تزداد أهمية الأسواق الناشئة بالنسبة إلى الشركات المتعددة الجنسيات، لكن دخول هذه الأسواق قد يكون تجربة صعبة ومكلفة. ومع ازدياد الاهتمام بها، اتسع نطاق الأبحاث التي تتناول ما تنطوي عليه من تحديات وفرص فريدة. غير أن ثمة مشكلة أساسية كثيراً ما تغيب عن الأنظار، وهي أن الشركات غالباً ما تتبنى نظرة مفرطة التفاؤل بشأن السرعة التي يمكن أن يتحقق بها النجاح في هذه البيئات المعقدة وغير المألوفة، وهي ظاهرة نطلق عليها اسم "فخ التفاؤل الزمني". في هذا المقال، نوضح كيف تقع الشركات في هذا الفخ، كما نقدم للمسؤولين التنفيذيين استراتيجيات عملية تعينهم على تفاديه.
حللنا تجربة شركة غلاكسو سميث كلاين (جي إس كيه)، وهي شركة أدوية متعددة الجنسيات، في إنتاج دواء لعلاج الربو وتوزيعه على مدى عقد كامل. وقدمنا نتائج البحث إلى الشركة، ثم نشرنا دراسة حالة استناداً إليه. ركزنا في الدراسة على منتجين هما فنتولين روتاكابس (كبسول مسحوق يستخدم عبر جهاز الاستنشاق) وفنتولين نيبولز (دواء سائل يتحول إلى رذاذ بواسطة جهاز التبخير). وكان الدواءان يصنعان في مدينة ميلبورن الأسترالية ويوزعان في أكثر من 30 سوقاً ناشئة حول العالم.
أظهرت النتائج أن منتج فنتولين روتاكابس قد أخفق بسبب الجداول الزمنية المفرطة في التفاؤل التي وضعتها شركة غلاكسو سميث كلاين؛ إذ حددت أهدافاً طموحة لكنها أخطأت في تقدير حجم الموارد اللازمة لتوزيعه في الأسواق الناشئة، ما أوقعها في فخ التفاؤل الزمني. وعلى النقيض، حقق فنتولين نيبولز النجاح لأن الشركة تبنت نهجاً مدروساً ومرناً في التوزيع، متكيفة مع الظروف المحلية والتوقعات الزمنية في كل سوق.
كيف يمكن أن يتحول تعامل الشركات المتعددة الجنسيات مع الزمن إلى فخ؟
كشفت دراستنا عن مشكلة أعمق وأكثر تأثيراً تتمثل في الاختلاف الجذري في النظرة إلى الزمن وطريقة إدارته بين الأسواق المتقدمة والناشئة. ففي الأسواق المتقدمة، ينظر الناس إلى الزمن غالباً بوصفه شيئاً يمكن قياسه وتقسيمه إلى خطوات واضحة، تماماً مثلما يضبطون ساعاتهم عليه؛ إذ يركز المدراء هناك على الالتزام بالمواعيد النهائية واتباع الجداول الزمنية ودخول السوق بسرعة والتفكير بمنظور الأمد القصير نسبياً. يعرف هذا النمط باسم "الزمن المنضبط بالساعة".
أما في الأسواق الناشئة، فينظر الناس إلى الزمن عادة على أنه دورة متكررة، لا خطاً زمنياً متتابعاً؛ فالأمر هناك لا يتعلق بوضع الجداول الزمنية الدقيقة بقدر ما يتعلق بالطريقة التي تسير فيها الأحداث بوتيرتها الطبيعية؛ إذ يفضل المدراء في هذه الأسواق عدم التقيد بالمواعيد النهائية أو الخطط الزمنية الصارمة، ويركزون بدلاً من ذلك على بناء العلاقات الطويلة الأمد وتحقيق النتائج المستدامة. يعرف هذا النمط باسم "الزمن القائم على الأحداث".
