشكلات المتعلقة بتوفير الخدمات التعليمية وتقديم الخدمات لفئات السكان الممثلة تمثيلاً ناقصاً. وقد استنتجت بال أن نقاط القوة تلك قادرة على إدماج جهود جميع أعضاء الكلية واجتذاب كفاءات جديدة مؤثرة واستقطاب التمويل للأعمال البحثية. ولذلك أبرزت بال تلك النقاط كعناصر بالغة الأهمية بالنسبة لتشكيل الشخصية الجمعية للكلية.

3. سلّم بالحاجة إلى صدق الرسالة

لقد بات موضوع الرسالة بالنسبة للمؤسسات منتشراً على نطاق واسع، وبات القادة يواجهون ضغوطاً من أعضاء مجالس الإدارات والمستثمرين والموظفين وغيرهم من الشركاء لصياغة رسالة يعملون لتحقيقها حتى ولو لم يكونوا مؤمنين بها.

هذا يقود أحياناً إلى صدور بيانات كتلك التي أنتجتها مجموعة العمل في إحدى شركات النفط عندما أعلنت رسالتها وقيمها ولكن الكلمات التي تصدر من القيادة العليا في الشركة لا تعبر عن ذلك السلوك وتبدو فارغة من أي مضمون حقيقي، ويكتشف الجميع مقدار النفاق الذي يمارسه هؤلاء القادة، ويغدو الموظفون أكثر تهكماً وتغدو تلك العملية برمتها مضرة.

هنالك رؤساء تنفيذيون يستوعبون خطر ذلك السلوك بحدسهم الفطري، وقد أخبر أحد المدراء فريق قيادة شركته بأنه لا يرغب في اتباع نهج العمل المدفوع بهدف سامٍ لأن المؤسسات من وجهة نظره عبارة عن نظم سياسية ومن الطبيعي أن يتخللها النفاق. ولعل موقفه هذا يسلط الضوء على نقطة مهمة ألا وهي أن الافتراض بأن الناس يتصرفون انطلاقاً من مصلحتهم الذاتية الخاصة فقط إنما ينطبق أيضاً على القادة الذين غالباً ما يُنظر إليهم بوصفهم مخادعين إذا ما ادعوا غير ذلك.

فأجاب أحد أعضاء فريق قيادة الشركة: "لماذا لا نغير هذا الواقع؟ دعونا نحدد هدفاً سامياً وقيماً عليا ونتصرف وفق ذلك الهدف وتلك القيم بصدق وإخلاص". لقد ساعدت هذه الملاحظة الجدية الصادقة على التخلص من التشكك والتشاؤم الذي كان سائداً وانطلق الفريق قدماً نحو الأمام.

ولاستعراض مثال على رسالة الشركة التي تعدل السلوك، نأخذ شركة ساندلر أونيل آند بارتنرز، وهي بنك استثمار متوسط الحجم يساعد المؤسسات المالية على زيادة رأسمالها. لقد كانت الشركة ناجحة في سوقها المتخصصة وكانت تسعى بكل قدرتها إلى تحقيق هدف تعظيم قيمتها السهمية في السوق. لكن الكارثة حلت بها في 11 سبتمبر عام 2001 حيث كان مقرها في أحد برجي مدينة نيويورك، ولذلك تعرضت الشركة لوطأة الهجوم الإرهابي كاملة. فقد علم جيمي دوني الذي قاد الفريق التنفيذي للشركة بعد الهجوم أن أكثر من ثلث موظفي ساندلر، بمن فيهم أعلى مديرَين تنفيذيين، قد راحوا ضحية للهجوم وأن البنية التحتية المادية للشركة قد دمرت وأن العديد من أجهزة الكمبيوتر وسجلات بيانات الزبائن قد فقدت.

ومع توالي فصول الأزمة وبغض النظر عن الضغط الاستثنائي وحاجة الشركة الماسة لجهود جميع موظفيها، قرر دوني أن يقوم أحد شركاء ساندلر بحضور مراسم دفن كل موظف من موظفي الشركة الذين سقطوا ضحايا الهجوم الإرهابي، ما عنى أنه شخصياً كان مضطراً لحضور العديد من مراسم الدفن. ونتيجة مشاهدته لذلك الحجم من الألم والمعاناة بدأ يدرك أن هدف شركته السامي لا يمكن أن يتمثل فقط في إرضاء الزبائن وخلق القيمة لحاملي أسهمها، بل يجب أن يشمل أيضاً معاملة الموظفين معاملة تليق بقيمة الإنسان.

