ملخص: يتناول هذا المقال إسقاطاً لمصطلح من مجال الهندسة المعمارية على العمل المؤسسي، فالهدف من "تأثير غروين" هو إبقاء المتسوق في المتجر لأطول فترة ممكنة، ودفعه إلى شراء سلع إضافية غير تلك التي جاء لشرائها. يذكر الكاتب 4 تطبيقات إيجابية لهذا المصطلح في بيئات العمل هي: 1. تصميم مساحات العمل لتحفيز التواصل العفوي، 2. توجيه تدفق العمل بصورة غير مباشرة، 3. بيئات التعلّم التفاعلي، 4. التحسين المستمر.
هل لفت انتباهك تصميم بعض المتاجر بشكل متشعب مليء بالأزقة المتشابهة؟ تلك المتاجر التي تضع السلع المهمة والأساسية في أماكن بعيدة عن الزائر، وعليه أن يبذل جهداً للوصول إليها، ويصطدم بصرياً في طريقه بالكثير من السلع البسيطة والثانوية.
إن هذه المتاهة ليست بسبب تواضع مهارة المهندسين المشرفين على إنشاء تلك المتاجر، ولا هي مصادفة، بل هي أمر مخطط له بدقة عن سابق إصرار وتدبير. ووسيلة مَن يفعل ذلك هي ما يطلق عليه الخبراء "انتقال غروين" (Gruen Transfer)، أو "تأثير غروين".
لم يتوقع قط المهندس المعماري النمساوي فيكتور غروين في خمسينيات القرن الماضي عندما صمم أوائل مراكز التسوق المغلقة، أن تتحول تلك المراكز مع الوقت إلى مساحات تدفع الزائرين إلى التسوق العشوائي. أو أن ينتج عن أعماله مصطلح يجري استخدامه في مجال التسويق وتصميم المتاجر يُشير إلى اللحظة التي يتحول فيها المتسوق من الدخول إلى المتجر بقصد شراء سلعة معينة، إلى حالة من التيه والارتباك، ما يدفعه إلى الانخراط في عملية تسوق غير مخطط لها.
عموماً، يهدف الانتقال الغرويني إلى أمرين أساسيين؛ الأول هو إبقاء المتسوق في المتجر لأطول فترة ممكنة، والثاني هو دفعه إلى شراء سلع إضافية غير تلك التي جاء لشرائها.
وفي سبيل تحقيق تلك الغاية، تتبع المتاجر ومراكز التسوق العديد من التكتيكات، فتلجأ أحياناً إلى التخطيط المكاني وترتيب المنتجات بطريقة تشجع المتسوقين على المرور بمناطق مختلفة، وزيادة احتمالات الشراء العفوي. يستخدم متجر إيكيا هذه الطريقة من خلال تصميم مسار ثابت يجبر العملاء على المرور بجميع أقسام المتجر. كذلك يجري تكديس السلع الصغيرة بأسعار منخفضة لجذب المشتريات العفوية، ويطلق الخبراء على هذا الأسلوب "بولا بولا" (Bulla Bulla). ونرى بعض المراكز التجارية تُخفي المخارج في ممرات متعرجة لتجعل من الصعب على المستهلكين المغادرة، كل ذلك بهدف التأثير على المتسوق، وهذا ما نعرفه بمصطلح قرصنة الاختيار أو (Choice Hacking).
التخطيط المكاني ليس كل شيء، فبعض المتاجر تلجأ إلى الإغراءات البصرية من خلال استخدام تصميمات الجدران، الإضاءة، والألوان لخلق أجواء جذابة تدفع المستهلكين للاستكشاف والشراء. وبعضها الآخر يذهب أبعد من ذلك فيطوّع المؤثرات الحسية كالروائح والموسيقى لخلق مزاج معيّن يجعل الناس يرغبون في البقاء داخل المتجر لفترة أطول.
ومن المعروف عن الممارسات المهنية، أنها تعبر حدود القطاعات وتتخطى جدران الاختصاص، وتأثير غروين ليس استثناءً، فقد بدأ كثيرون استخدامه في مجالات أخرى غير التسويق والمراكز التجارية مثل التخطيط الحضري لجذب الناس إلى أماكن معينة داخل المدن أو المتنزهات من خلال التصميم البيئي، ومجال التعليم في تصميم المدارس والجامعات لخلق بيئات تفاعلية تشجع على التفاعل الاجتماعي والتعلم العفوي، وكذلك مواقع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي المصممة لتشجيع المستخدمين على البقاء لفترة أطول.
