إذا كُلّفت بمهمة نقل خبر نتيجة الامتحان لأحد الطلاب، فقولك له: "لقد حصلت على درجة جيد، (باعتبارها نتيجة مقبولة)، يعني أنّ الطالب حقق علامة أعلى من متوسط المجموع النهائي للفصل". ونقل الخبر بهذا السياق سيترك أثراً إيجابياً عند متلقي الخبر. أما إذا قلت له: "لقد حصلت على نتيجة جيد (باعتبارها نتيجة منخفضة)، ما يعني أنّ معدلك هذا العام سينخفض بشكل ملحوظ". سيترك هذا الأمر عند الطالب أثراّ سلبياً واضحاً. وعلى الرغم من أنّ الجملتين متطابقتين بالمعنى، إلا أنّ كلاً منهما ستحفز مشاعر مختلفة، وردود فعل مختلفة، وبالتأكيد قرارات مختلفة. في علم اقتصاديات السلوك، هذا ما يسمى بتأثير التأطير. وتأثير التأطير (The Framing Effect) هو أحد الانحيازات الإدراكية العديدة التي قام بدراستها دانيال كانيمان، الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد، وخبير الاقتصاد ريتشارد ثالر.
وبيّن الخبيران أنّ الناس يتفاعلون مع الحقائق بشكل مختلف بحسب كيفية نقل الحقيقة، حيث أنّ الجمل التي تحمل معان متشابهة، تُحفّز مشاعر وردود فعل مختلفة على حسب طريقة تقديمها. وجميع الناس في النظام الاقتصادي مُعرضون للوقوع تحت تأثير التأطير، ما يؤثر بشكل كبير على اتخاذ القرارات وعلى العالم الذي نعيش فيه.
كيف نقوم بالتأطير؟
في كتابه "التفكير، بسرعة وببطء" (Thinking, Fast and Slow) استخدم كانِمان المثال البسيط التالي: إيطاليا وفرنسا تنافستا في نهائي كأس العالم 2006، وللجملتين التاليتين نفس المعنى وتقودان لذات النتيجة: (ربحت ايطاليا في المباراة، وخسرت فرنسا في المباراة).
يمكن اعتبار الجملتين متطابقتين تماماً، وبالنسبة لشخص ذو فكر اقتصادي المشاعر الناتجة عن هاتين الجملتين يجب أن تكون متطابقة أيضاً، وكذلك الأفكار والآراء حول المباراة أو البطولة أو المدرب أو حتى الحكم. وسواء قُدم الخبر للقارئ بالصيغة الأولى أو الثانية، فالمشاعر يجب أن تكون واحدة، حيث يمكننا القول أنّ طريقة تقديم المعلومة عاملاً غير مهم. يصف كانِمان موضوعية الشخص المنطقي تماماً بقوله: "بالنسبة للأشخاص أصحاب الفكر الاقتصادي، تُعتبر معتقداتهم والأمور التي يفضلونها قضايا متصلة بالحقيقة الواقعية فقط. إذ أنّ اختياراتهم وآرائهم كلها أمور مستدرجة من الواقع فقط، ولا تتأثر بالكلمات التي استخدمت لوصف الواقع". لكن، في العلوم الإنسانية للجملتين معنيين مختلفين، وبالتالي تستدرجان مشاعراً وآراء مختلفة.
وعلى عكس المنطق، يُعتبر الإنسان مصاباً بتأثير "التأطير" إلى حد كبير، حيث تستخدم الشركات والمسوقون هذا التأثير لصالحهم، من أجل تحقيق أهداف معينة تشمل تغيير الرأي العام.