وقد أدى ذلك إلى الخروج عن البروتوكول إلى حد كبير، فلقد طلب من مديره المالي على سبيل المثال أن يدفع لجميع أسر موظفيه المتوفين مرتباتهم وتعويضاتهم حتى 31 ديسمبر 2001 – ومن ثم سأل إن كان بالإمكان الاستمرار في ذلك حتى نهاية عام 2002. فأجاب المدير المالي بأن الشركة قادرة على تحمل ذلك العبء، بيد أن القيام بذلك يناقض مسؤولية الشركة الائتمانية تجاه الشركاء. ولذلك عرضت الشركة شراء حصة كل شريك لا يوافق على ذلك القرار، ولم يرض أي شريك بذلك.

عندما تكون رسالة الشركة صادقة يظهر ذلك للجميع، لأن هذه الغاية ستؤثر في كل قرار تتخذه ولأنك ستقوم حينئذ بأمور لا تقوم بها الشركات الأخرى، مثل دفع المرتبات لأسر الموظفين الضحايا. لقد أخبرَنا دوني بأن المؤسسات غالباً ما تكتشف هدفها السامي وقيمها العليا عندما لا تسير أمورها على ما يرام – وأن حقيقة تلك الشركات لا تتبدى إلا من خلال ما يفعله قادتها في الأوقات الصعبة؛ وأضاف قائلاً: "إنك تحكم على الناس ليس من خلال ما يعطونه بل من خلال ما يبقى لديهم بعد العطاء".

  1. حوّل رسالتك الصادقة إلى رسالة ثابتة

عندما تحدثنا إلى الرئيس التنفيذي لإحدى شركات الخدمات الاحترافية العالمية حول كيفية إقامة مؤسسة تسعى إلى تحقيق هدف سامٍ، كان أول سؤال يطرحه: "متى سأنتهي من ذلك؟"

فأجبناه من خلال إخباره بقصة تتعلق برئيس تنفيذي آخر كان يحاول إحداث تحول على مدار عام في شركته العاملة في مجال التشييد. وقد شرح لنا خطته وطلب رأينا فيها، فمنحناه ثاني أعلى علامة ولم نمنحه العلامة الأعلى لأنه كان يظن أن بإمكانه التحدث عن التغيير لمدة عام ومن ثم يكون قد أتم مهمته – في حين أن موظفيه قد بدأوا للتو سماع رسالته عن التغيير. إنه بحاجة فعلاً لأن يستمر في شرح هدف مؤسسته السامي طالما أنه الرئيس التنفيذي. لقد فاجأه رأينا هذا فغاص في كرسيه.

وعلى العكس من ذلك كان توني ميولا، المدير المتقاعد لقسم عمليات المستهلكين الأميركيين في بنك أوف أميركا، أحد القادة المدركين للطبيعة المستمرة لنهج العمل المدفوع برسالة الشركة. وكما يرى، فإن ما يجعل هذا النهج صعباً بلا هوادة هو أنه يتطلب من المؤسسة أن تغير توجهها – ومن المعلوم أن الثقافة السائدة تنحو إلى إعاقة الحركة والتغيير. وبوصفهم امتداداً لثقافة الشركة يجد المدراء أنفسهم يقامون التغيير أيضاً. ومن بين المعيقات الأخرى التعقيد المؤسسي والمتطلبات التنافسية.

لقد تغلب ميولا على هذه المعيقات من خلال إيضاح رسالة الشركة لقسمه، ألا وهي التعامل مع الامتياز التشغيلي بوصفه قدراً محتوماً وعدم السماح لأية ضغوط من أية جهة أن تحيده عن هدفه. لقد كان يركز اهتمامه على المهارات التشغيلية ومفهوم القيادة في أنشطة تدريب الموظفين وتطوير مستواهم الوظيفي، وكان يشير إلى ذلك الموضوع في جميع المحادثات والقرارات والجهود التي يبذلها لحل المشاكل التي يواجهها فريقه، فيسأل في جميع الأحوال: "هل سيجعلنا ذلك أفضل في إجراءاتنا التشغيلية". ويشرح ميولا ذلك النهج قائلاً: "عندما تتمسك بهدفك بهذه الدرجة من الثبات والالتزام وعندما لا تتردد ولا تتراجع، فإن أمراً مدهشاً يحدث على أرض الواقع؛ إذ يتغلغل ذلك الهدف في الوجدان الجمعي للمؤسسة، وتتغير ثقافتها ويبدأ أداؤها بالتحسن، ويغدو تنفيذ العمليات وتعزيزها أبسط وأسهل، ويبدأ الموظفون بالبحث عن حلول دائمة بدلاً من إجراءات ملء الفجوات التي تنتج بدورها فجوات أخرى في الأداء من خلال التعديل الارتجالي وغير المدروس للعمليات".

