يواجه كل منا ضرورة صنع القرارات يومياً، هل نطرح المنتج (أ) أم (ب) في السوق؟ ما استراتيجية التسويق الأنسب لنا؟ بين الخيارات المتاحة لدينا، مَن أفضل شخص يمكن توظيفه؟ أو مَن الشخص الذي يمكن أن يكون أفضل شريك؟ في كل حالة، نحاول الاعتماد على أكبر عدد ممكن من الحقائق والمعلومات حتى نتمكن من إجراء تقدير منطقي لأفضل مسار يجب اتباعه. للوهلة الأولى، يبدو اتباع نهج تقييم الدلائل بطريقة عقلانية أمراً منطقياً تماماً، لكن في كثير من الحالات، تفشل التنبؤات العقلانية، فما سبب ذلك؟ وماذا يمكننا أن نفعل لمواجهة هذه المشكلة؟
يخضع التفكير العقلاني للعديد من التحيزات والمشكلات. يشير عالم النفس، دانيال كانيمان، الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد عن أبحاثه حول التحيزات المعرفية، في مقال نشرته هارفارد بزنس ريفيو إلى أن الفريق الشديد الاقتناع بنظرياته قد يتجاهل الأدلة المناقضة لها أو يرفضها دون وعي، أو يركز بشدة على جزء من البيانات والمعلومات، أو يُجري مقارنات خاطئة مع حالة عمل أخرى تتماشى مع تحيزاته. في المقال نفسه، يشير كانيمان إلى أن دراسة أجرتها شركة ماكنزي لأكثر من ألف استثمار تجاري أظهرت أن الشركات التي عملت على تقليل آثار التحيز رفعت العائد على الاستثمار بمقدار 7 نقاط مئوية. يقدم كانيمان قائمة مراجعة تتضمن 12 سؤالاً للكشف عن التحيز وتقليله، وأحدها هو "هل أصبح الفريق المعني مقتنعاً جداً بقراره؟". إذاً، فالخطوة الأولى هي استخدام قائمة مراجعة لتقليل تحيزات القرار، على غرار القائمة التي اقترحها كانيمان.
بالإضافة إلى ذلك، ثمة ما يُسمى بـ "المزالق النفسية" التي تؤثر في عملية صنع القرار، وصف المستشار في مجال صنع القرارات، جون هاموند هذه المزالق النفسية بالتفصيل، فوضح كيفية الوقوع في مزلق البحث عن دلائل مؤكدة وداعمة (البحث عن دلائل تبرر خياراتنا بدلاً من دراسة الجوانب كافة)، ومزلق الوضع الراهن (تغيير مواقع الكراسي على سطح سفينة تايتانيك بدلاً من القفز منها والنجاة قبل أن تغرق) أو مزلق التكلفة الغارقة (إنفاق مزيد من المال على مشروع فاشل على أمل تعويض الخسائر الأولية بدلاً من الاقتناع بالخسارة والانسحاب قبل خسارة الموارد بالكامل). يُعد أحد عملائي الذي تعاملت معه مؤخراً مثالاً جيداً على هذا المزلق الأخير؛ إذ استمر في استثمار أمواله في تطوير تقنية معينة على الرغم من معرفته بطرح منتج منافس أفضل في السوق قبل انتهائه من تطوير منتجه. يُعد التصرف وفقاً لوعيك وإدراكك للموقف خطوة مهمة في صنع القرارات؛ إذ ربما يؤدي التصرف بسرعة وعدم التأجيل إلى إنقاذ الموقف بالفعل.