يظهر هذا التباين في اختلاف النظرة إلى الزمن وطريقة إدارته بين الأسواق المتقدمة والناشئة في 3 أنماط متمايزة:
- اختلال المواءمة الزمنية: يؤدي فرض جداول زمنية صارمة إلى تقويض العلاقات مع الشركاء المحليين. ففي حالة منتج فنتولين روتاكابس، زادت شركة غلاكسو سميث كلاين وتيرة الإنتاج في مصنعها بأستراليا عاماً بعد آخر، متوقعة أن يواكب الموزعون المحليون هذا الإيقاع. لكن على أرض الواقع، تأخرت الأنظمة والشراكات المطلوبة لتعزيز انتشار المنتج في السوق، ما أدى إلى فجوة بين العرض والطلب.
- مغالطة السرعة: الاعتقاد الخاطئ بأن الدخول السريع إلى السوق والتوسع المتعجل كفيلان بخلق الزخم اللازم لتحقيق النجاح. فقد طرحت شركة غلاكسو سميث كلاين منتج فنتولين روتاكابس في عدد كبير من الدول تباعاً خلال فترة وجيزة، متوقعة أن ينعكس ذلك على معدلات النمو. غير أن الشركة لم تعالج على النحو المطلوب القضايا الجوهرية الخاصة بكل دولة، مثل تدريب الأطباء وتوعية المرضى واستصدار موافقات الجهات الرقابية. وهكذا، بدلاً من أن تسهم السرعة في تحقيق التقدم، أدت إلى تفاقم الفجوات القائمة.
- قصر النظر الزمني: المبالغة في التركيز على الحاضر أو المستقبل القريب على حساب الطبيعة الطويلة الأمد للمشروعات في الأسواق الناشئة؛ إذ خصصت شركة غلاكسو سميث كلاين فترة مدتها 3 أعوام فقط لترسيخ حضور منتج فنتولين روتاكابس في معظم هذه الأسواق، بينما رأى الشركاء المحليون أن أفقاً زمنياً يمتد إلى 10 أعوام سيكون أكثر واقعية. غير أن الإطار الزمني الأقصر، الذي يمكن اعتباره معقولاً بمعايير الأسواق المتقدمة، جعل الشركة تقيم النتائج في وقت مبكر جداً، ما جعل من الصعب عليها الاستمرار في الاستثمارات الطويلة الأمد اللازمة لتوسيع نطاق تبني المنتج.
كيفية تفادي الوقوع في فخ التفاؤل الزمني
نقترح 4 إجراءات رئيسية تستند إلى إطار العمل الرباعي البسيط الذي يقوم على مواءمة التوقعات الزمنية مع الواقع المحلي والتعمق في فهم الأعراف الزمنية بالأسواق المحلية وضرب المثل في التحلي بالصبر وترسيخ المرونة.
مواءمة التوقعات الزمنية مع الواقع المحلي.
ينبغي إدراك أن أصحاب المصلحة المحليين، من عملاء وشركاء وجهات رقابية، يعملون وفق أطر زمنية مختلفة. ويتوقف النجاح على قدرة المسؤولين التنفيذيين على مواءمة توقعاتهم مع هذه الأطر المحلية. فقد نجح منتج فنتولين نيبولز لأن شركة غلاكسو سميث كلاين وزعته عبر قنوات موثوقة، مثل المستشفيات والعيادات والصيدليات، التي كانت تمتلك القدرة على توفيره بفعالية. وقد استغرق بناء هذه العلاقات وقتاً، وكان على المسؤولين التنفيذيين سد الفجوة بين الجداول الزمنية التي أرادها مسؤولو المقر الرئيسي للشركة والواقع الفعلي في الأسواق المحلية. وقد واجهت شركة ستاربكس تحدياً مشابهاً عندما دخلت السوق الهندية؛ فإدراكها لجذور ثقافة الشاي الراسخة هناك وضعف انتشار استهلاك القهوة نسبياً دفعها إلى تجنب السعي لتحقيق عائدات سريعة، واختارت بدلاً من ذلك تأسيس مشروع مشترك مع شركة تاتا غلوبال بيفريجز، لتتوسع تدريجياً من مدينة إلى أخرى مع تكييف متاجرها ومنتجاتها بما يتماشى مع الأذواق المحلية.
التعمق في فهم الأعراف الزمنية بالأسواق المحلية.
