انتشر مصطلح التحرش ضمن المقالات الأكاديمية في سبعينيات القرن الماضي وبدأ يحظى باهتمام أكبر كمفهوم قانوني في 1977. في ذلك العام، طرحت النسوية والباحثة القانونية كاثرين ماكينون مقولتها التي مفادها إن التحرش في مكان العمل يشكل نوعاً من التمييز، وهو أمر غير قانوني بموجب قانون الحقوق المدنية الصادر في أميركا في 1964. وكان القضاة الاتحاديون قد رفضوا هذه الفكرة سابقاً، لكن ثلاث محاكم كانت بحلول عام 1978 قد اتفقت في الرأي مع ماك كينون، لتنضم المحكمة العليا إليها في 1986. فماذا عن برامج مكافحة التحرش في الشركات؟
اقرأ أيضاً: امنحوا الصلاحيات للمدراء لكي يوقفوا التحرش
إن اللحظة الحاسمة في تاريخ هذا المفهوم حصلت عام 1991، خلال جلسات الاستماع المخصصة لتعيين كلارنس توماس عضواً في المحكمة العليا في أميركا، حيث اتهمت أنيتا هيل القاضي توماس بالتحرش بها عندما كانت مساعدة له في "هيئة الفرص المتساوية في التوظيف". هزّت شهادة هيل المتلفزة الوعي العام ورسخت فيه مفهوم التحرش بقوة، ودفعت العديد من النساء إلى الإفصاح علناً عن قصصهن. وعندما أدركت شركات عديدة حجم المشكلة – وازداد قلقها من الأزمات القانونية وأزمات العلاقات العامة التي قد تواجهها – قررت أن عليها مواجهة الأمر، وسارعت إلى التحرك. وبحلول 1997، كانت 75% من الشركات الأميركية قد وضعت برامج تدريبية إلزامية لجميع الموظفين تشرح فيها السلوكيات التي يحظرها القانون وكيفية التقدم بشكوى، في حين كانت 95% منها قد وضعت إجراءات لتقديم الشكاوى بهدف الإبلاغ عن التحرش وطلب عقد جلسات استماع. بدت إجراءات التدريب وتقديم الشكاوى بمثابة بشرى للموظفين والشركات على حد سواء، وفي 1998، أصدرت المحكمة العليا في أميركا حكمها في قضيتين منفصلتين تنصّان على أن الشركات بوسعها حماية نفسها من دعاوى التحرش ضمن بيئة العمل العدائية عبر تطبيق هذين الإجراءين.
برامج مكافحة التحرش في الشركات
لعقدين من الزمن، كان معظم المؤسسات والتنفيذيين مرتاحين لذلك: فقد كانوا يتعاملون مع المشكلة. لكن التحرش ما زال منتشراً بيننا، وحركة #أنا_أيضاً (#Me_Too) أوضحت هذا الأمر بجلاء. تقول 40% من النساء (و16% من الرجال) اليوم إنهم قد تعرضوا للتحرش في العمل – وهو رقم لم يتغيّر منذ ثمانينيات القرن الماضي وهذا شيء لافت. يعود الأمر في ذلك جزئياً إلى أن النساء بتن أكثر ميلاً إلى استعمال كلمة "متحرش" الصريحة لوصف المدير الإشكالي مقارنة مع كلمات أخرى مراوغة كانت تُستعملُ في الماضي. ولكن نظراً لانتشار إجراءات تقديم الشكاوى والتدريبات الخاصة بالسلوكيات الممنوعة على نطاق واسع، لماذا لا تزال هذه الأرقام بهذا الارتفاع؟
هذا سؤال مهم، قررنا مؤخراً أن نحاول الإجابة عنه. وقد فعلنا ذلك من خلال إلقاء نظرة جدية على ما حصل في أكثر من 800 شركة أميركية، تضم أكثر من 8 ملايين موظف، بين مطلع سبعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة. هل أسهمت البرامج والإجراءات التي طبقتها هذه الشركات في جعل بيئات العمل فيها أكثر ترحاباً بالنساء؟ ركّزنا تحديداً على الكيفية التي أثرت بها هذه المبادرات على عدد النساء اللواتي يشغلن مناصب إدارية. اختبرنا فرضيتين. الفرضية الأولى تقول: إذا كانت البرامج والإجراءات ناجحة، فإنها يجب أن تخفف عدد المديرات الحاليات والطامحات اللواتي يغادرن عملهن بسبب التحرش – وبالتالي فإننا سنجد أعداداً أكبر من النساء في مواقع الإدارة مع مرور الوقت. الفرضية الثانية تقول: إذا كانت البرامج والإجراءات تعطي نتائج عكسية، فإن المديرات الحاليات والطامحات اللواتي يجب أن يغادرن عملهن بأعداد أكبر حتى، بينما الرقم الإجمالي للنساء في المناصب الإدارية يجب أن يكون في تناقص.
تُظهر الأبحاث أن التدريب على مكافحة التحرش يجعل الرجال عملياً أكثر ميلاً إلى توجيه أصابع اللوم إلى الضحايا وإلى الاعتقاد أن النساء يبالغن في ردود أفعالهن.
كشفت دراستنا عن بعض الحقائق غير المريحة. فلا البرامج التدريبية التي تُخْضِعُ معظم الشركات جميع عامليها لها، ولا إجراءات تقديم الشكوى التي طبقتها تساعد في حل مشكلة التحرش في مكان العمل. في الحقيقة، يميل كلا هذين الأمرين إلى زيادة عدم رضا العاملين وتقلبهم في الوظائف. وقد بدت الخلاصة بالنسبة لنا واضحة: لا تعدو برامج مكافحة التحرش ولا الإجراءات التي فضلتها المحكمة الأميركية العليا عام 1988 أكثر من مجرّد حل إداري لا يغني ولا يسمن من جوع، وضررها أكثر من نفعها.
يجب علينا أن نحسّن أدائنا. والبشرى السارة هي أن دراستنا كشفت الطرق التي تسمح لنا بتحسين هذا الأداء.
فكرة المقالة باختصار
المشكلة
على الرغم من أن معظم المؤسسات تطبق برامج مكافحة التحرش ولديها إجراءات لتقديم الشكاوى بهدف معالجة مشكلة التحرش في مكان العمل، إلا أن 40% من النساء تقريباً يقُلن إنهن يتعرّضن للتحرش في العمل وهذا رقم لم يتغير منذ ثمانينيات القرن الماضي.