السؤال، عزيزي القارئ، الذي يبرز هنا هو: كيف يمكن لنا تطبيق هذا التأثير في العمل المؤسسي؟
أعتقد أن ما قدّمنا له في هذا المقال، يفتح أبواباً على تطبيقات إيجابية لانتقال غروين في بيئة العمل، وإليك بعض الأماكن المؤسسية المناسبة لذلك:
- تصميم مساحات العمل لتحفيز التواصل العفوي: عن طريق تصميم مساحات خاصة، يمكن للموظفين التنقل بحرية والتفاعل مع زملائهم، ما يزيد من فرص التعاون والإبداع. ويعتمد العديد من الشركات التقنية الكبيرة مثل جوجل وآبل على تصميمات تشجع على التفاعل الاجتماعي، وهناك أيضاً شركات متخصصة في تصميم مساحات عمل تعتمد على أماكن مرنة تحث الأفراد على الانتقال غير المخطط له بين مناطق العمل. بالطبع نحن لا نشير هنا إلى المكاتب المفتوحة التي كانت الموضة السائدة في السنوات السابقة، فتلك لها العديد من الآثار السلبية التي ظهرت في أبحاث عديدة، مثل انخفاض الأداء خاصة في المهام التي تتطلب التركيز، وزيادة التوتر والغياب عن العمل ما يجعلها غير فعّالة على المدى الطويل. ما نشير إليه هو تخطيط خاص لترتيب المكاتب وأماكن التجمع والخدمات، يتيح للأفراد تعزيز التفاعل فيما بينهم، كأن تكون مكاتب قسم التسويق وقسم المبيعات في ممر واحد مصمم بحيث يضطر موظف قسم التسويق إلى السير بين مكاتب قسم المبيعات في أثناء انتقاله من وإلى مكتبه، ما يشجع على التفاعل العفوي الذي يسهم في تعزيز التواصل بين موظفي هذين القسمين. أو إيجاد استراحة مشتركة خاصة لموظفي التصميم وإدارة المنتجات.
- توجيه تدفق العمل بصورة غير مباشرة: يكون ذلك من خلال التجارب غير المخططة؛ أي أن نقدم للعاملين مهام أو تحديات جديدة وغير متوقعة بين الحين والآخر، يساعد ذلك في تحفيز التفكير الإبداعي وحل المشكلات من منظور مختلف. من أمثلة ذلك تحديات العمل الشهرية لمواجهة مشكلات غير تقليدية خارج نطاق المهام اليومية، وتناوب أو تدوير الموظفين في مشاريع أو أقسام مختلفة فجأة دون تخطيط مسبّق لتعريضهم إلى وجهات نظر جديدة ما يحفز حلولاً إبداعية. على سبيل المثال، تنظّم شركة ميتا ورش عمل مفتوحة يجري فيها تقديم تحديات غير متوقعة للفِرق بهدف إيجاد حلول مبتكرة.
- بيئات التعلّم التفاعلي: يساعدنا الانتقال الغرويني أيضاً في تدريب الموظفين وتعليمهم، ويمكننا فعل ذلك من خلال خلق بيئات تفاعلية تربط بين مفاهيم متعددة بطريقة تجعل المتعلمين ينتقلون من موضوع إلى آخر دون الشعور بذلك. وهذا مشابه لما تفعله بعض المدارس الرائدة من خلال الاستغناء عن تقسيم المنهج إلى مواد مثل الفيزياء والكيمياء والجغرافيا وغيرها، والاستعاضة عن ذلك باختيار موضوع محدد مثل السفر إلى المريخ مثلاً، ومن ثم إدراج المعلومات المطلوبة في المنهج في مناقشة هذا الموضوع، مثل تطبيق المعادلات الفيزيائية والرياضية في عملية الإقلاع، والمعادلات الكيميائية لمعرفة المواد والغازات التي قد تتفاعل مع جسم المركبة، وكذلك تحليل الطبيعة الجغرافية وأحوال الطقس لاختيار المكان الأنسب، وغير ذلك.
- التحسين المستمر: من أبجديات التحسين المستمر أنه يحدث من خلال خطوات بسيطة وصغيرة، ولكنها مستمرة، ما يكسبها الأهمية والأثر مع الوقت. وهناك العديد من منهجيات التحسين المستمر المتبعة في المؤسسات مثل منهجية كايزن التي تهدف إلى إشراك جميع الموظفين في تحسين العمليات والإجراءات يومياً. ماذا إذا استعرنا من تطبيقات غروين في المتاجر الكبرى؟ تضع غالبية تلك المتاجر سلعاً صغيرة ومغرية بالقرب من صناديق الدفع لتحفيز الشراء العفوي. إن وضع لوحات للأفكار الصغيرة في مناطق مشتركة مثل المطابخ أو مناطق الاستراحة بهدف تمكين الموظفين من إضافة أفكارهم لتحسين العمل أو العمليات اليومية، يمكن أن يشجع الموظفين على تقديم اقتراحات بسيطة وسريعة. أو وضع إشارات أو تذكيرات مرئية على شاشات الكمبيوتر الخاصة بالموظف أو في منطقة عمله تحثّه على تقديم ملاحظات أو اقتراحات لتحسين الأداء. وينطبق الأمر نفسه على استخدام الألوان مثل اللون الأزرق الذي من شأنه تحفيز التفكير الابتكاري، وفق ما تخبرنا به الأبحاث القائمة على نظرية الألوان.
يوماً بعد يوم، تزداد الإجابات المتاحة عن سؤال "كيف؟" في الممارسات الإدارية، مقارنةً بالسؤال "ماذا؟"، وقد قال انتقال غروين كلمته في هذا المقال، مضيفاً إجابة جديدة إلى سلّة "كيف؟".