وبالطبع فإن احتضان هذه الذهنية كان يعني القول لا لأي شيء لا يتوافق معها. ففي مركز اتصال القسم على سبيل المثال كان هنالك مقترح لاستثمار المزيد من الموارد في التكنولوجيا وفي توظيف أشخاص جدد بحيث يستطيع فريق العمل هناك حل مشاكل الزبائن بسرعة وبشكل أفضل. غير أن المشروع تم رفضه لأن المدراء والموظفين عندما استخدموا هدفهم السامي للحكم على المشروع وسألوا أنفسهم إن كان هذا الاستثمار سيجعل أداءهم التشغيلي أفضل، كان الجواب "لا". وقد وجدوا أن ما تحتاجه الشركة فعلاً هو اختبار كيفية إدخال تحسينات على العمليات نفسها، وذلك لتلافي الأخطاء التي كانت سبباً في تلقي الاتصالات في الأساس.

عندما يتحدث القادة عن رسالة شركتهم بمصداقية وثبات، كما اعتاد ميولا أن يفعل، يكتشف الموظفون صدق والتزام قادتهم، فيبدؤون هم أنفسهم بالإيمان بذلك الهدف وتعديل توجهاتهم وفقه. وهكذا تنطلق إشارة التغيير من الأعلى ثم تتكشف وتتطور من الأدنى.

5. حفّز على التعلم الفردي

ينحو المنطق الاقتصادي التقليدي إلى الاعتماد على الحوافز الخارجية، ولكن مع احتضان القادة لرسالة الشركة، يدركون أن التعلم والتطور هي حوافز فعالة جداً؛ فالموظفون يرغبون في الواقع في أن يفكروا ويتعلموا وينمّوا قدراتهم.

في مؤسسة "ذا ميشن كونتينيوز" (The Mission Continues) غير الربحية ومقرها سانت لويس، والتي تسعى من خلال رسالتها إلى تأهيل الجرحى والمعاقين من المحاربين القدامى وإعادة إدماجهم في المجتمع، كان الموظفون الجدد يكلفون بقدر كبير من المهام والأعمال وذلك اعتماداً على الفلسفة القائلة بأن القائد عندما يكلف موظفاً ما بمواجهة تحد كبير، فإنه يثبت ثقته بقدرات ذلك الموظف فيغدو مكان العمل بمثابة حاضنة للتعلم والتطور، ومع مرور الزمن يكتسب الموظف قدراً أعلى من الثقة بالنفس ويصبح أكثر التزاماً بمؤسسته وبالرسالة التي تدفعها للأمام.