البحث
درس المؤلفان برامج مكافحة التحرش والإجراءات التي استعملتها أكثر من 800 شركة أميركية منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى مطلع الألفية الجديدة واكتشفا أن معظمها كان ضرره أكثر من نفعه.
كيفية المضي قدماً
يجب على أصحاب العمل إعادة تصميم البرامج التدريبية بحيث تعامل كل العاملين بوصفهم حلفاء للضحايا، عوضاً عن توصيف بعضهم على أنهم مرتكبون محتملون لجرائم التحرش. كما يجب عليها أن تكمّل الإجراءات ذات الطابع القانوني لتقديم الشكاوى بأنظمة شكاوى أقل رسمية بهدف توفير استجابات سريعة للضحايا لا تؤدي إلى ردود أفعال انتقامية.
مشكلة برامج مكافحة التحرش
هل يسهم تدريب التحرش الذي يركز على السلوكيات الممنوعة في التقليل من حالات التحرش؟ على ما يبدو هذا الشيء لا يحصل. فقد كشفت دراستنا أنه عندما تطبّق الشركات هذا النوع من التدريب، فإن النساء اللواتي يشغلن المناصب الإدارية يتراجعن ويخسرن ميزاتهن. ولكي نعزل تأثيرات هذه البرامج، استعملنا تقنيات إحصائية متقدمة لنأخذ بالحسبان التغييرات الأخرى في الشركة، وفي قطاعها، ودولتها التي قد تؤثر على أعداد النساء في مناصب الإدارة. وجدنا أنه عندما تنفذ الشركات برامج تدريبية تتعلق بالسلوكيات المحظورة، فإن تمثيل السيدات البيضاوات يتراجع بأكثر من 5% خلال السنوات القليلة التالية. لكن النساء الأميركيات من أصل أفريقي، ولاتيني، وآسيوي لا يملن إلى خسارة مكانتهن بعد تطبيق البرامج التدريبية المتعلقة بالتحرش هذه – لكنهن لا يكسبن مكانة أفضل أيضاً. تشكل السيدات البيضاوات ثلاثة أرباع كل النساء في مناصب الإدارة ونصف جميع النساء ضمن صفوف القوى العاملة، لذلك فإنهن كمجموعة يتحمّلن القدر الأكبر من النتائج العكسية لهذا التدريب.
اقرأ أيضاً: إقناع الرؤساء التنفيذيين بجعل منع التحرّش أولوية
فلماذا يتسبب التدريب المصمم لتثقيف الموظفين حول التحرش بهذه النتائج العكسية؟ يبدو ذلك مخالفاً للحدس. تكمن المشكلة في الطريقة التي يُعرض بها التدريب. فعادة ما تكون برامج مكافحة التحرش إلزامية، ما يبعث برسالة مفادها أن الرجال يجب أن يُجبروا على الانتباه إلى القضية. كما أنها تركّز على السلوكيات الممنوعة، وأدق التفاصيل، ما يبعث بإشارة مؤداها أن الرجال لا يميّزون الحد الفاصل بين ما هو مسموح وما هو محظور. الرسالة تقول إن الرجال بحاجة إلى إصلاح.
ابدؤوا أي تدريب بإخبار مجموعة من الناس أنهم المشكلة، وستجدونهم يتخذون موقفاً دفاعياً. عندما يحصل ذلك، فإنهم سيكونون أقل ميلاً إلى أن يكونوا جزءاً من الحل؛ لا بل هم سيُبدون المقاومة. هذا ما يحصل في برامج مكافحة التحرش في الشركات: فالأبحاث تُظهر أن برامج مكافحة التحرش وهذا التدريب يجعل الرجال عملياً أكثر ميلاً إلى توجيه أصابع اللوم إلى الضحايا وإلى الاعتقاد أن النساء اللواتي يُبلغِن عن التحرش يخترعن هذه القصص، أو يبالغن في ردود أفعالهن. لذلك من غير المفاجئ أن تتوصل دراسة عام 2018 نفذها مركز بيو للأبحاث (Pew Research Center) إلى أن أكثر من 30% من الرجال قالوا إن المزاعم الزائفة بالتحرش تُعتبرُ "مشكلة كبيرة". ومن غير المفاجئ أن 58% من النساء اللواتي تعرضن للتحرش قلن إن عدم تصديقهن هو مشكلة كبيرة.
تؤدي هذه الدينامية إلى سيناريوهات متوقعة، أحدها هو أن الرجال الذين يجدون أنفسهم في موقع دفاعي يطلقون النكات حول سيناريوهات التدريب وحول التحرش ذاته. هذه الظاهرة شائعة على نطاق واسع إلى حد أن مؤلفي مسلسل "المكتب" (The Office) خصصوا حلقة كاملة لها. في وقت من الأوقات، تنظر بام موظفة الاستقبال إلى الكاميرا وتقول بلغة تنم عن تعب: "عادة، اليوم الذي نتحدث فيه عن التحرش هو اليوم الذي يتحرش فيه الجميع بي عبر إطلاق نكتة".
وماذا عن الرجال الميالين إلى التحرش؟ السبب الذي يدفعنا إلى جعل التدريب إلزامياً هو الوصول إلى هؤلاء الرجال. فهل يساعدهم التدريب، على الأقل؟ الإجابة هي لا. فالأبحاث تُظهر أن الرجال الذين لديهم نزعة إلى التحرش بالنساء قبل التدريب يصبحون فعلياً أكثر تقبلاً لمثل هذا السلوك بعد التدريب.
اقرأ أيضاً: ما أسباب عدم فاعلية الكثير من سياسات التحرش في المؤسسات؟
ومع ذلك، ما الذي تفعله الشركات عادة عندما تجد الرجال مذنبين خلال عملية تقديم الشكوى؟ تفرض عليهم الخضوع للمزيد من التدريب. فقد باتت ست ولايات الآن، بما فيها كاليفورنيا، ونيويورك، تفرض على جميع أصحاب العمل توفير تدريب على مكافحة التحرش لجميع العاملين لديهم.
بدائل التدريب
إذا قاد التدريب المعتاد على مكافحة التحرش إلى خسارة المديرات وزاد من سوء الأشخاص السيئين، ربما يكون الوقت قد حان للبدء بالتفكير بأنماط تدريب أكثر فاعلية. وقد حددنا نمطين ضمن بحثنا.
