في الوقت الذي شارفت معظم الدول في "الشمال العالمي" على تلقيح ما نسبته 50% من سكانها أو حتى أكثر، تتكثف حالياً الجهود الحكومية للوصول إلى تحفيز التلقيح للوصول إلى مناعة القطيع قبل نهاية عام 2021. فبعد الموافقة على اللقاحات الأولى، تنفس العالم بأسره الصعداء، وقد سجّل الذين يتوقون إلى تلقي اللقاح وانتظروا دورهم أو حتى أن بعضهم أخذ دور غيرهم. وكانت نسبة العرض إلى الطلب نادرة جداً لدرجة أن الأشخاص المترددين في تلقي اللقاح لم يكونوا مصدر قلق فوري، إلا أنه في شهر أبريل/ نيسان، توقعت الولايات المتحدة وجود فائضٍ من اللقاحات في الشهر الذي يليه، وفي ذات الشهر تم الإبلاغ عن انخفاض مثير للقلق في الإقبال على تلقي اللقاح. وبعد حصر الفئات المؤهلة لتلقي اللقاحات من أولئك الذين يرغبون في الحصول عليها، تواجه الحكومات الآن مشكلة إعطاء لقاح اشترته بمدة صلاحية محدودة لفئات مترددة أو متشككة أو تعارض بشدة أخذ اللقاحات. ويسعى صانعو السياسات جاهدين لاستنباط طرق لتحفيز الأشخاص المؤهلين للتطعيم على أخذ اللقاح، يدفعهم إلى ذلك ضغط تهديد السلالات المتحورة، والأزمة الاقتصادية الرهيبة، والرغبة العامة في العودة إلى الحياة الطبيعية.
وخلال فترات الإغلاق المتقطع، فضلت العديد من الدول اتباع نهج أكثر صرامة من التوصيات البسيطة المتعلقة بالبقاء في المنزل، فقد فرضت غرامات باهظة وإغلاقات وتبنت تدابير إنفاذ أخرى. ومع نجاحٍ مثير للجدل، إلا أن الأهم من ذلك هو أن هذه السياسات كانت غير مستدامة لأنها تلاعبت بالحريات المدنية للناس واعتمدت على قدرات مؤسسية واسعة النطاق واستخدام الموارد، وربما تكون الصدمة والخوف اللذان سيطرا على تصورات الناس خلال الأسابيع الأولى من تفشي الوباء قد بررا الإغلاق الكامل بموجب الأحكام العرفية في دول مثل فرنسا وإيطاليا، ولكن بعد مرور عام يمكن لمثل هذا الإجراء أن يشعل احتجاجاتٍ واسعة.
مؤشّر الصرامة
تُظهر البيانات المأخوذة من مؤشّر الصرامة في متعقّب أوكسفورد لاستجابة الحكومات لفيروس "كوفيد-19" وبيانات الهواتف الذكية مستويات مختلفة من الامتثال خلال فترات الإغلاق بين البلدان مرتفعة الدخل وتلك المنخفضة الدخل. وعلى الرغم من أن العديد من العوامل تؤثر على الامتثال في مختلف البلدان، مثل التأثير على قدراتها المؤسسية على إنفاذ القواعد، فإن الافتراضات الخاطئة حول "عقلانية" الأفراد التي تفترضها ضمنياً التشريعات تؤدي أيضاً إلى تضليل السياسات.
اختار بعض صنّاع السياسات زيادة الإقبال على اللقاح من خلال تقديم حوافز مالية تقليدية: فعلى سبيل المثال، تقدم ولاية فرجينيا الغربية قسائم شراء بقيمة 100 دولارٍ أميركي أو سندات ادخار للأشخاص الذين يأخذون اللقاح، وتقدم لهم ولاية نيوجيرسي مشروبات مجانية، وتقدم ولاية ألاباما للسكان فرصة أخذ جولة مجانية فوق مضمار السباق السريع في تالاديغا، في حين تقدم ولاية "مين" العديد من الجوائز المتعلقة بالنشاطات في الهواء الطلق. وإذا كان على صنّاع السياسات أن يتعلموا شيئاً من العام ونصف العام المنصرمين، فهو أن الاعتماد المفرط على الأدوات الكلاسيكية لا يفي بالغرض. إن نهج القيادة والسيطرة في التلقيح مستبعد لأنه يهمل المبادئ المهمة للحماية، مثل الاستقلالية الجسدية وحرية الاختيار، وليس هذا فحسب بل إن الحوافز المالية البحتة الأخرى لها أيضاً نتائج غير مستدامة مماثلة حتى في البلدان الغنية.
وعلى عكس الخلفية المتبعة، أطلقت ولايات مثل ولاية أوهايو، التي أدركت مدى عدم استدامة هذه الإجراءات في الأساس، مبادرة "فاكس-إيه-مليون" [Vax-A-Million] التي تمنح الأشخاص تذاكر اليانصيب إذا حصلوا على اللقاح وتلعب على الميل غير العقلاني للأفراد لترجيح الفرص الضئيلة للفوز باليانصيب كما افترضت نظرية الاحتمال لكانيمان وتفيرسكي.
