تُصنع القرارات، بشكل متزايد، على الشاشات، وفي طيات هذا التحول تأتي نتيجةٌ غالباً ما تُقابل بالتجاهل: ألا وهي أنّ تصميم العالم الرقمي يمكن أن يؤثر بعمق، وبشكل غير ملحوظ غالباً، في جودة قراراتنا.
تقدم لنا مراجعة بحث حديثٍ الدليل الواضح على أنّ الكثير من المؤسسات تُقلل حالياً من قيمة قوة التصميم الرقمي، وينبغي لها الاستثمار أكثر في تصميمات تسترشد بالسلوكيات لمساعدة الناس على اتخاذ قرارات أفضل. في العديد من الحالات، حتى التصحيحات المحدودة يمكن أن يكون لها أثر عظيم، لأنها تكفل عائداً على الاستثمار أضعاف الاستخدام التقليدي للمحفزات المالية أو الحملات التسويقية والتثقيفية.
في ورقتنا البحثية الأخيرة التي وضعتْها لين كونيل - برايس في "جامعة بنسلفانيا" (University of Pennsylvania)، وريتشارد ماسون في "جامعة سيتي لندن" (City, University of London)، تعاونّا مع شركة "فويا فايننشال" (Voya Financial) الرائدة في تقديم خدمات التقاعد، بغية فحص قدرة التنوع في التصميم الرقمي لواجهات الالتحاق الإلكترونية البينية على التأثير في قرارات الموظفين المبدئية للاشتراك في خطط التقاعد 401(k). وشمل البحث أكثر من 8,500 موظف عبر مئات الخطط ممن زاروا الواجهة البينية القياسية للتسجيل على الإنترنت، قبل تسجيلهم تلقائياً بالخطة، إما لتأكيد تسجيلهم النشط بالمعدل الافتراضي، وإما لتخصيص تسجيلهم بمعدل مختلف، وإما للتراجع عن التسجيل بالكامل عن طريق تحديد أحد ثلاثة خيارات مُرتبة أفقياً. وكان هدفنا أن نُشجع الموظفين على التفكير في معدل إرجاء أعلى من المعدل الافتراضي، والذي غالباً ما يكون أقل من أن يضمن الأمان المالي في مرحلة التقاعد.
ولفهم أثر التصميم الرقمي على قرارات التسجيل المبدئية هذه، بادرنا إلى توزيع الموظفين عشوائياً على إصدار من إصداريْ الواجهة البينية للتسجيل: إما التصميم التجاري الأصلي الذي تستخدمه شركة "فويا"، وإما تصميم "مُحسّن" عكَسَ ثلاثة تغييرات طفيفة:
- فقد غيرنا نظام ألوان الخيارات، فحولناه من لون وحيد (برتقالي بالكامل) إلى ترتيب لوني على غرار إشارات المرور: أخضر (تخصيص)، وأصفر (تأكيد)، وأحمر (رفض).
- وعرضنا المعدل الافتراضي للخطة مباشرةً على شاشة التسجيل، ما جعل من الأسهل على الموظفين أن يضعوا هذه المعلومات في الاعتبار.
- وبسّطنا اللغة المستخدَمة لوصف البدائل، ووحدناها عبر حذف العبارات المكتوبة بأحرف صغيرة، وتبسيط العناوين الشارحة لكل خيار (على سبيل المثال "أريد التسجيل بخيارات مختلفة" أصبحت "اختر بنفسك"، بينما "لا أريد التسجيل" تحولت إلى "لا أريد الادخار").
فماذا وجدنا؟ بدايةً، زادت هذه التغييرات الطفيفة في التصميم من معدل التسجيل المخصص بنسبة 15%، أو حققت زيادة بواقع 9% من نقطة البداية البالغة 60%. ولأن الموظفين الذين خصصوا تسجيلهم نزعوا إلى الاشتراك بمعدل (7.8%) ضعف أولئك الذين سجلوا تلقائياً (3.4%)، فقد زاد التحول إلى التسجيل المخصص مدخرات أولئك الموظفين إلى حد كبير، وقلّص حصة العاملين المقبلين على "الفقر التقاعدي". في نهاية المطاف، قدّرنا أنّ التغييرات في التصميم أدت إلى زيادة في إجمالي الاشتراكات بما يكافئ زيادة تطابق الخطة النموذجية للتقاعد بأكثر من 60%. وبالطبع، فإنّ تغيير الألوان أو بضع كلمات على شاشة واحدة أرخص كلفةً من زيادة حوافز المطابقة بشدة.
تُوسّع هذه الدراسة الميدانية نطاق أبحاث سابقة أظهرت أن القرارات المالية الكبرى يمكن أن تشكلها عناصر تصميم متواضعة في ظاهرها. ففي إحدى التجارب التي أجراها الأستاذ الجامعي ريتشارد ثالر، وأحد أعضاء فريقنا، ويُدعى شلومو، على موقع (Morningstar.com)، طلبنا من مجموعتين من المشتركين في شركة "مورنينغ ستار" (Morningstar) توزيع مدخراتهم التقاعدية بين ثمانية صناديق مختلفة. وعُرضَ على المجموعة الأولى موقع ويب كان يضم أربعة أسطر فارغة، رغم أنه كان يشتمل على رابط مميز لو أراد الناس اختيار صناديق إضافية. وعُرضَ على المجموعة الثانية الموقع ذاته، باستثناء أن نسخة تلك المجموعة كانت تضم ثمانية أسطر.
قد يبدو ذلك تغيراً لا يُذكر. لكنّ البحث اكتشف أن العدد المحدَّد للأسطر على موقع الويب يؤثر بشدة في مستوى التنوع. ورغم أن 10% فقط من الأشخاص الذين عُرضت عليهم الأسطر الأربع اختاروا أكثر من أربعة صناديق، تضاعف هذا العدد أربعة أمثال بين الذين عُرضت عليهم ثمانية أسطر. وهذا يعني أن مستوى التنويع انساق، إلى حد كبير، بتفاصيل تصميمية غير ذات صلة ظاهرياً.
وهناك مثال آخر على قدرة التصميم الرقمي على تشكيل السلوك، ويأتي من بحث جديد أجرته شركة "نيست" (NEST)، وهي واحدة من أكبر الشركات التي تُقدِّم خدمات الصندوق التقاعدي المهني في المملكة المتحدة. وبالنظر إلى وفرة المعلومات المتاحة في العصر الرقمي، فإن جانباً مهماً من جوانب تحسين التصميم ينطوي على تفاعل المستخدمين أو حث الناس على الالتفات إلى رسالتك. وللارتقاء بمستوى التفاعل، فقد خيّرت شركة "نيست" العاملين الذين لم يُفعّلوا بعد حساباتهم التقاعدية إما أن يتلقوا رسالة بريد إلكتروني مخصصة وإما مقطع فيديو مخصص. في الحالتين، تمت تهيئة المحتوى ليشمل اسم الشخص وحجم الحساب وعُمره.
وكانت النتائج دليلاً واضحاً على أنّ شكل الرسالة يمكن أن يشكّل المخرجات. في مجموعة الضبط التي لم تتلقَ أي اتصال رقمي، نشّطَ ما نسبته 1.3% من الناس حساباتهم. وفي المجموعة التي تلقت رسالة بريد إلكتروني، ارتفعت هذه النسبة إلى 4.3%. ولكن، ضاعفت مقاطع الفيديو المخصصة معدل التفعيل، فقد سجّل 8.2% دخولهم إلى حساباتهم التقاعدية. والخلاصة هي أن التصميمات التي تزيد من التفاعل، وتشق طريقها عبر فوضى المعلومات، من الأرجح بكثير أن تُفضي إلى تغير في السلوك.
ويؤثر التصميم الرقمي أيضاً في قرارات أخرى مهمة، مثل اختيار التأمين الصحي. ضع في اعتبارك أنه خلال السنوات القليلة الماضية، كانت هناك وفرة هائلة في خيارات خطط الرعاية الصحية المتاحة للمستهلكين الأميركيين. لأنّ الناس يختارون على نحو متزايد خطط الرعاية الصحية من قائمة (أحياناً ما تكون هائلة) من الخيارات الإلكترونية، سواء عبر المراكز العامة المرتبطة بالجزء "د" من برنامج الرعاية الطبية "ميديكير" (Medicare)، أو قانون الرعاية ميسورة التكلفة، أو عبر المراكز التي تُقام برعاية أصحاب الأعمال.
توجد سمة مميزة لقانون الرعاية ميسورة التكلفة، وهي أنه إقراراً بمدى تعقيد التأمين الصحي، سعى القانون إلى تنظيم خطط الرعاية الصحية في مستويات "معدنية" متمايزة بحسب سخاء تغطيتها الاكتواريّة، فقد تراوحت ما بين خطط برونزية (مبالغ مُقتطعة أعلى وقسط أقل)، وبلاتينية (مبالغ مقتطعة أقل وقسط أعلى). وفي دراستنا، عمِلنا على تنويع التصنيف، سواء كانت الخطط مقسّمة بحسب المستويات المعدنية المُستخدمة حالياً بموجب قانون الرعاية ميسورة التكلفة (على سبيل المثال، البرونزية والفضية والبلاتينية)، أو بنظم تسمية بديلة تنطوي إما على واصفات عامة (الخطة "أ" والخطة "ب" والخطة "ج")، أو واصفات أكدت درجة الاستخدام الطبي المتوقع الأنسب لكل خطة (استخدام عالٍ واستخدام متوسط واستخدام محدود).
أول شيء اكتشفناه، وهو ما أكد العديد من الدراسات الحديثة الأخرى، أن عدداً كبيراً من الناس يميلون إلى اتخاذ قرارات عقيمة ومكلفة عبر استراتيجيات التسمية كلها. فهم يختارون خطط رعاية صحية لا تتناسب مع احتياجاتهم الصحية المتوقعة ومدى تحملهم للمخاطر المالية. التأمين أمر معقد.
ومن سوء الحظ أن بحثنا يقترح أن التصميم الراهن لقانون الرعاية ميسورة التكلفة، مهما روعي فيه حسن النوايا، ربما أدى إلى الحصول على أقل اختيارات خطط الرعاية الصحية من جانب الكفاءة. في المتوسط، أنفق المشاركون التجريبيون في دراستنا أكثرَ من اللازم، بما يعادل 24% من القسط التقليدي. ونخمن أنه عندما تُعرض على المستهلكين أسماء مقسمة بحسب المستويات (برونزية وفضية، إلخ)، فهم يختارون خطط الرعاية الصحية، لا استناداً إلى استغلالهم المتوقع لها، وإنما إلى استدلالات بشأن جودة الرعاية التي يمكن أن يتلقوها. ولقد أثبت بحث وثيق الصلة، أجراه بيتر أوبيل وديفيد كومرفورد وإريك جونسون، أن الناس يفضلون الأسماء المعدنية الأكثر فخامةً (كالخطة الذهبية) بغض النظر عن طبيعة التأمين المقدم لهم فعلاً.
وفي سياق واعد أكثر، اكتشفنا أن الأسماء التي تؤكد الاستخدام الطبي المتوقع للمستهلك أدت إلى اختيارات أفضل بكثير مقارنةً بالمسميات المعدنية. ورغم وجود الكثير من المستهلكين الذين ما زالوا يختارون خطط رعاية صحية دون المثلى، فقد قلّصت أسماء الاستخدام الطبي متوسط الإنفاق المفرط بنسبة 37% مقارنةً بالأسماء المعدنية. والدرس المستفاد في هذا السياق أن استراتيجية التسمية التي يتبناها المرء للقوائم (الرقمية) ينبغي أن تسترشد بمقايضات ينبغي أن تحكم كيف يصنع الناس قراراتهم. في حالة خطط التأمين الصحي، ينبغي أن تعمل الأسماء عمل المؤشرات على الاستغلال المتوقع لا الجودة.
ومن الممكن أن يرتقي أيضاً التصميم المُحسّن بخياراتنا الطبية، حتى لو لم تكن تَمُت بصلةٍ إلى التمويل أو التأمين. وكما ذكرتْ جريتشين تشابمان، عالمة النفس في "جامعة كارنيغي ميلون"، فإن كثيراً من خياراتنا الصحية لا تضرب بجذورها بعمق في معتقدات راسخة، وإنما تتشكل بفعل تلميحات تصميمية وسياق محدد. على سبيل المثال، من الممكن أن تزيد محفزات بسيطة من معدلات التطعيم إلى حد كبير، كإجبار الأطباء على الاستقرار على قرارٍ واعٍ حيال طلب لقاح الإنفلونزا عند دخولهم إلى السجل الطبي الرقمي لأحد المرضى.
إن الأدلة المتزايدة على قوة التصميم تطرح السؤال المتعلق بما إذا كان المدراء والمسؤولون التنفيذيون وصناع السياسات المكلفون ببيئات صناعة القرار يعون أهمية التصميم الجيد. وللتمحيص في هذا السؤال، لنرجع إلى دراسة التصميم ومدخرات الموظفين. كجزء من البحث، أجرينا استقصاءً لمئات من مدراء خطة المعاش التقاعدي k) 401) ومسؤولي الموارد البشرية التنفيذيين، وطلبنا إليهم التنبؤ بكيفية استجابة الموظفين إلى تحسينات التصميم التي اختبرناها ميدانياً مسبقاً. وطلبنا إليهم أيضاً تحديد أي التعديلات المحددة التي طرأت على التصميم تحفّز رد فعل الموظف. وكانت النتائج مدهشة. فقد قلل 88% من المشاركين في الاستقصاء من أهمية أثر التصميم على الالتحاق، واستطاع 12% فقط من المستجيبين تحديد أي التغييرات التصميمية الثلاثة شجعت أكثر من غيرها على إحداث تغييرات في سلوك الموظفين. فضلاً عن ذلك، فأولئك المدراء والمسؤولون التنفيذيون الأكثر ثقة بتوقعاتهم لم يكونوا أدق من غيرهم في تنبؤاتهم.
في كثير من الأحيان ما يرى الناس التصميم محض بهرجة بصرية، وعنصراً رقمياً يُجمّل لكنه لا يضيف قيمة تُذكر. لكنّ هذا البحث يُظهر أن التصميم الرقمي يتجاوز ذلك بكثير، وأنه جزء لا يتجزأ من أي عرض لمنتج أو خدمة. ومن الممكن أن نسلك مسلكاً يُفضي بنا إلى تصميمات تسترشد بالسلوك باستخدام الخمس خطوات التالية:
- جمع رؤى سلوكية ثاقبة حول سلوك التعامل مع الشاشات، مع الاستفادة من الأدبيات الأكاديمية المتنامية.
- إجراء تدقيق سلوكي للتصميمات الرقمية الموجودة حالياً، مع تحديد الفجوات بين الوضع الراهن والتصميمات الجديدة التي تدمج أحدث الرؤى الثاقبة حول سلوك التعامل مع الشاشات.
- اختبار هذه التصميمات الجديدة استناداً إلى ظروف ضبط يتم اختيارها بعناية شديدة.
- وفور أن يتم تحديد التصميم الفائز، يُنصح بترقيته والتوسع فيه، وتطبيقه في أكبر عدد ممكن من التجارب الرقمية.
- واحرص على الحفاظ على "مكتبة نتائج" قابلة للبحث لجميع التجارب.
كما ينبغي أن يكون تحسين التصميم الرقمي بالاستعانة بنهجٍ قائم على الأدلة ضرورةً استراتيجيةً ملحّة لأي مؤسسة تطمح إلى إشراك الزبائن ومساعدتهم على صنع قرارات أفضل. فالتصميم ليس ضرباً من الديكور، وإنما غالباً ما يكون عنصراً رئيساً.