التدريب على تدخل الشهود
هذا هو أكثر بديل ينطوي على مستقبل واعد مرّ علينا. لطالما أجرت شارين بوتر وفريقها في مركز أبحاث الابتكار في مجال الوقاية في جامعة نيوهامبشير تجارب مثيرة للاهتمام على هذا الموضوع في مباني الكليات الجامعية والقواعد العسكرية، التي ينتشر فيها التحرش والاعتداءات على نطاق واسع. وكانوا قبل أكثر من عشر سنوات قد وضعوا برنامجاً تجريبياً لتدخل الشهود في الكليات، ومنذ ذلك الوقت استُعمِل هذا البرنامج في أكثر من 300 مبنى جامعي. في 2011، خضع البرنامج للتكييف ليناسب الجيش الأميركي.
تبدأ بوتر وفريقها برامجهم بالافتراض القائل إن المتدربين هم حلفاء يعملون على حل مشاكل التحرش والاعتداء عوضاً عن النظر إليهم كمرتكبين محتملين. يتمثل واجب كل شخص في القضاء على سوء السلوك في مهده. تقوم مقاربتهم على مبدأ "إذا رأيت شيئاً ما، قل (أو افعل) شيئاً". الشهود الحاصلون على تدريب مناسب يقاطعون من يطلقون النكات وهم يتصدون لمن يمارسون المعاكسات.والمفاجئ في الأمر هو أن هذه المقاربة أثبتت أنها ناجعة. فقد أفاد الطلاب والجنود الذين حضروا هذه الدورات التدريبية المخصصة للشهود وباتساق أنها قد ساعدتهم في معرفة ما يجب فعله عندما يرون علامات على وجود مشكلة. والشيء الأهم، هو أنه حتى بعد مرور أشهر على التدريب، فإن المتدربين أكثر ميلاً بكثير من الآخرين إلى القول إنهم قد تدخلوا في حالات وأوضاع حقيقية.
ثمة مديح متزايد لمزايا تدريب الشهود هذا. تترأس بوتر الآن جمعية لا تتوخى الربح تضع برامج مكافحة التحرش من كل الأنواع لصالح المؤسسات. وقد طوّرت القوات الجوية الأميركية برامجها الخاصة بها. وعندما فرضت مدينة نيويورك في 2018 على جميع أصحاب العمل توفير تدريب ضد التحرش، اشترطت عليهم أيضاً تغطية تدخل الشهود ووفرت برنامجاً نموذجياً مجانياً عبر الإنترنت لأصحاب العمل. لكن المؤسف في الأمر هو أن البرنامج بأكمله لا يستغرق أكثر من 45 دقيقة ويغطي خمسة مواضيع، بما في ذلك السلوكيات المحظورة. وهذا يختلف اختلافاً كبيراً عمّا توصلت إليه الدراسات ويُعتبرُ فاعلاً في حالة طلاب الجامعات والجيش، ألا وهو توفير عدة ساعات من التدريب الحي الذي يركز على تدخّل الشهود. ويُعتبرُ تدريب المدراء ناجحاً لأنه يعرض التحرش على هيئة تحد يجب على كل المدراء التعامل معه. بهذه الطريقة، هو يشابه تدريب الشهود. فالمشاركون والمشاركات يُشجَّعون على تخيّل ما قد يرتكبه الآخرون من أفعال خاطئة؛ والتركيز ليس منصباً هنا بشكل متعمّد على ما قد يرتكبونه هم من أفعال خاطئة. يقدّم المدربون المشورة إلى المشاركين لتساعدهم في التقاط الإشارات المبكرة على التحرش وفي كيفية التدخل بسرعة وفاعلية للحيلولة دون حصول تصعيد.
تدريب المدراء ضمن برامج مكافحة التحرش
يُعدُّ التدريب الذي يتلقاه المدراء حصرياً فاعلاً جداً أيضاً. فقد اتضح من دراستنا أن الشركات التي تبنت برامج مكافحة التحرش خاصة بتدريب المدراء شهدت تحقيق مكاسب مهمة في النسبة المئوية للنساء اللواتي يشغلن مناصب إدارية، حيث بلغت نسبة النساء البيضاوات اللواتي ارتقين في المنصب 6%، في حين بلغت النسبة لدى الأميركيات من أصلين أفريقي وآسيوي 5%، فيما بلغت النسبة في حالة اللاتينيات 2%.
يُظهرُ بحثنا أن الرجال يولون انتباههم خلال تدريب المدراء. لماذا؟ يعود الأمر جزئياً إلى شعورهم أنهم يُمنَحون أدوات جديدة سوف تساعدهم في حل المشاكل التي لم يعرفوا كيف يتعاملون معها في الماضي – بينما يعود الأمر جزئياً إلى أنه يُنظرُ إليهم على أنهم أبطال محتملون وليس أشخاصاً شريرين. الجميع في مركب واحد ويتعاونون، ويتعلمون كيف يتعرّفون على السلوكيات المشبوهة ويتصدون لها بطرق ستسهم في تحسين بيئة العمل الكلية.
مشكلة إجراءات تقديم الشكاوى
البراهين المتعلقة بالتدريب على مكافحة السلوكيات المحظورة واضحة: فهو لا يساعدنا في معالجة مشكلة التحرش في مكان العمل. ولكن ماذا عن الإجراءات القانونية لتقديم الشكاوى؟
كل شركة من الشركات التي درسناها والمدرجة على قائمة "فورتشن 500" كان لديها إجراء خاص بتقديم الشكاوى. وكان المحامون قد وضعوا هذه الإجراءات في بادئ الأمر بهدف مواجهة الضحايا الذين كانوا يخططون للجوء إلى القضاء، ثم كُيّفت هذه الإجراءات لحماية الشركات من الدعاوى القضائية للمتهمين. لكنها لم تحسّن الأوضاع بالنسبة للنساء. فبعد أن طبقتها الشركات في دراستنا، ما حصل في واقع الأمر هو أن عدد النساء اللواتي يشغلن مواقع في الإدارة تراجع.