الحوافز المغرية والمستندة إلى العلوم السلوكية
هذه الحوافز المغرية والمستندة إلى العلوم السلوكية هي بدائل مثيرة للاهتمام عن الإعانات الحكومية المكلفة، إذ أفادت وزارة المالية الأميركية أنها قدمت ما يصل إلى 350 مليار دولار في التمويل لأغراض الطوارئ، تستخدم مبالغ منها للحد من انتشار الفيروس. ومع ذلك، فإن هذه التدابير غير المكلفة لا تتعامل مع نفس المخاطر التي تشكلها الحوافز التقليدية: فهي يمكن أن تُقصي الدوافع الذاتية والاجتماعية للقيام بأفعال معينة، لاسيما تلك التي تنطوي على سلوكيات اجتماعية إيجابية، كما رأينا من قبل في عمليات التبرع بالدم إذ أقصت الحوافز المالية المتبرعين الذين يتحلُّون بروح الإيثار. علاوةً على ذلك، فإن منح الناس حوافز لأخذ لقاح يمكن أن يبعث برسالة خاطئة مفادها أن الناس يعرضون أنفسهم لخطر وبالتالي يجب مكافأتهم. وقد يكون هذا كافياً لجعل الأشخاص المترددين قليلاً ينحون في الاتجاه الخاطئ ويضخّم تصوراتهم للمخاطر.
قد تكون الحوافز غير النقدية حلاً بدأت الدول باختباره، حيث تسمح بعض الوجهات بالسفر إليها دون الحاجة إلى تطبيق الحجر الصحي للأفراد الذين تلقوا اللقاح، بينما تقوم مناطق أخرى برفع بعض القيود حصرياً للأفراد المطعمين، مثل السماح لهم بارتياد الصالات الرياضية ودور السينما أو تناول الطعام في الأماكن المغلقة أو حضور الفعاليات الرياضية. وعلى عكس منح سندٍ بقيمة 100 دولار، فإن الحوافز غير النقدية تحد في الواقع من وصول الأشخاص غير المطعمين إلى أماكن معينة، أو تفرض عليهم اشتراطات كثيرة، لكن الكثيرين يرون أن هذه الخطوة مشروعة طالما أن اللقاحات لن تصبح إلزامية. لقد تكهن البعض وأثاروا السؤال غير المريح، لكن الحقيقة هي أن فرض اللقاحات لن يكون أمراً ممكناً في معظم الدول الديمقراطية، ففي وقتٍ سابقٍ من هذا العام، رفض وكيل الوزارة لشؤون توزيع لقاح (كوفيد-19) في المملكة المتحدة، المزاعم بأن تلقي اللقاح سيصبح إلزامياً، مؤكداً أن حق الناس في حرية الاختيار سُيحترم بأي ثمن، وأضاف أن المساحات مثل المطاعم يجب أن توفر أماكن جلوس تفصل العملاء الملقحين عن غير الملقحين. ويبقى من غير الواضح إلى أي مدى ستتمكن الأعمال التجارية الخاصة من استبعاد العملاء الذين لا يستطيعون إثبات تلقيهم اللقاح، ومن المتوقع رفع دعَاوَى قضائية بهذا الشأن في المحاكم.
أسئلة أخلاقية
ومع ذلك، أثيرت أسئلة أخلاقية حول التحفيزات المتعلقة بالوصول إلى الأماكن التي تضغط على مجموعات معينة للحصول على اللقاح دون غيرها. فمن وجهة نظر العميل، قد يقرر المرء عدم أخذ اللقاح والتخلي عن حقه في الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية أو السينما، لكن العاملين في مجال الخدمات عرضة لإكراهٍ أشد وطأةً، فإما الحصول على اللقاح أو المخاطرة بخسارة مصدر دخلهم. وإن تخلى أحدهم عن حقه في الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية أو السينما، فقد يتولد لديه انطباع بأنه "اشترى لنفسه رخصة" تعفيه من واجب يتعلق بالصحة العامة، ولا يختلف هذا عن تأثير الترخيص الملحوظ عندما تُفرض غرامات على السلوكيات الضارة المسيئة؛ إذا دفع المرء رسومه، فإنه يشتري الحق في مواصلة سلوكياته دون مزيدٍ من التدقيق الأخلاقي" .
وفي الوصول إلى حلٍّ وسط بين أساليب القيادة والسيطرة من جهة والحوافز النقدية التقليدية من جهة أخرى، يمكن أن تساعد العلوم السلوكية صنّاع السياسات في إيجاد الطريقة المبتكرة من أجل تحفيز التلقيح ضد كورونا وتحفيز الأفراد على أخذ اللقاح. قد يتحول السفر غير المترافق بالحجر الصحي إلى خطة أرقى لـ "جوازات سفر اللقاح" ما يجعل سفر الأفراد غير المطعمين أكثر صعوبة ومللاً وربما أكثر تكلفة. ويمكن أن يتوسع الوصول المحدود إلى صالات الألعاب الرياضية أو دور السينما ليشمل مساحات تجارية أخرى، وقد تبدأ هذه الحوافز تدريجياً في الانزلاق نحو التسلُّط الأبوي وبعيداً عن التوجه الليبرالي. ولتجنب التطبيق الصارم للتطعيم الإجباري، قد تشدِّد الحكومات قبضتها، وتستمر في ذلك حتى يصبح من الصعب العيش بدون أخذ اللقاح، بالمعنى الحرفي والمجازي لذلك.