ملخص: في مجال إدارة سلسلة التوريد، تحصل على ما تخطط له. تدرك الشركات هذا المبدأ عندما يتعلق الأمر بالسلع التي تستهلكها وتنتجها، ولكن ليس بالموظفين الذين تعيّنهم وتدربهم. اعتمدت الشركات لعشرات السنين نهجاً ظرفياً قصير الأمد لإدارة المواهب، ويتضح أكثر فأكثر أن هذه مشكلة توقع ضرراً بالغاً على النظام الاقتصادي، لا سيما في أثناء فترة الاستقالة الكبرى التي نشهدها حالياً، إذ تواجه الشركات صعوبات في اﺳﺘﻘﻄﺎب أصحاب المواهب والعثور على الموظفين أصحاب المهارات الذين تحتاج إليهم. يقول الكاتبان إن الوقت قد حان لتتعامل الشركات بجدية مع تطوير سلسلة توريد ملائمة لأصحاب المواهب، ويقترحان بعض الطرق للشروع في ذلك.
يفكر الجميع اليوم باضطرابات سلاسل التوريد، لكن ثمة مشكلة لا يفكر فيها سوى القلة، وهي تتعلق بأصحاب المواهب وليس بالسلع والمنتجات، وتشكل تهديداً خطِراً طويل الأجل على نظامنا الاقتصادي.
يواجه أصحاب العمل والشركات في أعقاب الجائحة صعوبات كبيرة في العثور على الموظفين الذين يحتاجون إليهم، وذلك يترافق مع سخط متزايد. يعزو المتابعون المشكلة إلى حالة "الاستقالة الكبرى"، وهي ظاهرة تتألف من عدة عوامل مساهمة مثل تزايد حالات التقاعد ونقص في خدمات رعاية الأطفال ميسورة التكلفة وعملية إعادة التقييم التي يقوم بها كثير من الموظفين لدور العمل في حياتهم.
لكن ثمة أوجه قصور هيكلية تشكل أساساً لكل ذلك تتمثل في عدم امتلاكنا سلسلة توريد جيدة لأصحاب المواهب.
في مجال إدارة سلسلة التوريد، تحصل على ما تخطط له، خذ مثلاً "حاملات الكريات" (Ball Bearings)، تعمل شركة "فورد" على التنسيق مع مورديها من أجل ضمان توفر المخزون، كيف ستنجح في ذلك إذا كانت تنسق مع هؤلاء الموردين على المدى المنظور وتتواصل معهم في بداية كلّ شهر من أجل الحصول على ما تحتاج إليه في الشهر التالي فقط؟ سيدرك أي شخص لديه فهم بدائي للأعمال أن هذه الفكرة سخيفة، ففي هذه المهلة القصيرة سيواجه المسؤولون عن المشتريات في شركة "فورد" مشكلة في تحديد الموردين الذين يمكنهم تلبية الكميات والمواصفات المطلوبة بسعر تنافسي. لكن مشكلتنا بحال أو بآخر هي أن هذا النهج الظرفي للبحث عن المصادر هو الطريقة التي تتبعها معظم الشركات اليوم لمحاولة تلبية طلبها على أصحاب المواهب.
منذ ستينيات القرن الماضي، شهدنا انزلاقاً نحو العلاقات التي تكتنفها المعاملات بدرجة متزايدة في عملية التوظيف مع توقع أن تتمكن الشركات من تعيين الموظفين أو فصلهم حسب الرغبة. في بيئة من هذا النوع حيث لا تقدَّم معاشات تقاعدية أو التزام بالتدريب أو وعود بالاستقرار الوظيفي، يعمد الموظفون بصورة طبيعية إلى تغيير وظائفهم كلما أتيحت لهم فرصة أفضل. يقول بعض المراقبين إن مثل هذا النموذج يوفر كفاءة ومرونة أكبر، قد يكون ذلك صحيحاً لكن القدرة على التوظيف عند الطلب تعتمد على توفر الموظفين الراغبين بالعمل، وهو مورد بات عرضه اليوم محدوداً جداً نتيجة لموجة الاستقالة الكبرى.
عندما يندر العمل ترتفع الأجور، لكن عملية التوظيف تستغرق وقتاً أطول كذلك، وهذا مهم للغاية لأنه يضر بالإنتاج. فالموظفون الذين يغادرون العمل طواعية لا يتم استبدالهم بسرعة، ويفرض غيابهم على الموظفين الباقين حمل عبء أكبر، وهذا يدفع بعضهم إلى مغادرة العمل أيضاً.