حصلت التراجعات الكبرى في الشركات التي تضم عدداً قليلاً من المديرات. ويعود السبب في ذلك إلى أن النساء أكثر ميلاً من الرجال إلى تصديق تقارير التحرش. وعندما يكون هناك قلة من المديرات اللواتي يتلقين التقارير، فإن الضحايا اللواتي يشتكين يتعرضن أحياناً للمضايقة ما يدفعهن إلى ترك الشركة. وفي الشركات التي تضم العدد الأقل من المديرات بادئ ذي بدء (وهي الشركات الواقعة في الربع الأدنى) قاد تطبيق إجراءات تقديم الشكاوى ضد التحرش إلى تراجعات كبيرة، على مدار عدة سنوات، بلغت 14% بين صفوف المديرات الأميركيات من أصل أفريقي، و10% بين صفوف المديرات الأميركيات من أصل لاتيني، و10% بين صفوف المديرات الأميركيات من أصل آسيوي. وقد كانت التأثيرات السلبية أصغر في الشركات التي تضم عدداً أكبر من النساء في مناصب إدارية، بينما اختفت في المؤسسات التي تضم العدد الأكبر من المديرات. ولم تتأثر أعداد البيضاوات في مواقع الإدارة نتيجة إجراءات تقديم الشكاوى.
فلماذا كانت النساء ذوات البشرة الملونة هن الأكثر معاناة؟ تُبيّن الدراسات أنهن أكثر ميلاً بكثير من البيضاوات إلى التعرض إلى التحرش في العمل. وبما أن أولئك النسوة يتحملن القسط الأكبر من التحرش، فإنهن أكبر مجموعة تتقدم بالشكاوى – وبطبيعة الحال فإنهن الأكثر معاناة عندما تعطي إجراءات تقديم الشكاوى نتائج عكسية.
فلماذا تعطي هذه الإجراءات نتائج عكسية؟ الإجابة وفقاً لمجموعة متنوعة من الدراسات هي أن ذلك يأتي نتيجة الانتقام الذي تتعرض له الضحايا اللواتي يشتكين. توصل مسحٌ شملَ عمال فدراليين إلى أن ثلثي النساء اللواتي أبلغن عن المتحرشين بهن تعرضن لاحقاً للهجوم أو الاستهزاء أو لتخفيض الدرجة الوظيفية أو الطرد من المتحرشين بهن أو أصدقاء هؤلاء المتحرشين.
يترك هذا النوع من الانتقام آثاراً بعيدة المدى. فالنساء اللواتي يتقدمن بشكاوى على خلفية تعرضهن للتحرش ينتهي بهن المطاف عموماً في وظائف أسوأ وفي أوضاع جسدية ونفسية أسوأ بالمقارنة مع النساء اللواتي يلتزمن الصمت. كما أن الانتقام قد يكون هو الشيء الوحيد الذي تناله العديد من الضحايا بعد أن يتقدمن بشكوى، لأن معظم الإجراءات تحمي المتهم أكثر مما تحمي الضحايا.
اقرأ أيضاً: لماذا ما زال التحرش سلوكاً سائداً وكيف يمكن للشركات وقفه؟
يكمن جزء من المشكلة في أن قواعد السرية لا تطبّق وبالتالي فهي لا تستطيع أن تحول دون حصول الردود الانتقامية. فالمتهم والمدّعون عليه يُخبرون أن الشكوى سرية لأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. وغالباً ما يعتقد المتهمون أنهم أحرار في إخبار أصدقائهم، والمدراء الذين يسمعون الشكاوى غالباً ما يُخبرون الآخرين، سعياً وراء الحصول على الدعم أو المؤازرة لصالح المتهم. وبغضّ النظر عن الطريقة التي يُفتضح بها الأمر، فإن أصدقاء المتهم قد ينتقمون. فبعد أن اشتكت نادلة مطعم من أوهايو من التحرش، كشفت المديرة التي اشتكت إليها الفتاة عن الشكوى من زملائها الذين لم يتوقفوا عن إلقاء سيل النكات بحق النادلة.
توصّل مسح شمل عمال فدراليين إلى أن ثلثي النساء اللواتي أبلغن عن المتحرشين بهن تعرضن لاحقاً للهجوم أو الاستهزاء أو لخفض الدرجة الوظيفية أو الطرد.
يتمثّل جزء آخر من المشكلة وبكل وضوح في القواعد المطبقة. فالعديد من الشركات تستعمل معيار "الإثبات الذي لا يرقى إليه شك معقول" لتحديد الذنب، وليس المعيار الأدنى وهو "رجحان الدليل" الذي تستعمله المحاكم في مزاعم التحرش. هذا الأمر يجعل من شبه المستحيل إثبات الذنب دون وجود اعتراف أو شاهد. وحتى لو تبيّن أن المتهم مذنب، فإن السرية تنطبق عموماً على الحكم، وبالتالي يظل الأمر طيّ الكتمان، ولا ينشر تحذير للنساء بالابتعاد عن المتحرش المعني.
ثمة سبب آخر أيضاً ألا وهو التردد في معاقبة المرتكبين. فالشركات تعرض أحياناً نقل الضحايا إلى أقسام أو مواقع أخرى، لكنها وفي أغلب الأحيان لا تنقل المتهم أبداً أو لا تطرده من عمله، لأنها تخشى من لجوء المتهم إلى القضاء. عوضاً عن ذلك هي تفرض عادة المزيد من التدريب. كما أن العديد من الشركات تُبقي الأحكام سرية حتى عن المدعين، الأمر الذي قد يقود إلى نتيجة قبيحة: فالضحية التي "تربح" قضيتها ترى المتحرش بها يسرح ويمرح في أروقة الشركة، وتعتقد أن ذلك يعني أنها قد خسرتها، وتصاب بالاكتئاب أو الإحباط أو الغضب وتقرر ترك وظيفتها.
لكن الضحايا اللواتي تواجهن الانتقام غالباً ما تتركن الشركة قبل اكتمال العملية. هذا ما حصل في سبتمبر/ أيلول 2019، بعد أن اشتكت بروتي غوبتا، إحدى الكاتبات في مسلسل شبكة سي بي إس (CBS) الذي يحمل عنوان (Carol’s Second Act)، من تعرّضها لتصرف غير لائق من أحد المنتجين التنفيذيين في الشبكة، التي كانت قد أعادت النظر للتو في نظام تقديم الشكاوى لديها لتحسين معاملة المدعين. اتخذ قسم الموارد البشرية مقاربة ذات طابع قانوني وصادق على قواعد جديدة للفصل بين المنتجين والكتّاب. تركت غوبتا الشركة، قائلة إنها أُبعِدَت عن العملية الإبداعية بداعي الانتقام. وقد قالت الكاتبة مارغي ماغي التي وقفت إلى جانبها لصحيفة نيويورك تايمز: "كل ما أردناه هو أن يشاهد فيلماً قصيراً عن التحرش لا تزيد مدته على 45 دقيقة. لم يكن أي من هذا يجب أن يحصل".
