تُمثّل تلك السلوكيات الفظة مشكلة واسعة الانتشار ومكلفة للمؤسسات. ولسوء الحظ، لا تعرض البحوث إلا القليل من الحلول العملية للحد من سوء المعاملة في المؤسسات، كما أن معظم تلك الحلول مكلفة وتستغرق وقتاً طويلاً وتكون فاعليتها محدودة. وأدركنا خلال 20 عاماً من الخبرة في إجراء البحوث حول سوء المعاملة في أماكن العمل ضرورة النظر في هذه المشكلة، وشرعنا في إيجاد طريقة فاعلة وصالحة علمياً للحد من تلك السلوكيات السامة.
ونظراً لأن سوء المعاملة يتعلق بإحباط الأفراد، لجأنا إلى البحوث التي أُجريت في مجال علم النفس الإيجابي على أمل أن نكتشف كيفية زيادة تفاؤل الأفراد، وتحديداً باستخدام الامتنان. فقد أظهرت الدراسات أن مشاعر الامتنان تحسن العلاقات، وتعزز مشاعر الدعم، وتزيد من السلوك الاجتماعي الإيجابي.
وأظهرت البحوث في هذا المجال أيضاً أنه يمكن للأفراد تنمية مشاعر الامتنان عن قصد من خلال تدخلات بسيطة. تتضمن إحدى تلك التدخلات تشكيل "مجموعات الامتنان"، حيث يحضر المشاركون جلسات يناقشون فيها موضوع التعبير عن الامتنان ويكتبون عنه ويمارسونه بالفعل من خلال أنشطة لعب الأدوار. ومن التدخلات الأخرى كتابة رسالة شكر إلى شخص ما ثم قراءتها له بصوت عالٍ. ولعلّ التدخل الأبسط والأكثر شهرة هو كتابة يوميات الامتنان، حيث يقضي الشخص بضع دقائق كل يوم في تدوين الأمور والأشخاص والأحداث التي يشعر بالامتنان لها.
واستنتجنا في ضوء تلك النتائج، أن تدخلات الامتنان قد تقلل من السلوك الفظ في المؤسسات. ونرغب اليوم في اختبار مدى صحة تلك التدخلات وسبب نجاحها، هذا إن نجحت بالفعل. وقادتنا دراسات علم النفس الإيجابي إلى 4 تفسيرات محتملة. آثار الامتنان:
- تزيد الدافع لتبنّي السلوك الإيجابي الاجتماعي.
- تعزز العلاقات الشخصية الوثيقة.
- تحسن القدرة على ضبط النفس.
- تعزز مشاعر الدعم.
وبناءً على ذلك، أجرينا دراسة، ولجأنا إلى مساعدة شركة خدمات بحثية لتوظيف 147 متطوعاً عملوا في مجموعة متنوعة من القطاعات والمؤسسات والوظائف. وشملت الدراسة معلمين ومدبرات منازل وعاملين في مطاعم الوجبات السريعة، إلى جانب أولئك الذين يشغلون مناصب مكتبية نموذجية، كالمشرفين وفنيي تكنولوجيا المعلومات. وطلبنا من المشاركين كتابة يوميات عن أيام عملهم لمدة أسبوعين، وصنفناهم عشوائياً في مجموعتين. تم توجيه الأفراد الذين صُنّفوا ضمن مجموعة الامتنان للكتابة عن الأشخاص والأحداث والأمور التي كانوا ممتنين لها في العمل. في حين طُلب من الآخرين ضمن مجموعة التحكم تسجيل أحداث يومهم فقط. وبعد فترة 10 أيام، أكمل الموظفون استقصاءً عبر الإنترنت لمساعدتنا في تحديد ما إذا كان لليوميات أي تأثير على دوافعهم الاجتماعية الإيجابية، وتقارب العلاقات، والقدرة على ضبط النفس، والدعم المتصور. وبعد أسبوع، طلبنا من زملاء عمل أحد الموظفين إكمال استقصاء أيضاً للإبلاغ عن أي سلوك غير مهذب بدر عن الموظف خلال الأسبوعين الماضيين.
وعندما حللنا البيانات، وجدنا أن يوميات الامتنان قللت السلوكيات الفظة في مكان العمل من خلال تعزيز قدرة المشاركين على ضبط النفس. وللتأكد من أن تلك النتيجة لم تحصل مصادفة، أجرينا دراسة ثانية باستخدام الإجراءات نفسها لكن مع 204 موظفين هذه المرة. وبالإضافة إلى اختبار ما إذا كان تدخل الامتنان سيقلل من السلوك الفظ، تقصينا أيضاً أثره في عدد المرات التي روّج فيها المشاركون إشاعات عن زملائهم في العمل أو نبذوهم. ووجدنا أن المشاركين في مجموعة الامتنان أبلغوا عن قدرة كبيرة على ضبط النفس، ووفقاً لزملائهم في العمل، كانت نسبة انخراطهم في سلوكيات فظة، واحتمال تناقلهم الإشاعات وإقصاء زملائهم في العمل أقل.
