تمثل ساحات عمل المصانع أعجوبة في عملية الأتمتة. فبضغطة زر واحدة، يبدو أن المكان بأكمله يعمل أوتوماتيكياً. ولكن بالرغم من أن المصانع الحالية تستخدم تدفقات سير عمل مؤتمتة، فإن تغيير إجراءات العمل (Business Processes) لا يزال يُجرى يدوياً في معظم الأوقات. عندما تنشأ مطالب في بيئة صناعية، يجب على المدراء والمهندسين مقاطعة عملية الأتمتة وتعطيلها لتحديث الإجراءات التي تجعل الآلات تُكمل عملها. فماذا عن تحسين إجراءات العمل؟
أما الآن، وبفضل خوارزميات تعلم الآلة، أصبح بمقدور البرمجيات الذكية تنقيح البيانات الواردة من مختلف المصادر، كأجهزة الاستشعار المدمجة في الآلات، أو التغيرات التي تطرأ على سلاسل التوريد، على سبيل المثال، ثم تعيد تصميم الإجراءات على الفور.
في الاستقصاء الذي أجريناه (لم يكن قد نُشر للجمهور بعد في وقت كتابة المقال)، والذي تضمن حوالي 170 مؤسسة صناعية، وافق 96% من المجيبين أو وافقوا بشدة على أن تعلم الآلة يؤتمت عملية إدارة تغييرات إجراءات العمل داخل مؤسساتهم. وفي المجمل، نسب أكثر من نصف المجيبين التحسينات الكبيرة والمتسارعة عادة التي تدخل على إجراءات العمل مباشرة إلى الإجراءات المحسنة المدعومة بتعلم الآلة.
3 تغييرات رئيسية في إجراءات العمل
من خلال رصد أول من تبنى هذه الاستراتيجية، لاحظنا أن التغيير المؤتمت في الإجراءات يحدث على هيئة 3 صور رئيسية: التأقلم الذاتي، أو الإصلاح الذاتي، أو خليط من كليهما. توظف بعض المؤسسات بالفعل عناصر أتمتة تغيير الإجراءات، بينما يطور البعض الآخر تقنيات لإرساء الأسس اللازمة لها. فيما يلي نعرض أمثلة على شركات تقود حملة الأتمتة هذه.
إجراءات العمل ذاتية التأقلم تُحسن مستوى التخصيص
تعلم شركات تصنيع السيارات أن الزبائن يزدادون اهتماماً يوماً تلو يوم بتخصيص سياراتهم. لكن السؤال هنا، كيف تتكيف إجراءات العمل لتمكين الشركات من تقديم تخصيص فاعل من حيث التكلفة؟ يقول أندرياس نيتستاتير، مدير المشاريع الأوروبية البحثية بـ "معهد فراونهوفر لتدفق المواد والخدمات اللوجستية" (Fraunhofer Institute of Material Flow and Logistics (IML)): "إن مبادرة جديدة لمعهد فرانهوفر تُدعى اتحاد شركات "سمارت فيس" (Smartface Consortium)، ترمي إلى تذليل هذه العقبة".
إذ تختبر مبادرة "سمارت فيس" أجهزة استشعار مدمجة، ومنصات عمل ذكية في مصانع السيارات بهدف خلق خط تجميع ذاتي التأقلم، بمقدوره تعديل الخطوات المدرجة في إجراءات عمله، لتلبية المطالب المتنوعة في صناعة السيارات. فبدلاً من أن تمر السيارات في خط تجميع من بدايته إلى نهايته، تتنقل السيارات بين مسارات غير خطية مُحسنة في محطات عمل قابلة لإعادة البرمجة تؤدي أدوارها بمرونة لكي تصمم سيارة تستوفي المواصفات الخاصة المطلوبة.
يقول نيتستاتير: "إن السيارات الكهربائية وغيرها من السيارات ذات الأنظمة الرقمية المتعددة، ستكون في المستقبل القريب مُخصصة بدرجة أكبر بكثير حسب رغبة كل فرد مقارنة بنظيرتها الحالية". ويضيف: "علينا أن نتخلص من خطوط الإنتاج الثابتة التي تُصنع فيها سيارة واحدة وشكل واحد في المرة"، مشيراً إلى أن قطاع صناعة السيارات في ألمانيا يمكنه بالفعل دعم أكثر من مليون شكل من نماذج السيارات، على عكس شركات الولايات المتحدة، والشركات اليابانية والكورية التي تنتج 3 أشكال قياسية فقط.
وإلى جانب التخصيص، إحدى الفوائد الأخرى لخطوط التجميع ذاتية التأقلم هي المتانة. إذ يقول نيتستاتير: "إذا طرأ عطل ما على محطة تجميع أو توقفت عن العمل، فيمكن للمحطات الأخرى تولي المهمات التي كانت تقوم بها محطة التجميع هذه". يؤكد بحث معهد "فراونهوفر" نتائج الاستقصاء الذي أجريناه، إذ وافق 92% من المجيبين أو وافقوا بشدة على أن إجراءات العمل المدعومة بتعلم الآلة كانت قادرة على تحسين نفسها دون تدخل بشري. تقودنا الإجراءات ذاتية التكيف هذه إلى مجموعة جديدة من خطوط التجميع الفاعلة من حيث التكلفة، التي تلبي طلبات المستهلكين للحصول على منتجات ذات مستوى مرتفع من التخصيص.
الإجراءات ذاتية الإصلاح تحل مشكلاتها تلقائياً
يظهر استطلاعنا أن 79% من المجيبين يوافقون أو يوافقون بشدة على أن الإجراءات المدعومة بتعلم الآلة يمكنها إجراء عملية إصلاح ذاتية على الفور. طورت شركة، تُدعى "سايت ماشين" (Sight Machine)، آلية تحليلات محوسبة قائمة على تعلم الآلة مخصصة لحل مجموعة من المشكلات التي تصيب خطوط التجميع المعقدة. يمكن لهذا البرنامج رصد المشكلات الخفية التي تصيب الإجراءات القائمة، وتحسين جودة المنتجات إلى المستوى الأمثل.
يعتمد نهج الشركة على أتمتة مجموعة كبيرة من إجراءات تعلم الآلة، وهو ما يساعد المؤسسة على إنتاج منتجات أفضل بمعدل أسرع. لاحظ أكثر من ثلثي المجيبين عن الاستطلاع، أن تعلم الآلة قد سرّع عملية تسليم المنتجات المادية إلى الضعف على الأقل، ورصدت 9% من المؤسسات تحسناً يقدر بعشرة أمثال.
في مثال توضيحي خاص، عقدت شركة "سايت ماشين" شراكة مع شركة "شانون بيرسيجين فاستنير" (Shannon Precision Fastener)، وهي شركة تصنيع مفكات، ومسامير، وبراغي للوازم السيارات الكبرى. وللحفاظ على جودة المنتجات، تستخدم شركة "شانون" أدوات شركة "سايت ماشين" لتحليل مسارات تدفق الحبيبات المعدنية في الأجزاء التي تنتجها. (في البراغي القوية، يكون مسار تدفق الحبيبات موازياً للسطح الخارجي).
وفضلاً عن اكتشاف البراغي المعطوبة، يُدخل التحليل تعديلات على عملية التصنيع لدى شركة "شانون" في أثناء سير العمل للحيلولة دون إنتاج المزيد من القطع الإضافية المعيبة. ومن هنا حققت شركة "شانون" نجاحاً باهراً لدرجة أن العديد من شركائها تخلصوا من مشقة عملية التفتيش والفرز عند استلام البراغي منها.
حتى البيانات التي تُجمع عن المنتجات بعدما تُنتج وتخرج للسوق قد تكون ذات أهمية في تعليم إجراءات سير العمل كيفية إصلاح نفسها تلقائياً. فعلى سبيل المثال، يمكن لأجهزة الاستشعار المُركبة على الطائرات مراقبة أجزاء الطائرة، ويمكن لشركات تصنيع الإطارات مراقبة التآكل والتلف في الإطارات عن بعد. وقد آن أوان استخدام هذه البيانات جميعها من قبل إجراءات عمل المصانع ذات الرقابة الذاتية، والقابلة لإعادة البرمجة لتحسين الجودة استناداً إلى المنتجات التي خرجت بالفعل من خطوط التصنيع إلى السوق.
روبوتات قادرة على التأقلم تتولى تحديث مشاريع البناء على الفور
قد تشهد مشاريع البناء الضخمة، مثل مشروع "الحفر الكبير" (Big Dig) الشامل والباهظ التكلفة، تصاعداً سريعاً في التكاليف وخروجها عن السيطرة عندما تقع أحداث لم تكن في الحسبان. يقدم التغيير المؤتمت للإجراءات طريقة تساعد على التخلص من بعض العوامل التي تؤدي إلى زيادات في الوقت والتكاليف. في أمستردام، تُجرب شركة تُدعى "أندرياس نيتستاتير" (MX3D)، بعض العناصر الخاصة بالتغير المؤتمت للإجراءات، بينما تعمل على تطوير طريقة جديدة لبناء جسر. إذ عكفت الشركة على طباعة هيكل الجسر طباعة ثلاثية الأبعاد فوق قناة مائية، بالاستعانة بروبوتات، وأجهزة استشعار، وتحليلات البيانات المستقاة من تعلم الآلة. ويلمح هذا المشروع إلى طريقة جديدة للتفكير في حل المشكلات التي تظهر خلال المشروعات المعقدة.
ويشرح تيم جورشينز، رئيس قسم التكنولوجيا بالشركة، أن الجسر الذي تشيده شركته يبدأ من عند كلا طرفي القناة، وتجري طباعته باتجاه الوسط (وأعرب وقتها أنه من المقرر انتهاء أعمال التشييد في عام 2017). إذ يسمح تعلم الآلة لأجهزة الطباعة بالتأقلم الفوري في أثناء عملها، وهذا هو السر. فمثلاً، ماذا سيحدث لو انخفضت الأرض قليلاً على أحد الجانبين بسبب أحداث بيئية أو جيولوجية؟ يقول جورشينز: "إذا حدث ذلك في أثناء عملية البناء، فسنكون قادرين على تعويض ذلك الانخفاض في الجسر بحيث نتأكد من أن طرفيه يلتقيان في المنتصف تماماً، لا بفارق 20 سنتيمتراً حتى. لهذا السبب نحن نحتاج إلى التقييم المستمر والملاحظات لكي نكون قادرين على إدخال تغييرات على عملية الطباعة بينما تُنفذ".
هنا ومجدداً نلاحظ أن القدرات التي يوفرها تعلم الآلة من إصلاح ذاتي وإمكانية التأقلم الآني الفوري يمكن أن تغير الطريقة التي تدير بها فرق البناء عملية إدخال التعديلات في أثناء التشييد مباشرة، موفرين بذلك الوقت، والمواد، والأموال.
وفي نهاية الحديث عن تحسين إجراءات العمل، سنشهد، في المستقبل القريب، القطاعات المختلفة تتجه صوب جني الثمار الأهم لعملية الأتمتة، بحيث لا تحتاج الإجراءات والعمليات إلى إصلاح يدوي. فالآلات الحديثة ستعيد برمجة الإجراءات بنفسها، وتعيد تصميمها أيضاً وذلك كله بشكل آني. ولا شك أن المستقبل سيتمحور حول عملية تغيير الإجراءات المدفوعة بالذكاء الاصطناعي.