تُعتبرُ الأدلة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار: فنظامنا الحالي لتقديم الشكاوى يضع الضحايا في ظرف غير مواتٍ بكل وضوح، من خلال قواعد السرية غير القابلة للتطبيق، والتشدد في الاشتراط الخاص بالإثباتات، والعقوبات التي تُبقي المتحرشين في أماكنهم. وعلاوة على ما سبق، فإن الجميع يعلم أن النظام معطوب. وهذا هو السبب الذي يجعل مدراء الموارد البشرية غالباً ما ينصحون الضحايا بعدم تقديم شكاوى – وهو السبب الذي يجعل الدراسات تُظهرُ أن واحدة من كل 10 ضحايا فقط تتقدم بشكوى رسمية. والرسائل التي تستطيعون قراءتها في منشورات تستعمل الوسم (#WhyIDidntReport) (الذي يعني "لماذا لم أبلغ") تخبر القصة كاملة: لن يصدقونني. سيعرضونني لمحاكمة معيبة. المتحرش سينجو بجلده. سيعود للانتقام مني. أصدقاؤه سيعتقدون أنني فعلت شيئاً لأستحق ما حصل لي. لدى المدعين خياران حقيقيان: الإبلاغ عن التحرش ومواجهة العواقب أو عدم الإبلاغ.
الضحية خاسرة في الحالتين.
أنظمة الشكوى البديلة
إذا كان النظام الحالي غير ناجح، كيف بوسعكم أنتم ومؤسستكم أن تحسّنوا الوضع؟ حدّدنا بضعة خيارات جيدة.
مكتب أمين المظالم. هو عبارة عن كيان يقع خارج نطاق سلسلة القيادة المؤسسية ويعمل بصورة مستقلة بهدف البت في شكاوى التحرش. نظام أمين المظالم هو نظام غير رسمي وحيادي وسري بحق – فأمين المظالم هو وحده من يجب أن يعرف بالشكوى. لهذه المقاربة ميزتان بالمقارنة مع النظام الحالي: فهو يسمح للمدعين بتحديد ما إذا كانوا يريدون أن يعلم المتهم بالشكاوى أم لا، وهو يتجنّب جلسات الاستماع القانونية بالكامل.
خذوا مثلاً ما حصل في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، وهو أول صاحب عمل رئيسي في الولايات المتحدة الأميركية يعالج مشكلة التحرش مباشرة. في عام 1973، أنشأت الجامعة مكتباً لأمين المظالم للتعامل مع التحرش والشكاوى المرتبطة به، وبحلول مطلع الثمانينيات كان المكتب يتلقى 500 شكوى في العام. في ثمانينيات القرن الماضي، عندما كان البرنامج قد ترسّخ، طالب أكثر من 90% ممن تقدمن بشكاوى إلى المكتب بإجراءات غير رسمية وسرية؛ فيما قلق 75% من أن الشكوى الرسمية ستقود إلى الانتقام، أو الرفض، أو المعاملة الصامتة من مدرائهن أو زملائهن في العمل أو حتى من أفراد عائلاتهن، وقلن إنهن لا يردن أن يُعاقب المتحرشون. هن أردن للمشكلة أن تتوقف فحسب.
عمل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا مع صاحبات الشكاوى لإعطائهن ما أردنه. ونتيجة لذلك، فإن المعهد اليوم يتلقى الكثير من الشكاوى، والعديد منها يُحَل بما يرضي الضحايا. ووفقاً لماري راو، وهي خبيرة اقتصادية معنيّة بشؤون العمال وأستاذة جامعية متخصصة بالمفاوضات خدمت لمدة 42 عاماً بوصفها مديرة مكتب أمين المظالم في المعهد، فإن أصحاب العمل الذين يريدون بصدق كشف حالات التحرش في مكان العمل ومعالجتها يجب أن يوفروا هذا البديل لأنظمة الشكاوى الرسمية. لماذا؟ لأن الضحايا لا يردن تقديم شكاوى رسمية، كما أن شكوى واحدة فقط من أصل 100 شكوى، كما تقول راو، قادرة على تجاوز عملية التظلم القانونية الصارمة بنجاح. فإذا ما كانت هذه العملية هي الخيار الوحيد، فإن معظم الضحايا ببساطة لن تُفصحن عن أنفسهن.
انتشرت مكاتب أمناء المظالم في أرجاء العالم الأكاديمي، ومكاتب المحاماة، والمؤسسات الإخبارية الرئيسية خلال العقود القليلة الماضية. وإذا ما أرادت هذه المكاتب حل مشاكل التحرش، يجب عليها أن تعلن صراحة أن الموظفين قادرون على مراجعة هذه المكاتب بسرية لتقديم طلباتهم والتعبير عن مخاوفهم. عندما أعلنت جامعة بنسلفانيا أن بوسع ضحايا التحرش استعمال مكتب أمين المظالم الحالي، حصلت قفزة في أعداد الشكاوى والقرارات. لقد أصبحت هذه المكاتب تحظى بشعبية أكبر في بقية أنحاء عالم الشركات الكبرى: 13% من الشركات الأميركية لديها مكاتب من هذا النوع للتعامل مع قضايا تتراوح ما بين التنمر وإنهاء عقود العمل. ومن بين هذه الشركات كل من "أميركان إكسبرس" (American Express)، "ذا تشيز كيك فاكتوري" (The Cheesecake Factory)، و"ماكنزي" (McKinsey)، و"نايكي" (Nike)، و"شيفرون" (Chevron)، و"مارس" (Mars)، و"أوبر" (Uber). فقد أنشأت "ذا تشيز كيك فاكتوري" مكتبها رداً على شكاوى التحرش في 2009. وفي 2017، وبعد أن نشر موظفو "أوبر" مدونة ناقدة حول ثقافة التحرش في الشركة، عيّنت "أوبر" المدعي العام الأميركي السابق إيريك هولدر للتحقيق. أوصى هولدر بإنشاء مكتب لأمين المظالم لتشجيع الموظفين على طرح مشاكلهم، وهذا بالضبط ما فعله مجلس إدارة "أوبر". وقد تسبّب صعود حملة "أنا_أيضاً (#MeToo) بتغيير كاسح في مواقف التنفيذيين من عدم رؤية مشكلة في التشجيع على التحدث بصراحة، بعد أن أدركوا أن معرفة المشاكل أفضل من التظاهر بعدم وجودها.