في ظل غياب التغيير الكبير في سياسة الهجرة، سيصبح مخزوننا من أصحاب المواهب أصغر مما هو عليه اليوم. بين عامي 2011 و2021، شهدت جميع المقاطعات تقريباً في الولايات المتحدة انخفاضاً في عدد السكان في سن العمل، وتؤدي الجائحة الآن إلى تسريع هذه الخسائر. يقدر مركز "بيو للأبحاث" أن عدد الموظفين الذي تقاعدوا في عام 2020 كان أكثر من المتوقع بما يعادل 1.1 مليون موظف، في حين تُظهر بيانات "مكتب إحصاءات العمل" تسرّب 2.4 مليون امرأة من القوى العاملة في أثناء السنة الأولى من الجائحة. كما أن عدد الشباب الذين ينضمون إلى القوة العاملة بعمر 18 عاماً آخذ بالتقلّص ما ينذر بإتاحتهم بدرجة أقلّ مستقبلاً.
من الصعوبة بمكان محاربة المدّ السكاني، لكن نظام التعليم والتدريب لدينا الذي يعدّ المصدر الأساسي للمواهب في السوق لا يتوافق مع الطلب أيضاً. وجد تحليل مؤسستي "إكسل إن إد" (ExcelinEd) و"برننغ غلاس" أن 18% فقط من الشهادات الصادرة عن برامج التعليم المهني والتكنولوجي تم توظيف أصحابها لدى أصحاب العمل بالفعل. في الوقت نفسه، نرى أن أعداد الخريجين ليست كافية لمواكبة النمو المتوقع في بعض الأدوار الحساسة.
فلنأخذ المثال التالي الذي يرتبط مباشرة بمشاكل سلسلة التوريد التي نشهدها حالياً؛ اليوم من المتوقع أن يغادر قرابة 20,000 خبير في الخدمات اللوجستية المجال كل عام، ولدينا نمو متوقع يصل إلى 56,000 وظيفة جديدة على مدى العقد المقبل، ولكن يبلغ عدد الخريجين من حملة شهادات اللوجستيات 10,000 فقط كل عام. على نطاق أوسع، فكر فيما يلي: شهدت الوظيفة العادية استبدال 30% من المهارات المطلوبة فيها خلال العقد الماضي، وهو ما يتفوق على التغيير في برامج التدريب النموذجية بدرجة كبيرة. بعبارة أخرى، لا يتم تدريب خريجي هذه البرامج على المهارات التي سيحتاج إليها أصحاب العمل.
لقد ساءت المشكلة لدرجة أن العديد من موردي التكنولوجيا اضطروا إلى إنشاء بيئات عمل خاصة بهم لتقديم التدريب والشهادات من أجل ضمان توفير عرض كاف من أصحاب المواهب. وهم لا يفعلون ذلك لتلبية احتياجاتهم الخاصة فحسب، وإنما لتلبية احتياجات عملائهم أيضاً ولربما كان ذلك هو الأهم. لماذا تستثمر شركة "أمازون" الكثير في برنامجها "برنامج خدمات أمازون ويب للتدريب والشهادات" (AWS Training and Certification program)؟ لماذا يروج موقع "سيلز فورس" (Salesforce.com) لمنصته التعليمية "تريل هيد" (Trailhead) بدرجة كبيرة؟ يكمن جزء كبير من السبب في أن هذه الشركات تعرف أن الشركات العميلة لن تشتري منتجاتها من البرمجيات إذا لم تتمكن من توظيف عدد كافٍ من الموظفين الذين يعرفون كيف يستخدمونها.
وكي نتمكن من تحقيق توازن بين الموظفين والوظائف من جديد، يجب علينا التحرك خارج نطاق الاستراتيجية الظرفية التي تتبعها معظم الشركات للحصول على أصحاب المواهب.
وإدارة تدفق الموظفين أصحاب المهارات إلى السوق هي عملية متعددة الخطوات تتطلب تنسيقاً دقيقاً. وتذكر أنك إذا خسرت الموظفين، فلن تعثر على غيرهم ببساطة، وإذا أراد أصحاب العمل ضمان حصولهم على الموظفين الذين يحتاجون إليهم في الوقت الراهن وفي المستقبل على حد سواء، فعليهم اتباع طرق أفضل للبحث عن مصادر المواهب والعمل على تطوير مهارات موظفيهم بفعالية.
وإليك الطريقة.
1. يجب على أصحاب العمل اتخاذ إجراءات فعالة للاستفادة من قاعدة المواهب الأوسع.