ومن خلال مساعدة الموظفين على فهم العلاقة بين رسالة الشركة وعملية التعلم، يكون باستطاعة القادة تقوية هذه الرسالة وتعزيزها. فموظفو مؤسسة "ذا ميشن كونتينيوز" مطلوب منهم أن يفكروا في تلك العلاقة مراراً وتكراراً، وكل أسبوعين يطلب منهم تقديم وثيقة مكتوبة توصف هدفهم السامي ونقاط قوتهم ومدى تطورهم. ولا يأخذ هذا التمرين شكلاً تكرارياً مملاً، لأن الخبرات تتغير كما تتغير الدروس المستفادة. وتتفق هذه الممارسة مع نتائج الأبحاث حول نهج التطوير الفعال للإدارة، ففي المؤسسات الحديثة تنحو الخبرات الجديدة لأن تغدو سهلة ومتاحة ولكن التفكير في تلك الخبرات واستخلاص العبر منها لا يكون كذلك. لقد أصبح الموظفون في مؤسسة "ذا ميشن كونتينيوز" أكثر قدرة على التأقلم والمبادرة، ولم تعد مراقبة الإدارة لأدائهم ضرورية بنفس الدرجة السابقة، ذلك لأنهم يدركون رسالة الشركة ويرون كيف أنها قد غيرتهم نحو الأفضل. ويمكن تشبيه هذا الشعور الواضح بتحديد الهدف بما يعرف بـ "مقصد القائد" في العسكرية. فإذا ما عرف الجنود واستوعبوا تماماً الهدف الاستراتيجي للقائد، يمكنهم تنفيذ المهمة حتى في غياب قائدهم. هذا يعني بالطبع أن على القائد أن يصف رسالة الشركة بوضوح تام، بحيث يستطيع الموظفون الاستفادة من معلوماتهم الخاصة بمكان عملهم واتخاذ المبادرات التي تخدم تحقيق ذلك الهدف. وقد أظهرت الأبحاث التي قام بها أساتذة كلية الأعمال كلودين غارتنبرغ وأندريا بارت وجورج سيرافايم مدى أهمية وضوح الرسالة في الشركات الكبرى أيضاً – إذ لا يقتصر ذلك على المؤسسات غير الربحية.

6. حوّل مدراء المستوى المتوسط إلى قادة يسعون إلى تحقيق رسالة الشركة

لبناء قوة عمل متحمسة وملتزمة، سوف تحتاج إلى مدراء في المستوى المتوسط لا يعرفون فحسب رسالة الشركة، بل يتشربونها ويتصرفون بمقتضاها لكي تكون قيادتهم لزملائهم قائمة على قوة معنوية. ويتجاوز ذلك ما يطلب عادة من مدراء المستوى المتوسط في غالبية الشركات.

انظر إلى شركة "كي بي إم جي" التعاونية على سبيل المثال، والتي تعد إحدى الشركات الأربع الكبرى في مجال المحاسبة والتي لها آلاف الشركاء ظلوا لعقود من الزمن يتناولون مسألة القيادة في الشركة مثل تناولهم للمحاسبة. لقد كان موظفو تلك الشركة متنبهين في عمليات رصدهم ودقيقين في تقييماتهم وحذرين في اتخاذ قراراتهم، لأن ثقافة الشركة المفروضة من الأعلى تستدعي ذلك. ولم يكن قادة الصف الأول في الشركة ولا الشركاء ميالين للتحمس حيال الرسالة الجديدة للشركة، ولذلك كان سلوك الموظفين في جميع مستويات الإدارة محكوماً فقط بالسير خطوات آمنة وصغيرة.

لكن شركة "كي بي إم جي" تعرضت إلى عملية تحول حقيقي، فقد بدأت باستكشاف نهج رسالة الشركة. ومن خلال الفحص النافي للجهالة في تاريخ الشركة تفاجأ قادتها بأن شركتهم كانت قد قدمت إسهامات ملحوظة في كثير من الأحداث الكبرى في العالم. فبعد إجراء مئات المقابلات مع الموظفين وتحليلها، توصل أولئك القادة إلى أن رسالة شركة "كي بي إم جي" إنما تتمثل في مساعدة زبائنها على "بث الثقة والتمكين من التغيير".

لقد أثارت هذه الكلمات القليلة شعوراً بالرهبة لدى موظفي ومدراء الشركة، إلا أن كبار المدراء التنفيذيين تفادوا الانسياق وراء الإغراء المتمثل في تحويل هذه الكلمات إلى شعار تسويقي. وعوضاً عن ذلك عملوا على تعزيز ارتباط كل قائد ومدير بهذه الغاية. وقد بدأوا بذلك من خلال التحدث علناً عن شعورهم الخاص برسالة الشركة ومعناها. وعندما وجدوا ذلك مؤثراً، أدركوا أن على شركائهم القيام بالمثل مع فرق عملهم. ولدى طرح كبار مدراء الشركة لهذه التوقعات، أظهر الشركاء انفتاحاً لافتاً بيد أنهم كانوا يشعرون بأنهم غير مجهزين للقيام بذلك. وهكذا استثمرت الشركة في نوع جديد من التدريب تعلّم فيه الشركاء كيف يسردون قصصاً مشجعة قادرة على إيصال فهمهم للهوية الشخصية ورسالة الشركة.