الجانب الأهم في نظام أمين المظالم هو أنه يضع زمام المبادرة في أيدي الضحايا. فإذا ما أردن ألا يعرف المتهم أنهن يتحدثن، فلا بأس في ذلك – فأمين المظالم يمكن أن يستمع إليهن بسرية وأن يساعدهن على التفكير في الخيارات المتاحة لهن. لا تعقد مكاتب أمناء المظالم جلسات استماع رسمية ولا تخضع لأي قواعد تخص الإثبات، ولا تفرض قيوداً على مناقشة المشكلة مع الآخرين. وعلاوة على ما سبق، فإن تتبع هذه المكاتب للشكاوى بحسب القسم والموقع يسمح لها بتحديد مواطن المشكلة التي تحتاج إلى انتباه وتحذير القادة بشأنها. وهي تتبع الشكاوى بفاعلية أكبر مقارنة مع المسؤولين عن الشكاوى العادية، لأن الموظفات هن من يطرح المشكلة عليها.
ليس إنشاء مكتب لأمناء المظالم بالأمر الصعب. فكل ما تحتاجون إليه هو قواعد أساسية للتعامل مع الشكاوى، يمكن لمسؤول مختص أن يساعدكم في تصميمها، والعمل وفق المبادئ الإرشادية للجمعية الدولية لأمناء المظالم. (نصيحة: يجب أن تكونوا صريحين بخصوص حقيقة أن أمين المظالم سوف يساعد في التصدي للتحرش). وبوسعكم أيضاً الاستعانة بإحدى الشركات الناشئة في وادي السيليكون التي تقدم أنظمة لتقديم الشكاوى عبر الإنترنت. إحدى هذه الشركات هي "تي إيكويتابل" (tEQuitable)، التي تدير مكتباً افتراضياً لأمناء المظالم. وبوسع أصحاب العمل الاشتراك في هذه الخدمة السرية التي تتيح لموظفيهم الحصول على نصائح مكتوبة عن طريق الإنترنت. فإذا ما احتاجوا إلى خدمات إضافية، فإن الشركة تتيح لهم خبراء مدرّبين، لكنها ترسل إحصائيات مجمّعة إلى التنفيذيين ما يسمح لهم بتحديد البقع الساخنة. وتفعل مكاتب أمناء المظالم في الشركات الشيء ذاته.
فض النزاعات طوعياً
إذا ما أردتم حلاً بديلاً يقع ما بين إجراءات تقديم الشكاوى الرسمية ومكتب أمين المظالم، بوسعكم اعتماد نظام لفض النزاعات يقوم على مبدأ الوساطة. في هذا النموذج، يستمع الوسطاء إلى الشكاوى ويبلغوا المتهم، ويحاولون العثور على الحلول التي ترضي الطرفين. ويلجأ بعض أصحاب العمل إلى الوسطاء المختصين؛ في حين توفّر شركات أخرى التدريب لبضع موظفين لديها ليؤدوا هذه المهمة. هذا النظام قائم على قدر أقل من العدائية مقارنة مع الإجراءات ذات الطابع القانوني لتقديم الشكاوى. وهذا ما يناسب الضحايا غالباً، ولاسيما أن العديد منهن ببساطة يريدن من المتحرش أن يتوقف عن فعلته. لكن الضحية يجب أن تشعر بالارتياح إلى فكرة كشف هويتها أمام المتهم، ويجب أن يلتزم الطرفان بالتوصل إلى حل. من الواضح أن هذه المقاربة لا تنجح في معظم حالات التحرش الشائن والفاضح، التي يكون الحل المنطقي الوحيد فيها هو طرد المرتكب.
لطالما بذلت شركة البريد الوطني الأميركية جهداً لافتاً في مجال فض النزاعات التي تخص شكاوى التمييز والتحرش. فقد جرّبت لفترة طويلة اللجوء إلى خدمات الوسطاء المتخصصين، ثم درّبت الموظفين لاحقاً ليؤدوا المهمة بأنفسهم. وقد نجح الخياران نجاحاً ملحوظاً.
وإليكم الطريقة التي يعمل بها نظام شركة البريد الوطني الأميركية: فبعد أن يقدّم المدعي أو المدعية شكواهما ويطلبان الوساطة، يُشترط على المتهم أن يحضر اجتماعاً مبدئياً مع الوسيط، الذي ينضم إليه في بعض الحالات ممثل لنقابة العمال بصفة وسيط مساعد. مشاركة المدعي طوعية تماماً، ويمكن للمتهم أن يختار الخروج من عملية الوساطة بعد الاجتماع المبدئي. يُحدد موعد جلسات الوساطة في غضون أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع وهي تستمر عادة ما بين ثلاث ساعات إلى أربع ساعات. معظم المشاركين يرتاحون إلى سير هذه الجلسات. وقد استطلعت شركة البريد الوطني الأميركية آراء جميع المشاركين فيها بعد خروجهم منها ودون أن تفصل بين المدعين والمتهمين على أساس مبدأ فض النزاعات القائم على عدم خضوع أي طرف للمحاكمة. وقد أظهرت هذه الاستطلاعات أن أكثر من 90% من المشاركين راضون عن حيادية وسيطهم وعن الطريقة التي عوملوا بها خلال العملية، و60% على الأقل راضون عن النتيجة. قاد هذا النظام البديل إلى تراجع على مدى أربع سنوات بأكثر من 30% من شكاوى التمييز والتحرش الرسمية.
التحكيم الإلزامي هو الصيحة الشائعة في وادي السيليكون وفي وول ستريت هذه الأيام. يعود السبب في ذلك إلى أنه الوسيلة الفضلى لحماية الشركات من التعرض للمقاضاة.
تتمثل ميزة فض النزاعات طوعياً في أن المدعين قادرون على أن يقرروا في اللحظات الرئيسية في العملية ما إذا كانوا يريدون المضي قدماً فيها أم لا. فبعد انطلاق العملية، وإذا ما شعروا أن المتهم لا يتعاون بنية طيبة، أو أن الشكوى يجب أن تعالج بطريقة ذات طابع أكثر قانونية، فإنهم يستطيعون الانسحاب وتقديم شكوى رسمية.
خيار ينبغي تجنبه
التحكيم الإلزامي هو الصيحة الشائعة في وادي السيليكون وفي وول ستريت هذه الأيام. وعندما يتبنّى صاحب عمل التحكيم الإلزامي، فإن جميع الموظفين الحاليين والموظفين الجدد يُطلب منهم التوقيع على التخلي عن الحق في المقاضاة في أي نزاع يخص التوظيف، بما في ذلك مزاعم التحرش. وفي مقابل ذلك، يُوعدون بأن أي طلب يقدمونه سوف يخضع لمراجعة مستقلة على يد محكّم خارجي سيستمع إلى كلا طرفي النزاع وسيُصدر حكماً ملزماً.
قد يبدو ذلك أشبه بفض النزاعات، لكنه أبعد ما يكون عن ذلك. فتوقيع عقد التحكيم يعني الموافقة على إبقاء النزاع سرياً، والالتزام بقرارات المحكمين، والامتناع عن نقل النزاعات الخاصة بالتوظيف إلى أروقة المحاكم. فإذا ما شعر الضحايا أن التحكيم لا يعطي النتيجة المرجوة، فإنهم لا يستطيعون الرجوع إلى نظام رسمي لتقديم الشكاوى. كما أنهم لا يختارون المحكم، ما قد يضعهم في ظرف غير مواتٍ: فبما أن المحكمين يأملون أن تستعين الشركة بخدماتهم مجدداً، فإنهم قد يتلكؤون في توجيه الاتهام إليها بارتكاب خطأ جسيم. فإذا ما كان محكم قد أمر مؤسسة تمتلك سلسلة مستشفيات في كاليفورنيا بدفع مبلغ 168 مليون دولار إلى إحدى ضحايا التحرش، كما فعلت محكمة فيدرالية عام 2012، فهل ستظل هذه المؤسسة تستعين بخدمات هذا المحكم مستقبلاً؟
في 2018، أصدر المجلس التشريعي في ولاية نيويورك قراراً قال بموجبه إن أصحاب العمل ليس بمقدورهم أن يفرضوا على الموظفين التوقيع على التنازل عن حقهم في المقاضاة بموجب قانون الحقوق المدنية، واعتبر التحكيم الإلزامي أمراً غير قانوني. لكن قاضياً فدرالياً ألغى هذا القرار في 2019. وبالتالي فإن التحكيم الإلزامي يظل قانونياً، بينما عدد الشركات التي تشترطه في تصاعد. وبحسب تقديرات حديثة، فإن أكثر من خُمس العاملين في القطاع الخاص باتوا الآن خاضعين لشروط التحكيم الإلزامي.
بيد أن الموظفين يحاولون مقاومة هذا الاتجاه. في أواخر 2018، استقال 20 ألف موظف في جوجل احتجاجاً، فردّت الشركة بالموافقة على إنهاء العمل بالتحكيم الإلزامي في حالات التحرش. بعدها وفي مطلع عام 2019، أنهت الشركة كل أشكال التحكيم الإلزامي. وربما تدفع هذه الخطوة الشركات الأخرى إلى أن تحذو حذوها. لكن التحكيم الإلزامي وحتى الآن هو الخيار الوحيد من بين الخيارات الثلاثة المذكورة أعلاه الذي حظي بالشعبية. ولا يعود السبب في ذلك إلى أنه يخدم مصالح الضحايا، وإنما لأنه يعتبر الوسيلة الأفضل لحماية الشركات من التعرض للمقاضاة.
فهل سيثبت أي من هذه البدائل نفسه إذا انطوي على وعد بتحقيق نتائج أكبر؟ طالما أن المحاكم تشترط وجود إجراءات لتقديم الشكاوى، فإن الشركات لن تتخلص منها لصالح هذه البدائل. ولا بأس في ذلك، لأن الضحايا يجب أن يكون لديهم دائماً نظام رسمي متاح لتقديم الشكاوى كملاذ أخير. لكن الجميع سيكون أفضل حالاً بكل تأكيد إذا ما قُدّمت معظم شكاوى التحرش عبر مكتب أمين مظالم مباشر أو افتراضي أو عبر نظام لفض النزاعات.
تغيير الثقافة
تعالج التغييرات التي نقترحها عيوب برامج مكافحة التحرش التي دعمتها المحكمة العليا في أميركا في 1998. لكن التقليل من التحرش سيحتاج إلى أكثر من ذلك. فهو سوف يستدعي تغيير ثقافة مؤسستكم بحيث تصبح مكافحة التحرش جزءاً من رسالتكم. وسوف تكونون بحاجة إلى إشراك أكبر عدد ممكن من الموظفين في هذا المجهود، وإنشاء أنظمة محاسبة تشرك الجميع في عملية الإشراف.
ثمة أدوات ثلاث توفّر طرقاً واعدة لفعل ذلك: برامج تدريب المدربين التي تحوّل الموظفين إلى خبراء في مجال التحرش؛ وفرق العمل المتخصصة بموضوع التحرش التي توكل إلى موظفيها مسؤولية تشخيص المشاكل وتصميم الحلول؛ والأرقام المنشورة علناً بحيث يكون بمقدور الجميع تتبع التقدم المحرز.
برامج تدريب المدربين
عادة ما يميل الموظفون الذين يتطوعون للحصول على التدريب كمدربين في مجال التحرش إلى أن يصبحوا قادة ملتزمين بتغيير الثقافة. وهذه المقاربة أقل تكلفة بالمقارنة مع الاستعانة بمدربين خارجيين، كما أنها أكثر فاعلية من غيرها من الدورات الشكلية التي تقدم عبر الإنترنت. وقد باتت تحظى بالمزيد من الاهتمام وهذا اتجاه واعد للغاية. يستعمل فريق شارين بوتر في جامعة نيوهامبشير نموذج تدريب المدربين لمعالجة موضوع الاعتداءات والتحرش في الكليات الجامعية. وطوّرت جامعة ميشيغان نموذجاً دقيقاً كجزء من تدريبها الخاص بتوظيف أشخاص من خلفيات متنوعة. كما تبنّت القوات الجوية الأميركية نموذجاً لتدريب المدربين يهدف إلى التعامل مع الاعتداءات، وحالات العنف الأسري بين صفوف جميع منتسبيها. وسواء درّبتم 10 مدربين أو 1,000 مدرّب، فإنكم تكونون بذلك قد أنشأتم مجموعة من الخبراء الملتزمين بالتغيير. ولكنكم إذا استعنتم بمؤسسة لتدريب المدربين، فإنكم يجب أن تختاروها بعناية: فبعض الناس مازالوا يُمضون معظم وقتهم في دراسة المنهاج الفاشل المتعلق بالسلوكيات الممنوعة.