على الشركات أن تولي اهتماماً بفهم الطريقة التي ينظر بها الناس إلى الزمن ويستخدمونه في السوق المستهدفة، وأن تواكب الإيقاع المحلي في بناء الثقة وصناعة القرارات وسرعة التنفيذ. وقد استفاد منتج فنتولين نيبولز من هذا النهج؛ إذ أمضى المدراء المحليون فترات طويلة مع أصحاب المصلحة الرئيسيين، ما أتاح للمنتج أن يتماشى مع وتيرة وصف الأطباء للعلاج وأنماط تلقي المرضى له. وسلكت شركة ستاربكس المسار نفسه في الهند، حيث اندمجت بعمق في المنظومة المحلية، فاعتمدت على شبكة تاتا كوفي في شراء البن وتحميصه، ودربت فنيي التحميص والعاملين المحليين في المقاهي، لتزاوج بين معاييرها العالمية والطابع الهندي القائم على التؤدة والنهج القائم على بناء العلاقات في ممارسة الأعمال التجارية.
ضرب المثل في الصبر من خلال تحلي القادة به.
ينبغي أن يكون القادة قدوة في الصبر، وأن يعبر سلوكهم عن التزامهم الواضح برؤية طويلة الأمد؛ لأن تصرفاتهم تنعكس مباشرة على فرق العمل. فحين يتبنى القادة هذا النهج، يمنحون فرقهم الحرية في التركيز على تحقيق نتائج مستدامة بدلاً من السعي لتحقيق مكاسب عاجلة. وأدارت فرق العمل منتج فنتولين نيبولز بحرية ودون ضغوط من المقر الرئيسي؛ إذ اتبعت الشركة توجهاً طويل الأمد أتاح للمدراء المحليين تنفيذ خطة التوزيع بوتيرة ثابتة وناجحة. وقد تبنت شركة كوكاكولا الفلسفة نفسها عند دخولها الأسواق الإفريقية؛ إذ أكدت قيادتها العليا التزامها الطويل الأمد تجاه القارة، وأعلنت رغبتها في أن تصبح "جزءاً من نسيج المجتمعات المحلية"، موضحة أن النجاح سيتحقق بالصبر والعمل المتواصل لا بالمكاسب القصيرة الأجل.
ترسيخ المرونة في النظم الداخلية.
على الشركات أن تعيد تصميم نظم التخطيط وإعداد الميزانية ومؤشرات الأداء بما يتيح تحقيق التقدم التدريجي بوتيرة أبطأ وأكثر مرونة؛ فالنظم الجامدة قد تقوض أكثر الاستراتيجيات المحلية اتزاناً. وقد استفاد منتج فنتولين نيبولز من هذه المرونة؛ إذ اعتمدت شركة غلاكسو سميث كلاين على قدراتها الإنتاجية وقنوات التوزيع القائمة لتوسيع انتشار المنتج بصورة تدريجية وطبيعية تتواءم مع خصوصية كل سوق. وينطبق المبدأ ذاته على تجربة شركة كوكاكولا في إفريقيا، حيث تفاوتت وتيرة التوسع بين دولة وأخرى؛ فقد تحركت بسرعة في كينيا، حيث يشبه الطلب على المشروبات الغازية نظيره في الولايات المتحدة، بينما تبنت وتيرة أبطأ في نيجيريا، حيث كان الطلب محدوداً نسبياً.
للنجاح في الأسواق الناشئة، على الشركات المتعددة الجنسيات أن تتجنب الوقوع في فخ التفاؤل الزمني. وما يبعث على التفاؤل أن هذا الفخ يمكن تفاديه. فإطار العمل الرباعي يساعد المسؤولين التنفيذيين على بناء قيمة طويلة الأمد في بيئات لا يمثل فيها الصبر مجرد فضيلة، بل ميزة تنافسية. وليس المقصود هنا التحرك ببطء، بل التحرك بذكاء؛ إذ يتوقف النجاح على مواءمة التوقيت مع الواقع الفعلي على الأرض، لا مع الضغوط الصادرة من قاعات اجتماعات مجالس الإدارة البعيدة عن واقع السوق.