يفضّل الموظفون اليوم بيئات العمل الإيجابية التي توفر ساعات عمل مرنة ومخصصة حسب الاحتياجات الشخصية. حيث أوضح استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث (Pew Research Center) عام 2021، أن 63% من المشاركين تركوا وظائفهم بسبب عدم توفر فرص الترقي الوظيفي، و57% منهم استقالوا نتيجة عدم الاحترام والتقدير. ومع الظروف الاستثنائية التي رافقت جائحة كورونا "كوفيد-19" والتأثيرات طويلة الأمد التي نجمت عنها، تغيرت نظرة الموظفين إلى أماكن العمل، ودفعتهم للبحث عن ثقافة عمل إيجابية تراعي احتياجاتهم الصحية والإنسانية.
وشهدنا تحولات كبيرة في بعض الشركات التي تبذل جهوداً لتلبية الاحتياجات الخاصة بموظفيها الحاليين والمستقبليين، إلا أن هذه الجهود لا تزال مجرد تصريحات إعلامية في بعض الشركات التي تسعى إلى الحفاظ على صورتها، دون أن يترافق ذلك بتغيير فعلي. ولا تزال هذه الشركات، وخبراء الموارد البشرية لديها، غير مدركين للتأثيرات السلبية التي تلحق بسمعة التوظيف فيها عند اعتماد ثقافة مؤسسية غير ملائمة بحسب المعايير الجديدة. كما أن تعارض توقعات الموظفين مع خطط الشركات يقود إلى حالة من التوتر ينتج عنها خسائر على المدى الطويل، وتزداد حدتها بزيادة اعتماد هذه الشركات على المواهب العاملة لديها.
وقد ينتج عن مثل هذه الحالة خسارة الشركات لأصحاب المواهب الضرورية لتطوير أعمالها والمحافظة عليها. وأشارت دراسة حديثة أجرتها جامعة ملبورن الأسترالية إلى أن أنظمة العمل التي تشجع على الأداء المرتفع في العمل غير قادرة على السيطرة على معدلات ترك الموظفين لوظائفهم بصورة جماعية وطوعية في بيئات العمل التي لا تلبي تطلعات الموظفين، حيث يواجه الموظفون أزمة ثقة حول الدوافع الكامنة وراء القرارات الإدارية. وتعكس هذه النتائج عدم ارتباط توجهات الموظفين الجديدة بالعمل من المكتب أو من المنزل أو بتوفير نماذج العمل المرنة، بل بحاجتهم إلى بيئة عمل تراعي صحتهم العامة وتحترم جهودهم على الصعيدين الفردي والجماعي، كما تتيح لهم إمكانية اختيار المكان والزمان الأمثل للعمل وإنجاز المهام، مع ضرورة الموازنة بين احتياجات الشركات وظروف الموظفين الفردية لضمان أداء جيد ومستدام.
وتفرض هذه المتطلبات تغيرات كبيرة بالنسبة لجهات التوظيف والجيل الجديد من الموظفين على حد سواء. ففي البداية، لا بد أن تدرك الشركات عدم استعداد الموظفين من أصحاب المواهب المتميزة لاتباع القواعد والأنظمة القائمة لمجرد كونها العرف السائد في مجال التوظيف. وهنا تظهر أهمية مراعاة جوانب الصحة والعافية في أماكن العمل، والتي تحظى بأهمية متنامية وغير مسبوقة في وقتنا الحالي.
ويجدر الانتباه إلى أن الأجيال الجديدة من الموظفين تتمتع بمستويات مرتفعة من الاطلاع والمعرفة، وبالتالي فإن التركيز على مدى التزام الشركة بمواكبة المستجدات، دون دعم ذلك بالسياسات العملية اللازمة والتي تعكس احترام الشركة لموظفيها، سيؤدي إلى تراجع ثقة الموظفين، مما ينعكس سلباً على تحقيق الشركة لأهدافها وعلى سمعتها في سوق التوظيف.
ومن ناحية أخرى، يولي الجيل الجديد من الموظفين تركيزاً أكبر على بيئة العمل الصحية، وهي ناحية إيجابية يمكن الاستفادة منها لصالح الشركة، فقد أدت جائحة كورونا الصحية والتطورات التكنولوجية المتسارعة إلى تغيرات جذرية في بيئة العمل، مما دفع الموظفين إلى الاهتمام بصحتهم وعافيتهم بصورة غير مسبوقة، كما منحتهم هذه الجائحة مفهوماً جديداً للتوازن بين الحياة الشخصية والمهنية.
ويحظى الباحثون عن عمل في الوقت الحالي بقدرة أكبر على التفاوض مع الشركات في ضوء تنامي حالة عدم التوازن وقلة أعداد الموظفين المؤهلين في سوق العمل. لذلك يتعين على الشركات اليوم ابتكار طرق جديدة لقياس الإنتاجية تركز على القيمة التي يقدمها موظفوها، عوضاً عن الاكتفاء بحجم العمل المنجز خلال زمن محدد، بالإضافة إلى إدراك أهمية منح الموظفين حرية اختيار الزمان والمكان وطريقة العمل المناسبة، مما يجعل من القوى العاملة الموهوبة قيمة إضافية للشركة، عوضاً عن كونها تحديات إضافية تواجه مدراء الموارد البشرية.
وفي ضوء هذه المستجدات، ستعمل الشركات ذات العقلية المستقبلية على الاستجابة لهذا التغير في السوق واتخاذ الإجراءات اللازمة لتفادي تراجع ثقة الموظفين، من خلال تصميم تجارب تركز على أصحاب المواهب وتمنحهم المساحة اللازمة للوصول إلى قدراتهم الكامنة وتحقيق نتائج إيجابية ضخمة تدعم نمو الأعمال.