وعلى الرغم من أن تجاربنا تثبت قدرة يوميات الامتنان على الحد من سوء المعاملة في المؤسسات، فإنها ليست حلاً شاملاً. فنحن لا نجزم أن إجبار أعضاء الفريق على كتابة يوميات الامتنان سيقضي على السلوك السيئ في مكان العمل، بل نوصي المدراء بمعالجة المشكلة المعقدة المتمثلة في سوء المعاملة في مكان العمل على نطاق أوسع وأكثر شمولية من خلال تنمية ثقافة الامتنان. كيف ذلك؟ إليكم بعض الاقتراحات التي تدعمها البحوث:
يجب أن يكون القادة قدوة. قد يبدو الامتنان ممارسة مبتذلة بالنسبة للبعض. وإذا لم يدعم القادة بناء ثقافة الامتنان، فلا يمكن توقع ذلك من الموظفين أيضاً. وتتمثّل إحدى الطرق التي تمكّن القادة من التعبير عن التزامهم ببناء ثقافة الامتنان في تخصيص بعض الوقت لمنح كل موظف رسالة شكر شخصية وصادقة. هل تقلق بشأن المدة التي سيستغرقها شكر 10 أو 50 أو حتى 100 موظف في فريقك؟ في الواقع، أرسل دوغلاس كونانت خلال فترة عمله رئيساً تنفيذياً لشركة "كامبل" (Campbell) أكثر من 30,000 ملاحظة شكر مكتوبة بخط يده إلى موظفيه. كان يعتقد أن الرسائل تحسن الروح المعنوية والإنتاجية. ولجعل التغيير الثقافي مستداماً، يجب على القادة ترجمة أقوالهم إلى أفعال.
احرص على تخصيص الوقت والفرصة للتعبير عن الامتنان. قد يشعر العديد من الموظفين بالتردد حيال التعبير عن الامتنان أو الشكر علناً، وبالتالي، لا تجبرهم على ذلك، بل يجب على المدراء توفير مساحة (فعلية أو افتراضية) ووقت للتعبير عن الامتنان. على سبيل المثال، يمكن للمدراء تخصيص جدار للصق ملاحظات الشكر والتقدير عليه أو إنشاء قناة مخصصة على تطبيق "سلاك" تتيح للموظفين تقدير جهود بعضهم لبعض والثناء عليها. ويمكن للمدراء أيضاً بدء الاجتماعات بلقاءات الامتنان لإتاحة الفرصة لأعضاء الفريق للتعبير عن شيء واحد يشعرون بالامتنان له. وعندما يلصق الموظفون الملاحظات على الحائط أو يشاركون في اللقاءات، فإنهم يخلقون بذلك برهاناً اجتماعياً يشجع زملاءهم المترددين على فعل الشيء نفسه.
اسمح للموظفين بالتفاعل مع المستفيدين. لا يقتصر دور تعزيز ثقافة الامتنان على المدراء فقط، بل يمكنك إشراك الزبائن أو العملاء أو المرضى أو غيرهم من المستفيدين الذين يتأثرون بشكل إيجابي بعمل موظفيك. تأمّل التجربة التي أجراها آدم غرانت وزملاؤه بين الموظفين المسؤولين عن جمع التبرعات من خريجي الجامعات. حيث التقت إحدى المجموعات طالباً استفاد من المنح الدراسية بفضل التبرعات التي جمعها الموظفون. ووصف الطالب قدرته على الحصول على المنحة بفضل ذلك التمويل وعبّر عن مدى تقديره لجهودهم. وبعد شهر واحد فقط، قضى أولئك الموظفون حوالي 142% من الوقت الإضافي على الهواتف وجمعوا نسبة 171% أكثر من الأموال مقارنة بالمجموعة التي لم تلتق الطالب. وخلص البحث إلى استنتاج يُفيد بضرورة أن تعقد المؤسسات أحداثاً تمكّن الموظفين من مقابلة الأشخاص المتأثرين إيجاباً بعملهم.
وخلاصة الحديث: ينبغي للمدراء التأكيد على أهمية التعبير عن الشكر والتقدير في العمل، فغرس ثقافة الامتنان لن يؤدي إلى تعزيز رفاهة الموظفين وأدائهم فحسب، وإنما سيساعد أيضاً على وقف سوء المعاملة في مكان العمل. وذلك سبب آخر للشعور بالامتنان كما أوضحنا في كتابنا.