وحتى نشرح كيف يعمل تأثير التأطير، لننظر إلى قضية تجار التجزئة والبنوك، التي قام بشرحها ريتشارد ثالر ضمن كتابه "سوء التصرف". في الوقت الذي زاد انتشار بطاقات الائتمان واعتماد المستهلكين عليها في القيام بعمليات الشراء من محلات التجزئة، كان مصدّرو البطاقات (البنوك) في صراعات قانونية دائمة مع تجار التجزئة، حيث فضّل التجار زيادة الأسعار على كل مستهلك يستخدم بطاقة الائتمان للدفع، وذلك لأنّ البنوك تستلم عمولات بنكية على كل عملية شراء من قبل تجار التجزئة. وبالتأكيد، يُعتبر إعلان سعر مرتفع لمستخدمي بطاقات الائتمان سبباً لتوقف المستهلك عن استخدام تلك البطاقات والتوجه للدفع نقداً من أجل الحصول على سعر منخفض، ما سيؤذي البنوك كثيراً، لأنّ هدف البنك الأساسي أن يرى العميل خدمة البطاقات الائتمانية مجانية ولا تقتضي عليه دفع "ضريبة إضافية".
نجحت البنوك في الضغط على الرأي العام حين تم اقتراح الحل الأمثل، وهو قيام تجار التجزئة بإعطاء خصم لمن يدفع نقداً، حينما يتم البيع لمن يدفع بالبطاقة بالسعر المتعارف عليه (العادي). ما يعني أن يتم تحويل السعر المرتفع إلى السعر العادي الجديد، ومن أراد أن يدفع نقداً، سيحصل على خصم، أي أنّ السعر العادي السابق هو سعر مخفّض. وبالنسبة إلى شخص ذو فكر اقتصادي منظم تماماً، فإنّ هاتين السياستين هما في الحقيقة متطابقتين، وفي كلتا الحالتين، سيقوم المستهلك بدفع سعر أعلى عندما يستخدم البطاقة الائتمانية، وسعر أقل عندما يدفع نقداً، حيث ينتهي المطاف بالمستهلك بذات القيمة الاقتصادية. لكن، فيما يخص الإنسان العادي، تُعتبر السياستان مختلفتان تماماً. حيث أنّ في الحالة الأولى، سيقوم المستهلك بدفع سعر أعلى من السعر العادي، فقط لأنه استخدم البطاقة الائتمانية (والتي يجب أن تكون خدمة مجانية)، وهذا الشيء سيجعله يشعر بالظلم والخداع. بينما في الحالة الثانية، سيقوم المستهلك بدفع السعر العادي (الذي يساوي السعر المرتفع في الحالة الأولى) عند استخدام البطاقة الائتمانية، لكنه سيحصل على خصم عند الدفع مباشرة، ما سيجعله يشعر أنه فاز بصفقة ممتازة.
كيف يشكل تأثير التأطير مشكلة؟
في الحقيقة، لا يمكن اعتبار التأطير سيئاً في جميع الأحوال. ربما يكون طريقة فعالة لتخطي بعض مشاكل الحياة الخارجة عن إرادتنا، وهو ما نطلق عليه أحياناً موقفنا حيال حدث معين، سواء كان موقفاً إيجابياً أو سلبياً. فوضع إطار إيجابي حول الأحداث المؤسفة كفقدان محفظتك أو تذاكر فيلمك المفضل أو حتى مشاكل أكثر جدية كالطرد من العمل أو خسارة استثمار معين، يجعلنا نتخطى الأمور بشكل أفضل حتى نستطيع المضي قدماً في حياتنا. لكن، في هذا المقال، سنقوم بالتركيز على الجانب الذي يقودنا لاتخاذ قرارات غير عقلانية، ليس لها أي أساس منطقي، وأساسها الوحيد هو الإطار الذي وضعت فيه.
ومع ذلك، لا تكمن المشكلة الأساسية فقط في حقيقة إسناد قراراتنا إلى إطارات مبتكرة من شخص محترف في تحريك الرأي العام، بل في حقيقة أننا نسند آرائنا وقراراتنا على وصف للحقيقة فقط لا غير. فالأخبار والعناوين الرئيسية في الواقع، ليست إلا وصفاً لحقائق حصلت، وحين يستقبل الإنسان هذه الأوصاف يقوم ببناء آراء وقرارات استناداً عليها فقط، ما يتركه بلا آراء حقيقية في وقائع ومشاكل حقيقية. حتى نشرح بشكل أفضل، لنأخذ المثال على تأثير التأطير الذي قدمه الاقتصادي توماس شيلينغ في كتابه "الاختيار والعاقبة" (Choice and Consequence)، حيث ذكر تجربته حينما كان يدرس ضمن جامعة كينيدي في هارفارد، حين سأل طلابه السؤال التالي المتعلق بالإعفاء الضريبي للأطفال: "هل يجب أن يكون الإعفاء الضريبي للأطفال في العائلات الثرية أكثر من العائلات الفقيرة؟"، أجاب الطلاب أنّ فكرة تفضيل العائلات الثرية بإعفاء ضريبي أكبر من العائلات الفقيرة غير مقبولة.
لقد أوضح شيلينج في كتابه أنّ قانون الضرائب هو قانون اعتباطي، ما يعني أنّ القانون يفترض حالة أساسية وحالة اعتيادية للعائلة (وهي أنّ العائلة لا تحتوي على أي طفل)، وأي زيادة في عدد الأطفال تقتضي بإعفاء ضريبي لكل طفل، يقلل من قيمة الضريبة. لكن، لنتصور أنّ القانون كُتب بطريقة مختلفة، بحالة أساسية واعتيادية مختلفة، لنفترض أنّ الحالة الأساسية للعائلة (أنها تحتوي على طفلين)، وكل عائلة تنقص عن هذا العدد يستجدي بها أن تدفع زيادة بالضريبة. في هذه الحالة، يتوجب علينا أن نسأل سؤالاً مختلفاً: "هل يجب على العائلة الفقيرة التي لا يوجد بها أطفال، دفع نفس المبلغ المضاف على الضريبة التي تدفعها العائلة الثرية التي لا يوجد بها أطفال؟".
اتفق الطلاب أنّ هذه فكرة غير مقبولة، ولا يجب على العائلة الفقيرة دفع نفس المبلغ المضاف كالعائلة الثرية. لكن، شيلينج يعتقد أنّ المنطق يمنعك من الإجابة عن كلتا الحالتين بالرفض، ببساطة لأنّ الحالتين معاكستين لبعضهما. بما أنّ الحالة الأولى تقترح "انخفاضاً" في الضريبة، إذن، يعتقد الفرد أنّ العائلة الثرية لا يجب أن تستمتع بنفس التخفيض الذي تحتاجه العائلة الفقيرة. لكن، بما أنّ الحالة الثانية تقترح "ارتفاعاً" في الضريبة، يعتقد الفرد أنّ العائلة الفقيرة لا يجب أن تتحمل نفس الارتفاع الذي تستطيع العائلة الثرية تحمله. وهذا الأمر يمثل انحيازاً غير منطقي. يشرحه كانِمان في تعليقه على التجربة قائلاً: "إذا كنت، في الحالة الأولى، تعتقد أنّ الفقير يجب أن يستمتع بنفس الانخفاض (أو حتى أكثر) كالثري كلما زاد عدد الأطفال، فيجب الاعتقاد أنّ الفقير عليه دفع ذات الغرامة التي سيدفعها الثري كلما قل عدد الأطفال".
هنا نرى أنّ آرائنا المستندة على أخلاقنا التي تجعلنا ننحاز للفقير، ما هي إلا آراء متناقضة وغير عقلانية، حيث أسندنا آرائنا بشكل تام على إطار الثري والفقير وإطار الارتفاع والانخفاض، ما جعل الإطار أسهل لنا لاتخاذ قرارات سريعة ومريحة لضمائرنا، حتى إذا عنى الأمر تشكيل رأيين متناقضين تماماً. لكن المشكلة الحقيقية تظهر عندما سأل شيلينج السؤال التالي: "باعتقادك، كيف يجب أن يكون قانون الضرائب للأطفال بالنسبة للعائلات الثرية والفقيرة؟"
في هذا السؤال، تم إلغاء جميع الإطارات التي تخص الزيادة للعائلات الفقيرة أو الانخفاض للعائلات الثرية. والقضية ليست قضية ثري أو فقير، بل هي قضية تكوين لقانون الضرائب من أجل تشكيل قانون عادل وفعّال، كم يجب على العائلات أن تدفع كضرائب. في هذه الحالة، يصعب علينا إيجاد جواب بديهي وسريع كما فعلنا في الحالتين السابقتين، لأن هذا السؤال لا يقع تحت أي تصنيف أخلاقي أو إطار معين. إنه سؤال موضوعي ويتطلب جواب موضوعي واقعي. يقول كانِمان تعليقاً على الحالة الأخيرة: "ليس لديك أي تحيز أخلاقي أو حدس يقودك في حل تلك القضية. مشاعرك الأخلاقية متصلة بإطارات معينة، متصلة بوصف للواقع وليس الواقع بذاته. ما نود إيصاله عن حقيقة التأطير هي رسالة قاسية وصارمة: لا يجب أن يكون التأطير دخيلاً يشوه أو يغطي آرائنا الحقيقية. يبدو أنّ آرائنا تكون حول مشاكل مؤطرة (وليس مشاكل حقيقية)، وحدسنا الأخلاقي مكوّن حول وصف للواقع، وليس عن الواقع". أنا أؤمن إيماناً تاماً أنّ تلك هي المشكلة الحقيقية التي نتعرض لها. إذ يفشل الفرد في تجميع معلومات كافية لتكوين رأي موضوعي، حيث يفضّل الفرد الاعتماد على الأخبار والعناوين الرئيسية لتكوين آراء مستندة على وصف للواقع. في النهاية، مدى عدالة الحل وكماليته لا تقاس فقط بمدى فعاليته، بل أيضاً بكيفية تأطيره.
إعادة التأطير الإدراكي: طريقة للسيطرة على الأضرار
بمجرد الاعتراف بالوقوع تحت تأثير التأطير هو حل بحد ذاته. لذلك، كونك واعياً أنّ آراءك، وقراراتك، متأثرة بإطارات تم ابتكارها من قبل شركات أو صحفيين أو غيره، ربما يساعدك ذلك في البحث بشكل أعمق عن وجهة نظر موضوعية. فعندما نكون أكثر وعياً حول تحيزاتنا، نستطيع ممارسة السيطرة عليها بشكل أكبر.
ومن الطرق المتعارف عليها في علم النفس هي "إعادة التأطير الإدراكي". وهي الخطوة التي تأتي بعد الاعتراف بوجود هذا التأثير، حيث يتوجب عليك تحديد التحيزات وكيف أنّ هذه التحيزات أثرت على الآراء والقرارات.
وهنا نذكر بعض الممارسات التي تساعدك في تخطي تأثير التأطير وهي كما يلي:
- النظر في مصادر أُخرى للمعلومات، مصادر مختلفة عن تلك التي اعتدت أن تثق بها، حيث ربما تكون مصادرك خلقت لك تحيزات تؤثر على آراءك وقراراتك.
- كتابة جميع الأسباب التي جعلتك تتخذ موقفاً معيناً من حدث معين، بكل وضوح وشفافية وصراحة.
- اختبار مدى عقلانية تلك الأسباب وقوتها، وهل هذه الأسباب حقائق أم أنها وصف أحدهم لحقيقة معينة خفية؟ وهل سيكون هناك رأياً مختلفاً لو تم تصوير القضية بشكل مختلف أو تم نشرها في مكان آخر؟
كما ذكرت مسبقاً، ليس التأطير بالأمر السيء. في الحقيقة، يساعدنا اتقان التأطير في التغلب على بعض مشاكل الحياة وبعض القرارات التي قمنا بها، والتي لم تكن في صالحنا. كما يُعتبر مهماً بالنسبة للمسوّقين، الصحفيين، والشركات وغيرهم في تغيير الرأي العام، وتغيير السياسات العامة، وتحسين سمعة شركة معينة أو حتى بيع منتج معين. لكن، الناس هم من يقومون بقيادة الاقتصاد، فإذا كانت آرائنا وقراراتنا مستندة على تحيزات غير عقلانية، إلى أي حد تكون قراراتنا موثوقة؟