وبرغم صعوبة تطبيق ذلك التدريب – الذي كان مجهداً فعلاً بالنسبة لخبراء اختصاصيين في مجال الاستثمار والعقارات والضرائب والاستشارات المتعلقة بالمخاطر وما إلى ذلك – فقد تغيرت الثقافة فعلاً. واليوم بات الشركاء يتحدثون بصراحة عن أهدافهم الخاصة مع فرق عملهم ويناقشون كيفية ارتباطها بحياتهم المهنية وبأسباب وجود المؤسسة التي يعملون فيها. ومن خلال ذلك، يحقق أولئك القادة درجة من التأثير والمصداقية لم يكن يتوقعها أحد من قبل من مدراء المستوى المتوسط في شركة المحاسبة هذه.

7. عزز صلة الموظفين برسالة الشركة

بعد استيعاب المدراء في الإدارة العليا ومدراء المستوى المتوسط لرسالة الشركة وتجسيدها في سلوكهم، يتعين عليهم مساعدة موظفي الخطوط الأمامية لكي يترجموا تلك الرسالة أثناء تنفيذ مهامهم اليومية. غير أن نهج التكليف من أعلى إلى أسفل لا ينجح في هذه الحالة، ومن الضروري أن يساعد الموظفون في قيادة هذه العملية إذ إنه من المرجح حينئذ أن تتغلغل تلك الرسالة في ثقافة المؤسسة وتسهم في تغيير سلوك الموظفين حتى في غياب المدراء وعدم مراقبتهم لكيفية عمل الموظفين وتسييرهم للأمور. ولعل أفضل مثال لإظهار ذلك يأتي مجدداً من شركة "كي بي إم جي"، حيث طلب من الموظفين أن يعرضوا وجهات نظرهم حول الأمور التي يفعلونها والتي من شأنها أن تحدث فرقاً. وقد تطورت هذه المبادرة لتشكل برنامجاً لافتاً أطلق عليه اسم "تحدي الـ 10,000 قصة". وقد سمح هذا البرنامج للموظفين بالدخول إلى برنامج صديق للمستخدم ودعاهم إلى إعداد ملصقات تجيب عن سؤال: "ماذا تفعل في شركة "كي بي إم جي؟"، وذلك للتعرف على شغفهم وربطه برسالة الشركة.

قام كل موظف مشارك في البرنامج بكتابة عنوان رئيسي لملصقته مدفوعاً برسالة الشركة، على نحو "أنا أحارب الإرهاب"، ثم كتابة عبارة تفسيرية أسفله مثل: "شركة كي بي إم جي تساعد أعداداً كبيرة من المؤسسات المالية على منع غسيل الأموال والحفاظ على الموارد المالية بعيدة عن متناول يد الإرهابيين والمجرمين". وتحت هذا الشرح كان بوسع الموظف وضع صورته، وقد حملت كل ملصقة شعار "بث الثقة والتمكين من التغيير".

وأعلن قادة الشركة في شهر يونيو أنه إذا أنجز الموظفون إعداد 10,000 ملصقة قبل حلول عيد الشكر في شهر نوفمبر، فإن العطلة التي ستمنح بهذه المناسبة ستمتد ليومين إضافيين. وقد أنجز الموظفون ذلك الهدف في شهر واحد فقط، لكن العملية لم تتوقف عند هذا الحد – مع أن المكافأة قد باتت مضمونة. لقد أعد 27 ألف موظف حوالي 42,000 ملصقة (البعض منهم أعد أكثر من ملصقة واحدة، كما أعدت فرق العمل ملصقات إضافية). لقد وجدت شركة كي بي إم جي طريقة رائعة لمساعدة الموظفين على التماهي الشخصي مع رسالة شركتهم.

ومع تجذر هذا التحول العميق في بنية المؤسسة، أظهرت الاستبيانات أن اعتزاز الموظفين بعملهم قد ارتفع ونسب الانخراط في العمل قد حققت مستويات قياسية. وفي المحصلة قفزت الشركة 31 مرتبة لتحقق المرتبة 12 على قائمة فورتشن 100 لأفضل 100 شركة، ما يجعلها أعلى مرتبة بين الشركات الأربع الكبرى في مجال المحاسبة. وهكذا تحسنت عمليات التوظيف وانخفضت التكاليف أيضاً مع انخفاض نسبة استقالات الموظفين.