تكمن ميزة إنشاء فريق عمل لمكافحة التحرش في أن ذلك يسمح بتفصيل الحلول وفقاً لاحتياجات شركة معيّنة.
فرق العمل المتخصصة بمكافحة التحرش
عندما أجريناً بحثاً متعلقاً ببرامج التنوع وبرامج مكافحة التحرش تحديداً، اكتشفنا أن إنشاء فريق عمل هو الطريقة الفضلى لتحسين التنوع في مكان العمل. كما أنها تَعد بالمساعدة في التقليل من التحرش من خلال إشراك عدد أكبر من الموظفين. فقد يوكل رئيس تنفيذي إلى فريق عمل متخصص مهمة مكافحة التحرش ويطلب من رؤساء الأقسام الانضمام إليه أو إرسال مندوب عنهم. بوسع فريق العمل مراجعة بيانات الموارد البشرية المتعلقة بالشكاوى من التحرش، وإجراء مقابلة مع الموظفين في أرجاء الشركة بخصوص تجاربهم، ودراسة بيانات الشركة المتعلقة بأنواع العاملين الذين يتركونها، وأكثر من ذلك. وبعد أن يكون الأعضاء قد عرفوا المشاكل المحددة الموجودة في الشركة، بوسعهم ممارسة العصف الذهني لإيجاد الحلول وطرحها في أقسامهم. فلربما قرروا أن فرق العمل يجب أن تُمزَج بحيث لا تكون أعداد الرجال أكثر من أعداد النساء على الأغلب. ولربما يقررون أن الشركة بحاجة إلى إشراك عدد أكبر من النساء في عملية التوظيف أو إشراك عدد أكبر من الرجال في التدريب على مكافحة التحرش.
يكمن جمال هذه المقاربة حول برامج مكافحة التحرش في أنها تسمح بتفصيل الحلول وفقاً لاحتياجات شركة معيّنة. ومن هو أفضل لوضع تصوّر لهذه الحلول من الناس الذين يعرفون مكان العمل والثقافة؟ وما أفضل طريقة لتحقيق التواؤم بين المدراء والموظفين فيما يخص هدف القضاء على التحرش من وضعهم ضمن فريق العمل؟ هذا واحد من الدروس المستفادة من المبادئ الأساسية لعلم النفس: الطريقة الفضلى لكي تكسب الناس إلى صف قضيتك هي أن تطلب منهم المساعدة في التعامل معها.
الأرقام المنشورة
هناك قول مأثور يجب أن نردده "ليس بوسعك أن تدير ما لا تستطيع قياسه" – أو في هذه الحالة "ما لا تقيسه".
إذا نشرتم البيانات التي تكشف مشكلة ما، فإن المدراء سيركزون عليها، وحل المشكلة سيصبح جزءاً من الثقافة. كانت "أوبر" تتصرّف وفقاً لهذا المبدأ عندما نشرت عدد حالات الاعتداءات التي زُعِمَ أنها قد حصلت في مركباتها في 2018. كما تصرّفت شركات التكنولوجيا وفق هذا المبدأ من خلال نشر بيانات التنوع بين صفوف قواها العاملة، ونشرت "إنتل" (Intel) مؤخراً البيانات الخاصة بأجور الرجال والنساء وذوي البشرة البيضاء والملونين فيها. وكان إيميليو كاستيلا من كلية سلون للإدارة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا قد أجرى أبحاثاً تعتمد على أحدث ما توصّل إليه العلم من تقنيات تبيّن فاعلية هذه المقاربة عندما يتعلق الأمر بالأجور. بمقدور مكتب أمين المظالم لديكم نشر أعداد الشكاوى، مقسمة بحسب الإدارات المختلفة. وبوسع استطلاع سنوي للموظفين أن يُظهر المشاكل الموجودة بحسب القسم والموقع. فمعظم المدراء ليست لديهم فكرة عن أداء أقسامهم في هذا المجال، لأن الموظفين نادراً ما يتقدمون بشكاوى رسمية. وبالتالي فإن إلقاء الضوء على مكامن المشاكل يسهم في تغيير الثقافة.
سُمِح للمحاكم ولفترات طويلة جداً أن تُملي على الشركات كيف تتعامل مع التحرش. لكن معدلات التحرش لم تتغير لعقود على الرغم من تطبيق برامج مكافحة التحرش لديها. ويشير العمل الذي أنجزناه نحن وآخرون إلى أننا لا نستطيع حل المشكلة من خلال وصم كل الرجال في جلسات التدريب أنهم "متحرشون محتملون" أو من خلال إجبار الضحايا على التعامل مع نظام للشكاوى مصمّم للحيلولة دون ملاحقة المتهم عبر القضاء. يشير البحث إلى أن أكثر الخطوات فائدة هي تصميم برنامج تدريبي يعامل كل العاملين على أنهم حلفاء للضحايا، ويمنحهم أدوات لحل المشاكل، وتصميم نظام للشكاوى يوفر للضحية العادية استجابة سريعة لا تقود إلى رد انتقامي.
لكننا في نهاية المطاف بحاجة إلى برامج مكافحة التحرش وإلى تغيير ثقافات الشركات بهدف إشراك المزيد من الموظفين في حل المشكلة. فالثقافة في نهاية المطاف هي من صنع القادة. وهم يجب عليهم أن يتحملوا مسؤولية المشكلة علناً، وأن يحاولوا حلها ضمن فرقهم، بحيث يضربون مثالاً يحتذى لجميع المدراء. وقد تساعد زيادة أعداد المديرات والتنفيذيات أيضاً، لأن النساء أقل ميلاً إلى إبداء ردود أفعال سلبية على التدريب، وأكثر ميلاً إلى تصديق الضحايا اللواتي يبادرن إلى الشكوى. فقد يشجع ذلك الضحايا على البوح علناً ويزيد من احتمال رضاهن عن عملية تقديم الشكوى.
اقرأ أيضاً: كيف جعل القضاة والموارد البشرية انتصار ضحايا التحرش الجنسي في المحاكم صعباً؟