هذا يعني توظيف مرشحين من مجموعة أوسع من الوظائف "المغذية" ومجموعة أوسع من المناطق الجغرافية. قد لا يمتلك بعض المرشحين أصحاب الخبرات غير التقليدية جميع المهارات اللازمة لوظيفة ما، هل يمكن تدريبهم على ما ينقصهم من المهارات؟ يجب على أصحاب العمل أيضاً إعادة تقييم متطلبات الوظيفة لتحديد الضروري حقاً منها وما سيكون امتلاكه "أمراً لطيفاً". يبين بحثنا إشارات على تقدم أولي، إذ أصبحت احتمالات أن تتطلب 62% من الوظائف اليوم شهادات جامعية أقلّ مما كانت عليه في عام 2017، وإذا استمر هذا التوجه، فسوف يفتح أرباب العمل في غضون 5 أعوام 1.4 مليون وظيفة لمن لا يحملون شهادة جامعية.
2. يجب على أصحاب العمل الاستثمار في تنمية مواهب موظفيهم.
يرى الموظفون في كثير من الشركات أن أفضل طريقة للارتقاء هي الانتقال إلى العمل لدى شركات أخرى، ما يؤدي إلى زيادة معدل دوران الموظفين. حصل 31% فقط من الموظفين أصحاب الخبرة في التكنولوجيا الحديثة مثلاً على ترقيات ضمن الشركات التي يعملون لديها. يجب على أصحاب العمل الاستثمار في القوى العاملة لديهم تماماً كما يستثمرون في البحث والتطوير، بإدراك أن الاستثمارات القصيرة المدى تحقق عوائد طويلة المدى. لا يمكن تدريب الموظفين بين عشية وضحاها، لذلك يجب على الشركات الاستثمار في إعدادهم ما إن تبدأ المهارات الجديدة المهمة بالظهور. من الحكمة دائماً أن يكون لديك عدد كبير جداً من أصحاب المواهب في وقت مبكر جداً بدلاً من الاكتفاء بالاستجابة إلى السوق الآني، كما يعني البناء من الداخل أن توضح للموظفين طرق الارتقاء داخل الشركة، فذلك سيدفعهم للتفكير ملياً في مدى جاذبية الانتقال إلى العمل لدى شركة أخرى. وأفضل الشركات هي التي تجعل التخطيط للترقية جزءاً من كل جلسة لمراجعة للأداء.
3. يجب على أصحاب العمل تطبيق المبادئ الأساسية لإدارة سلسلة التوريد.
فيما يتعلق بأصحاب المواهب، تتمثل سلسلة التوريد في معاهد وكليات المجتمع وأكاديميات التدريب التكنولوجي، وكما هو الحال مع الموردين الآخرين، يجب على الشركات مشاركة المواصفات التفصيلية للوظائف مع قادة المعاهد والاجتماع معهم بانتظام ومنحهم القدرة على التواصل مع المعنيين من الخبراء والتكنولوجيا ذات الصلة، ومناقشة متطلباتها الناشئة وتقييم الأداء المتبادل وتقديم ملاحظات قائمة على البيانات. هذا مهم جداً نظراً لحالة عدم الاتساق المزمنة بين نظام كليات المجتمع في أميركا وسوق العمل. تركز غالبية الكليات والمدارس على تسهيل نقل طلاب درجة الزمالة التي تستغرق دراستهم فيها عامين فقط إلى برامج الشهادات الجامعية التي تستغرق الدراسة فيها 4 أعوام كي يحصلوا على جميع امتيازات التعويضات الأعلى التي يحصل عليها خريجو الكليات. هذا طموح نبيل، لكن 17% فقط من الملتحقين بالكليات المجتمعية يصلون إلى درجة البكالوريوس على الرغم من وجود دليل واضح على أنه عندما تقدم برامجهم التعليم المهني والتكنولوجي، فإنهم يحققون باستمرار دخلاً أفضل مقارنة بالبرامج التعليمية العامة التي يلتحق بها غالبية الطلاب.
لم يكن الأميركيون قطّ مستعدين لقبول النقص على أنه حقيقة دائمة، على الرغم من ضيق سوق العمل في الولايات المتحدة، فليس من الضروري افتراض أن النقص المستمر في المواهب والنقص الناجم عنه في السلع والخدمات أمرٌ محتوم. يتطلب النظام الاقتصادي الحديث المعقد سلاسل توريد متطورة تخضع لإدارة خبيرة، وقد آن الأوان للبدء ببناء سلسلة توريد جيدة للمواهب أيضاً.