8. أطلق العنان للمحفزين الإيجابيين

تمتلك كل مؤسسة مجموعة من عناصر التغيير التي عادة ما تبقى مخفية ولا يُستفاد منها. نطلق على هذه المجموعة اسم شبكة المحفزين الإيجابيين. فعادة ما ينتشر في كل مؤسسة على نحو غير منظم أشخاص واعون ومدفوعون برسالة الشركة ومتفائلون، من أمثال كوري مندل في فندق "هامبتون إن". وبطبيعتهم فإن أولئك الأشخاص ملهمون للآخرين ومنفتحون عليهم ومستعدون لأخذ زمام المبادرة. وبمجرد تحديدهم يمكن الاستفادة منهم في كل خطوة من خطوات هذا التغيير الثقافي في المؤسسة. ومن السهل التعرف على هؤلاء الأشخاص كما أنهم مصدر ثقة للآخرين.

لقد ساعدنا في إقامة مثل هذه الشبكات في عدد كبير من المؤسسات بما فيها "برودنشال ريتايرمنت" و"كيلي سيرفيسز" و"دي تي إي إنرجي". وعادة ما يقوم القادة الكبار في المؤسسة بدعوة أفراد تلك الشبكة في اجتماع تمهيدي للمشاركة الفعالة في التخطيط لعملية التغيير وتنفيذها. وخلال دقائق معدودة يكون أولئك الأفراد قد انخرطوا فعلياً في تنفيذ المهمة، فيحددون مواعيد للقاءات الدورية، ويبدؤون بالتفاعل مع الآخرين ويشاركونهم بمقترحاتهم ويطرحون أراءً وأفكاراً جديدة، وهم على استعداد لقول الحقيقة بصدق ومناقشة الافتراضات بصراحة وبصورة منفتحة.

وغالباً ما يكون لهذه الشبكة أيضاً مزية أخرى، كما تعرضها من واقع خبرتها مديرة عامة لإدارة الموارد البشرية فبعد إنشاء شبكة المحفزين الإيجابيين في إحدى شركات الخدمات الاحترافية الكبرى، اتصلت بنا لتخبرنا بأنها صُعقت – بالمعنى الإيجابي – بمدى الاهتمام والنشاط والالتزام الذي أظهره أفراد تلك الشبكة. فلقد شكلوا مورداً كبيراً للعمل ظل مخفياً وغير مستثمر حتى الآن. وقد وجدت أنهم كانوا مهتمين بنفس درجة اهتمامها بتحقيق رسالة الشركة ودفع الزملاء لتبنيها واحتضانها، قائلة: "لم أعد أشعر أنني وحدي".

على الرغم من أن رسالة الشركة لا تضمن تحقيق الأرباح الاقتصادية، إلا أننا شهدنا نتائج مبهرة في العديد من المؤسسات. وتظهر أبحاث أخرى – وبخاصة البحث الذي أجرته مؤسسة غارتنبرغ والذي شارك فيه 500,000 شخص من 429 شركة وشملت رصداً لـ 917 ملاحظة للشركة في السنة في الفترة بين 2006 و2011 – أن الأثر الإيجابي على كل من الأداء المالي التشغيلي (العوائد على الأصول) ومقاييس الأداء المستقبلية (عائدات الأسهم ونموذج توبين كيو Tobin’s Q)، شريطة أن تكون الرسالة قد جرى إيصالها للموظفين بوضوح.

وهكذا فإن نهج الرسالة ليس مجرد فكرة فارغة؛ بل إن له نتائج عملية على السلامة المالية لمؤسستك وعلى قدرتها التنافسية. فالأشخاص الذين يدركون مغزى عملهم لا يألون جهداً أو طاقة لتحقيق رسالة لمؤسستهم، وذلك بمحض إرادتهم ومن دون إجبار، متحدّين الافتراضات الاقتصادية التقليدية حول ميل الموظف إلى تحقيق مصلحته الذاتية فقط. إنهم ينمون ويتطورون باستمرار بدلاً من أن يتقاعسوا ويبقوا في أماكنهم. إنهم يعملون أكثر وبجودة أعلى. فمن خلال الاستفادة من قوة رسالة الشركة، يمكنك تحويل مؤسسة بكاملها.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي