إن فكرة الحفاظ على صحة الموظفين ليست جديدة، بيد أنها لم تكن على الدوام صناعة برأسمال يبلغ 8 مليارات دولار والقاعدة فيها أن يدعم أصحاب العمل الحصول على عضويات في مراكز اللياقة البدنية وفصول التأمل والوجبات الغذائية مالياً. في عام 1864، قُنن "قانون سلامة عمال المناجم في بنسلفانيا" (Pennsylvania Mine Safety Act) رسمياً، وهو قانون كان بمنزلة وعد لعمال المناجم في بنسلفانيا للحصول على الحد الأدنى من التهوية بما يساعد في الحيلولة دون إصابتهم بمرض الرئة السوداء "Black Lung"، كما كان بداية انطلاق تشريعات الصحة المهنية في الولايات المتحدة الأميركية. بعد ذلك ببضع سنوات، وضعت ولاية ماساتشوستس خطة أكثر استباقية قيد التنفيذ، وبذلك أصبحت أول ولاية تضع برنامجاً للتفتيش على المصانع . وبحلول عام 1891، استوعبت الحكومة الاتحادية المشكلة، حيث أصدرت تشريعات تقضي بتوفير الحد الأدنى من متطلبات التهوية في المناجم في جميع أنحاء البلاد، كما حظرت على المشغلين تشغيل الأطفال دون سن 12 سنة.
ومنذ ذلك الحين، وعلى وجه الخصوص في الخمسين سنة الماضية، اتسع نطاق الحوار حول المحافظة على صحة العاملين في مكان العمل توسعاً كبيراً مع تحول الاقتصاد من التوجه الصناعي إلى التوجه الرقمي. فهناك عدد قليل من الوظائف التي تشكل تهديدات يومية على الصحة البدنية للعاملين وسلامتهم، ولكن لا يزال شبح الإجهاد المزمن يخيم علينا جميعاً. ويتزايد عدد أصحاب العمل الذين يركزون على أهمية الصحة العقلية تزايداً مطرداً عبر أنحاء العالم، باعتبار أن مشاكل الصحة العقلية هي السبب الرئيس للإصابة بالإعاقة والأمراض. كما أظهرت البحوث التي أجريت مؤخراً أن ثقافة مكان العمل هي أكبر عقبة يواجهها الموظفون في جهودهم الرامية إلى تحسين صحتهم وزيادة سعادتهم. وعلى الجانب الآخر، فإن رفض التعامل مع تلك المشكلات أمر مكلف. ففي الولايات المتحدة، هناك واحد من بين كل خمسة أشخاص بالغين يعاني من مشكلات تتعلق بالصحة النفسية كل سنة، وهو ما يكلف الشركات خسارة تقدر بـ 200 مليون يوم عمل، بالإضافة إلى 200 مليار دولار.
نتيجة لذلك، فإن الكثير من أصحاب العمل لم يعودوا يوفرون تأمينات صحية ويمتثلون لنظم ولوائح السلامة فحسب؛ بل إنهم أيضاً يعكفون على استكشاف طرق لبناء بيئات داعمة قائمة على فكرة "الأمان النفسي" وتحسين رفاهة الموظفين بمجموعة كبيرة ورائعة من المزايا التي يُشار إليها في العادة باسم "برامج الحفاظ على الصحة". (وهنا يتبادر إلى الذهن على الفور مساحات اللعب الجميلة، وغرف الاجتماعات المخصصة، وتقديم الوجبات الخفيفة بناء على بيانات الموظفين في المكاتب العالمية لجوجل.)
في ضوء هذه التوجهات، وجهت صناعة رفاهية المستهلكين والحفاظ على صحتهم كل اهتمامها نحو تحقيق ذلك. فقد حولت العديد من الشركات التي توفر المنتجات والخدمات السائدة في مجال الحفاظ على الصحة نماذج أعمالها، حيث توسعت لتكون شركات عملاقة توفر مزاياها لمختلف الشركات والمؤسسات بدلاً من علامات تجارية قائمة على العلاقة المباشرة بالمستهلك. فمثلاً تبيع شركة "هيد سبيس" (Headspace)، المصممة لتطبيق "هيد سبيس فور ورك" (Headspace for Work)، اشتراكات مجمعة في تطبيقها الرائج هذا المخصص لممارسة التأمل الرائج الخاص بها إلى الشركات في جميع أنحاء العالم، وكلها فخر بأن تقدم لأصحاب الأعمال وعداً ذي أهمية رغم بساطة فحواه: "موظفون أكثر سعادة، وأعمال أكثر نجاحاً". كما قدمت شركة "فيتبيت هيلث سولوشنز" (FitBit Health Solutions) وعوداً تتسم بمزيد من الوضوح والصراحة ، قائلة: "يُدرك قادة الشركات عبء تكاليف الرعاية الصحية المتزايدة على شركاتهم وعلى موظفيهم". ثم أعلنت عن "الأخبار السارة" في صورة ترويج للمبيعات، مصرحة: "الاستثمار في برامج الحفاظ على الصحة في الشركات ... صفقة جيدة".
هذه الشركات ليست مخطئة في تصريحاتها. فمن مناجم الفحم إلى قاعات الاجتماعات، دوافع أصحاب العمل غاية في البساطة: الحفاظ على صحة العاملين يعني خفض التكاليف التي تقع على عاتق الشركة.
ولكن مجرد اعتبار هذه البرامج إيجابية بالنسبة لنتائج الأعمال لا يعني أن غرضها الأساسي تحسين الحياة اليومية للموظفين. فبالنسبة للموظفين المحتمل تعيينهم، مراجعات الخمس نجوم التي تجريها شركة "غلاس دور" (Glassdoor) والتي تشير فيها إلى امتيازات من قبيل الحصول على سلطة الكرنب المجانية وجلسات تدليك في مواقع الشركات، تبرز من بين بقية المراجعات وكأنها نجوم متلألئة. بيد أن هذه المزايا تبدو بالنسبة للموظفين وكأنها صفقة ضمنية. فمثلاً علي، أحد الذين أجريت مقابلات معهم ويعمل مصمماً ومبرمجاً ويعاني من اضطراب ثنائي القطب، يعمل في شركة توفر للعاملين فيها مجموعة كبيرة من مزايا الحفاظ على الصحة مثل فعاليات الطهي (وتشمل تقديم الكعكات اللذيذة!) وجلسات اليوغا الأسبوعية في فترة ما بعد الظهيرة. وقد قال لي في المقابلة: "تؤكد نشرات الشركة على أن هذه الأشياء القصد منها معادلة التوتر الناتج عن العمل، وفي الوقت نفسه العمل بشكل مباشر على تعزيز فكرة أن التوتر الناتج عن العمل هو النتيجة الثانوية الملازمة لاعتبارك شخصاً بارعاً ومُجداً في عملك؛ فهذه الأشياء تأتي في العادة وكأنها رشاوى سخية لتعويض التوقعات الشاقة التي يتطلبها إنجاز الأعمال".
في الوقت الحالي هناك ما يزيد على 9 من بين كل 10 مؤسسات عبر العالم توفر لموظفيها نوعاً واحداً على الأقل من مزايا الحفاظ على الصحة، كما أن هناك ما يزيد على 3 من بين كل 5 مؤسسات تخصص "ميزانيات للحفاظ على الصحة"، ومن المتوقع أن تزداد بنسبة 7.8% في السنوات القادمة. ولكن السؤال هنا هل هذه المزايا هي حقاً ما نحتاج إليه لنشعر بأننا أصحاء ومرتبطين بالعمل وأننا نتلقى الدعم اللازم؟ وهل يضع أصحاب العمل مصالحنا الفضلى في حسبانهم، أم أنهم يركزون في الغالب على كسب ميزة تنافسية وحماية سمعتهم (وفي بعض الحالات، الحفاظ على صافي إيرادات الشركة)؟
أنا شخصياً لستُ مقتنعة أن جلسات اليوغا وقت الغداء ومزيج المكسرات التي نحصل عليها هي الترياق الشافي لوبائنا العالمي المتمثل في التوتر والإنهاك الشديد الناجمين عن العمل. وما نزال لم نتوصل إلى قرار بعد بشأن ما إذا كانت برامج الحفاظ على الصحة في مكان العمل وما تنطوي عليه من اهتمام كبير نوليه لها (وأموال ننفقها عليها) مفيدة حقاً لصحتنا. فقد وجدت دراسة أجريت حديثاً على أكثر من 30 ألف موظف في مستودع أميركي أن أولئك الموظفين الذين يحصلون على برامج الحفاظ على الصحة في مكان العمل لم توجد لديهم أي فروقات كبيرة فيما يتصل بالغياب والإنفاق على الرعاية الصحية أو الأداء الوظيفي بما يختلف عن أولئك الذين لم يحصلوا على برامج الحفاظ على الصحة، على الرغم من أنه تَبين بالفعل أن هناك ارتفاعاً في معدلات بعض السلوكيات الصحية لديهم، مثل المشاركة في التمارين الرياضية بانتظام.
في واقع الأمر، أشارت دراسة أخرى أجريت مؤخراً أن عروض الشركات فيما يتصل بالحفاظ على الصحة قد يكون لها صدى أكبر لدى الموظفين الذين يتمتعون بصحة جيدة بالفعل، بل وأن أولئك الذين يعانون من مشاكل صحية في الأساس، سواء كانت عقلية أو جسدية، ينفرون منها. لنأخذ في الاعتبار أن 97% من الشركات الأميركية الكبيرة (أكثر من 5,000 موظف) تقدم برامج مساعدة الموظفين للعاملين فيها الذين يسعون للحصول على الدعم والمساندة من أخصائي صحة نفسية. وبالنظر إلى زيادة انتشار مشاكل الصحة النفسية في الولايات المتحدة، فقد تفترض أن الموظفين يحسنون استخدام المزايا التي توفرها لهم برامج مساعدة الموظفين. ومع ذلك، فإن تقريراً حديثاً حول توجّهات برامج مساعدة الموظفين يُظهر أن 6.9% فقط من الموظفين يستخدمون هذه البرامج بالفعل.
ويرجع هذا بشكل جزئي إلى غياب التثقيف بشأن موارد الصحة النفسية المتاحة. وبصفتي مستشارة تسويق عَملتُ لدى مجموعة كبيرة ومتنوعة من الشركات المتخصصة في مجال الحفاظ على صحة العاملين عبر أسواق كل من المستهلكين والشركات، بما في ذلك شركة متخصصة في مجال الرعاية الصحية السلوكية الرقمية، فإنني أعرف من خلال التعامل مع كلا الجانبين أن تعزيز الامتيازات المكتبية الجذابة، مثل توفير الساعات السعيدة "فترة تُقدَّم فيها المشروبات مجاناً" وتقديم شاي الكمبوتشا الجاهز، أيسر على الشركات من اتباع الطرق البيروقراطية والملتوية في تقديم الرعاية الصحية السلوكية. وبالنسبة للأشخاص الذين يعانون من مشاكل صحية عقلية، فإن التركيز غير المتناسب على مزايا الحفاظ على الصحة يمكن أن يكون أمراً غير ملائم في أفضل الظروف، ودافعاً للتعرض لمزيد من الألم في أسوأ الظروف.
أخبرتني زينب، وهي كبيرة طهاة سابقة في أحد المراكز المشهورة على مستوى العالم للاستجمام واسترداد العافية: "الوظيفة الوحيدة التي عملت فيها والتي من المفترض أنها تعزز الحفاظ على الصحة عاملتني أسوأ معاملة عندما كنت في أدنى حالاتي الصحية". فقد كان المركز يتيح للموظفين الاشتراك مجاناً في صالة الألعاب الرياضية ويقدم خصومات على العلاج في المنتجعات وجلسات خاصة مع أخصائي في التغذية ووجبات غذائية، بيد أن الحصول على إجازات لدواعي الحفاظ على الصحة النفسية، مهما كان طول تلك الإجازات، كان أمراً خارج النقاش تماماً. كانت زينت تعاني من اضطراب ثنائي القطب، وعندما احتاجت إلى العلاج في المستشفى لمدة ثلاثة أسابيع بعدما تعرضت لما وصفته بأنه "انهيار عصبي"، فُصلت من وظيفتها بدعوى أنه فاتها الكثير من العمل.
ليست قصة زينت سوى مثال واحد على ما يمر به العديد من الموظفين في مكان العمل. فخلال فترة عملي في شركة للحفاظ على الصحة، وبينما كنت أعاني من آثار مرض فقدان الشهية، دعا الفريق القيادي في الشركة أحد المتخصصين إلى مكتبنا للتحدث حول فوائد الصيام المتقطع. على الرغم من أنني لم أكن أقيد عدد السعرات الحرارية التي أتناولها، كنت أركز اهتمامي على استعادة نظامي الغذائي، وكنت ألوم نفسي بصفة مستمرة على "استسلامي" للجوع. وبينما كنت أستمع إلى المتحدث، شعرتُ بالخجل من نفسي؛ فقد ظهرت أعمق مخاوفي على السطح من جديد، ونتيجة ذلك جوّعت نفسي بقية اليوم.
وبتأمل ما حدث، فإنني أتفهم أن الشركة اعتبرت أن الاستعانة بخبير في الصحة ميزة حقيقية. وحتى في ذلك الوقت كنت أتفهم ذلك. ومع ذلك، فإن الموظفين، مثلي ومثل زينب وعلي والكثيرين غيرنا، يحتاجون إلى الدعم، وليس إلى تعليمات وتوصيات، عندما يكونون في أكثر أوقاتهم ضعفاً وهشاشة.
في حين أنه ليس هناك حلاً وحيداً لهذه المشكلة، إلا أن هناك خطوات متعددة يمكننا اتخاذها، على مستوى المؤسسات و الأفراد على حد سواء، لجعل مكان العمل مكاناً يتسم بالإنسانية والتعاطف؛ مكاناً يستطيع الأفراد فيه أن يكونوا على طبيعتهم وأن يتقبلوا ذاتهم بشكل كامل، وأن يواجهوا التحديات المتعلقة بصحتهم النفسية، وغير ذلك من الأمور ذات الصلة. ومع ترسيخ الثقة في جوهر العلاقة بين أصحاب العمل والموظفين، فإن برامج الحفاظ على الصحة يمكن أن تتحول من مجرد مظاهر براقة إلى عناصر حقيقية في نظام إنساني متكامل.
تستثمر المؤسسات في مجال التوعية بالصحة النفسية وتضع سياسات مرنة فيما يتصل بمكان العمل.
تعتمد الكثير من المؤسسات على التصريحات الطنانة لبناء "قيم الفريق" وتشجيعها، سواء من خلال الاجتماعات الشاملة لجميع الموظفين، أو من خلال رسائل البريد الإلكتروني والفعاليات على مستوى الشركة. وفي حين أن زيادة أعداد أصحاب الأعمال الذين يتحدثون عن الصحة النفسية في العمل أمر إيجابي على وجه العموم، إلا أن الإقرار بأهمية الصحة النفسية في العمل ليس كافياً لجعل الأشخاص يشعرون بالأمان للتصريح عما لديهم من صراعات ومشاكل، كما أنه لا يقدم لهم التوعية بشأن الأشخاص الذين يمكنهم التحدث معهم، وكيفية طلبهم للمساعدة، وما هي الموارد المتاحة لهم. والأمر بالمثل بالنسبة إلى القادة؛ حيث أنه لا يوفر لهم الإعداد اللازم لإجراء تلك المحادثات إذا اختار أحد الموظفين الوثوق بهم والتحدث إليهم.
التوعية بالصحة العقلية
تستطيع الشركات من خلال التوعية بالصحة العقلية تثقيف موظفيها على جميع المستويات حول كيفية صياغة التعبيرات التي يستلزمها طلب الدعم العاطفي وتقديمه. ويُظهر الاستثمار في هذه الأنواع من المبادرات كذلك الرغبة الجماعية للمؤسسات في التغير والنمو بغرض توفير دعم أكبر وأفضل لاحتياجات الموظفين.
تقول الدكتورة مونيكا ورلين، الباحثة العلمية في مركز جامعة ستانفورد لتعليم وبحوث التعاطف والإيثار: "قد يصرح القادة أنهم يُقدّرون قيمة التوعية بالصحة العقلية لأنهم يريدون أن يقدروا قيمتها حقاً. بيد أنهم لا يعرفون في العادة ما يتعين عليهم فعله بخلاف هذا التصريح، وهكذا يمكن أن يبدو الأمر وكأنهم لا يملكون سوى الكلمات".
إنما "القول" دون أن يعقبه "فعل" هو نتاج ثانوي محتمل للجهل، حتى بالنسبة لأولئك الذين يحملون أفضل النوايا. وهذا الجهل لا يرسخ فحسب نظرة تقليدية اجتماعية واسعة النطاق للصحة العقلية، وإنما أيضاً يخلق ثقافة حيثما يشعر كل من المديرين والموظفين بأنهم عديمو الحيلة تجاه توفير الدعم أثناء المحن العاطفية، بل وحتى تحديد هذه المحن العاطفية ومعرفتها.
السياسات المرنة في مكان العمل
من الناحية الهيكلية، يمكن للسياسات والمزايا المرنة أن تمنح الموظفين حرية اتخاذ خيارات مستقلة تعزز صحتهم العقلية. فقد وجدت الدكتورة وورلين وزميلتها الدكتورة جين داتون، أستاذة الأعمال وعلم النفس في كلية روس لإدارة الأعمال التابعة لجامعة ميشيغان، في البحث الذي أجرياه أن أداء الموظفين ورفاههم يزدهر في البيئات التي تتسم بالمرونة فيما يتصل بمكان وزمان إنجاز العمل. حيث قالت لي الدكتورة جين داتون: "هذه البيئات تتيح للموظفين التكيف مع ظروفهم، سواء فيما يتصل بالصحة العقلية أو أي تحديات أخرى تحدث في حياتهم".
في حين أن تخصيص سياسات متعلقة بالإجازات المَرضية وحالات الوفاة أمر شائع، إلا أن معظم أماكن العمل لا تيسر على الموظفين الحصول على الإجازات المدفوعة الأجر (بل وحتى غير المدفوعة الأجر). تقول الدكتورة وورلين: "إمكانية الحصول على تلك الإجازات أمر في غاية الأهمية لأنها تعطي الأشخاص المساحة التي يحتاجون إليها لإدارة التحديات الكبرى ذات الصلة بصحتهم النفسية" . لذا يتعيّن على المديرين ومتخصصي الموارد البشرية، في سبيل التأكد من إدراك الموظفين لهذه المزايا، منح الأولوية لجعل تلك السياسات ملموسة وواضحة. علاوة على ذلك، يمكن للمؤسسات إبداء دعمها من خلال مشاركة قصص هؤلاء الذين يستخدمون تلك المزايا. وبحسب الدكتورة داتون، فإن القيام بهذا من شانه أن يجعل الآخرين يشعرون بالراحة تجاه قيامهم بالشيء نفسه.
أيها القادة، أظهِروا تعاطفكم
ربما يبدو هذا الأمر بسيطاً للغاية. على أية حال، لا يتطلب التواصل مع الآخرين إجراء تعديلات في دليل السياسات، كما أنه لا يُنتِج بيانات قيّمة لموردي المزايا التي تقدمها الشركات.
بيد أن تعاطفك في العمل يحقق "نتائج" على صعيد رفاهية الأفراد ونتائج الأعمال المرجوة. تُظهر البحوث أنه عندما يقدم القادة الدعم للموظفين في الأوقات العصيبة ويغرسون روح التعاطف في العمل، فإنهم يعززون المشاعر الإيجابية والثقة بين العاملين، فتلك الثقة في القادة لا تحسن أداء العاملين فحسب، بل إنها أيضاً تساعد الموظفين على الشعور بالأمان حيال التحدث بصراحة مع مديريهم بشأن التحديات والمشكلات الشخصية التي تواجههم. وبحسب الدكتورة داتون، فإن ثقافة كهذه تشجع العاملين على "تسخير إمكاناتهم وهباتهم بالكامل لإنجاز العمل، بالإضافة إلى مواجهة نقاط ضعفهم التي من الحتمي وجودها.
علاوة على ذلك، فإن الموظفين الذين يعملون في بيئات تتسم بإبداء التعاطف ، يكونون أكثر ابتكاراً وقدرة على التكيف، كما أن أعمالهم تتميز بأنها أكثر جودة واتساقاً. وعلى المدى الطويل، تَبين أن التعاطف يساعدالمؤسسات على جذب عامليها الأكثر موهبة ومهارة والاحتفاظ بهم. فهو نهج قائم على تحقيق النفع للطرفين، من حيث الحفاظ على الصحة العقلية للموظفين و نجاح المؤسسة على حد السواء.
هناك طريقة بسيطة (بيد أنها ليست سهلة على الدوام) يستطيع من خلالها القادة إبداء تعاطفهم وبناء المزيد من الثقة بين أعضاء الفريق؛ وتتمثل هذه الطريقة في مجابهة نقاط الضعف لديهم هم أنفسهم في بعض الأحيان. توضح عالمة الاجتماع الدكتورة برينيه براون، التي قضت مسيرتها الأكاديمية في دراسة التواصل البشري، أن حالات الضعف تنطوي على الشعور بالريبة والخطر والرغبة في التعبير عن المشاعر. قد تعني حالات الضعف بالنسبة إلى القادة الانفتاح بشأن أي تحدٍ شخصي، أو تحمّل مسؤولية ما يحدث من أخطاء، أو التواصل مع عضو من أعضاء الفريق يبدو أنه يعاني ولكن دون أن يحاول إحداث تغيير أو حل المشكلة التي تواجهه. فإذا كان المديرون أكثر انفتاحاً بشأن الحصول على إجازة تتصل بالحفاظ على صحتهم النفسية، على سبيل المثال، فسوف يتشجع بقية أعضاء الفريق على فعل الشيء ذاته.
كلما تمكن الموظفون من النظر إلى مديريهم (والنظر إلى بعضهم البعض) على أنهم عرضة لأن يمروا بحالات ضعف، زادت إمكانية تحول مكان العمل إلى مكان مفعم بالإنسانية.
أيها الموظفون، يجب أن تكونوا متاحين عاطفياً
بالنسبة للموظفين، ربما يُعد تقديم "يد العون" و"الدعم" لزملائهم في الواقع أكثر بساطة مما يبدو. فإبداء التعاطف ليس علماً، ولكنه تجربة مستمرة. إنه "عمل متعلق بالعلاقة بين الأشخاص"، بحسب الدكتورة وورلين، التي أحصت عدة طرق يمكن من خلالها أن نمارس جميعاً ما يطلق عليه علماء النفس اسم "تقديم الدعم غير المشروط" لأولئك الذين نرى أنهم يمرون بمعاناة نفسية، سواء في العمل أو خارج نطاقه، حيث:
- يمكن أن نكون متاحين ومستعدين لأنْ نأخذ ما يلزم من وقتنا للتواصل مع الآخرين.
- يمكن أن نتذكر أن نكون كاتمين للأسرار إذا ما رغب أحدهم في الوثوق فينا.
- يمكن أن ننصت بعمق ونطرح الأسئلة التي تسمح للشخص أن يقول ما يرغب في قوله، كثيراً كان أو قليلاً.
- يمكن أن نستجيب بطريقة تعكس تفهمنا للمشكلة دون أن نحاول بالضرورة معالجتها أو حلها.
- يمكن أن نوجه الشكر لهم، وفي حالة إذا خطر شيء ما ببالنا ونعتقد أنه قد يساعد، يمكننا أن نطرح السؤال التالي: "هل سيكون من المفيد أن أفعل هذا؟"
النظرة التقليدية، حول الصحة العقلية وحالات الضعف بصورة أعم، لن تُحل بكل بساطة من خلال زيادة المعرفة، ولن يكون بالإمكان التغلب عليها من خلال توفير مجموعة من وسائل الراحة الرائعة. بل يجب علينا أن نتعلم استيعاب الأشخاص الذين يواجهون تحديات غالباً ما تكون غير مرئية وغير محددة ومن الصعب للغاية التحدث عنها. ويجب أن نظهر لهم أننا نهتم بهم، أو على أقل تقدير، نحاول أن نتفهم ما يمرون به. ورغم أنني لا أزال مرتابة من الأسس الاقتصادية للحفاظ على الصحة في مكان العمل، فإنني أؤمن أن المؤسسات يمكن، بل وينبغي لها، أن تستمر في دعم الموظفين بهذه الطريقة. وأنا هنا لا أقول إنه يتحتم على أصحاب العمل التوقف عن استثمار المال والوقت في تمرين الفريق على الدراجة الثابتة وكذلك في تقديم الوجبات الخفيفة في أوقات الراحة، ولكن يجب عليهم أن يدركوا أن توفير هذه المزايا أمر مستحسن، ولكنه ليس أمراً واجباً أو حتمياً. ربما لا يبالي إيقاع الرأسمالية بالتقلبات الحاصلة في رفاهية البشر وإنتاجيتهم. ولكننا لسنا كذلك ؛ فنحن بشر نهتم ونبالي.
سواء كنّا رؤساء تنفيذيين أو متدربين، فإننا جميعاً ملزمون بإبداء الاهتمام، وإدراك أن العواطف ليست مشكلات يجب حلها، ولكنها أمور نستكشفها وتحديات تزيد من قوتنا. ومع ذلك الاستكشاف وتعزيز القوة تأتي المرونة والصبر وحب الاستطلاع. وهذا في حد ذاته أكثر من مجرد فائدة أو ميزة؛ فهو دورنا الفعلي بوصفنا بشراً.