ثمة مشكلة أخرى تتعلق بالتفكير العقلاني وهي مشكلة "التجربة والخطأ"، التي أشار إليها الفيلسوف كارل بوبر الذي كان يرى أنه لا يمكن الحكم على صحة أي قرار ما لم يخضع للاختبار والتدقيق من أجل قبوله أو رفضه. مرة أخرى، قد يبدو هذا النهج عقلانياً وعلمياً لصنع القرارات، لكن الانتقادات الأخيرة تشير إلى أن صانعي القرارات لديهم تحيزات ذاتية بطبيعتهم وأن القرارات تتأثر بقيم كل شخص، وبالتالي فالطريقة التي ننفذ بها الاستراتيجيات قد تتأثر أيضاً بما نؤمن به. على سبيل المثال، يمكنك اختيار تصديق فكرة أن غالبية الشركات تفشل (وهذا صحيح بالفعل)، ونتيجة لذلك، لن تسعى أبداً إلى تحقيق النجاح في مجال الأعمال؛ من الواضح أن هذا لن يفيدك إذا كانت فكرة عملك تندرج ضمن الحالات الاستثنائية التي تحقق النجاح. يقترح الكاتب ريتشارد أورميرود في مقال نُشر مؤخراً 3 إجراءات يمكن اتباعها لإدارة التحيزات الذاتية الطبيعية عند صنع القرارات: (1) استخدام نهج ذي مستويين مع مجموعة صغيرة من الأفراد الأساسيين الذين يضعون المعايير، بحيث يمكن لمجموعة أكبر تنفيذ النهج نفسه باستقلالية ضمن تلك المعايير، و(2) الاستفادة من أكبر قدر ممكن من المعرفة داخل المؤسسة، و(3) الحرص على مشاركة الأفراد الذين سينفذون القرار في عملية صناعته، مع مراعاة وجهات النظر المختلفة قبل تحديد سياق القرار (يشمل ذلك المسؤولين عن صنع القرار، ومن يقع على عاتقهم تنفيذه، ومن يتأثرون به لكنهم غير مشاركين في صناعته، والأشخاص الذين يمكنهم تقديم الخبرة في جانب أو آخر). على سبيل المثال، يجب إشراك الإدارة العليا وفريق المبيعات والعملاء والخبراء الآخرين في العملية.
ثمة مثال آخر على "العقلانية الزائفة" هو الاستقراء، وهو طريقة عقلانية شائعة لصنع القرارات المستقبلية بناء على الماضي، وقد أوضح الفيلسوف ديفيد هيوم مشكلات هذه الطريقة. إن مجرد حدوث شيئين في الوقت نفسه في كل مرة لا يعني أنهما سيحدثان معاً دائماً، لكن تجاربنا الماضية تنشئ أنماطاً دماغية توجه انتباهنا لا شعورياً إلى الأشياء بطريقة انتقائية. على سبيل المثال، ربما تعتقد أن جهودك التسويقية عبر الإنترنت تفشل دائماً لأنها غير مدرجة ضمن حملة تسويقية منظمة، حتى لو لاحظت تكرار ذلك في تجاربك السابقة، لكن ربما كان السبب ببساطة أن نمط تفكيرك الذي يتوقع الفشل يحد من فعالية جهودك المستقبلية جميعها. في هذه الحالة، يجب عليك تغيير توقعاتك وليس استراتيجيتك التسويقية. لذلك، عندما تواجه دلائل مستمدة من التجارب السابقة، حاول تغيير طريقة تفكيرك في العلاقة بين السبب والنتيجة. هل تؤثر استراتيجيتك التسويقية في نجاحك، أم أن عدم نجاحك السابق يؤثر على مهاراتك التسويقية؟
من أجل تذكر هذه النصائح لصنع قرارات أفضل، اختصرتها فيما يلي: استخدام نهج ذي مستويين، وبناء علاقات جيدة مع الفريق الاستراتيجي والمنفذين، وإشراك الجميع بدءاً من الإدارة وصولاً إلى العميل، وتغيير طريقة التفكير في السبب والنتيجة، واستخدام منظور كانيمان. يمكن أن يسمح لك هذا النهج الذي يتألف من 5 خطوات بتنفيذ الخطط من منظور يتماشى إلى حد كبير مع كيفية عمل الدماغ، مقارنة بالنهج العقلاني البسيط أو العقلاني الزائف.