تبذل الشركات أقصى ما بوسعها بغية منع بعض الموظفين من المغادرة والعمل لصالح المنافسين، وبعيداً عن عرض المزيد من المزايا لأولئك الموظفين، فغالباً ما تعتمد الشركات على إدراج شرط عدم المنافسة في بيئة العمل، وشرط حماية الأسرار التجارية ضمن عقود التوظيف لديها، إضافة إلى اتباع وسائل قانونية أخرى لتجنب فقدان المواهب الأساسية لديها، أو السماح بتسرب المعرفة إلى أيدي المنافسين. لكن البحث الذي أجريناه يُشير إلى أنّ الشركات قد تستفيد فعلياً من بعض الموظفين الذين سيعملون مع شركات أخرى في المجال ذاته.
وجدنا في دراسة حديثة أنّ أولئك الموظفين يعملون كجسور تواصل بين شركتهم السابقة والحالية، ويسهلون المزيد من التعاون، قد تكون هذه التسهيلات ناجعة، لأنه رغم أنّ الشراكات تخلق قيمة للشركتين، إلا أنّ التفاوض بشأنها قد يكون شائكاً، إذ يمتلك كل طرف معلومات غير مكتملة، وقدرات تكنولوجية وأهداف وتوقعات مختلفة، وليس غريباً أن تنهار المحادثات على حساب الموارد والفرص الضائعة.
لكن وجود أشخاص على دراية بالشركتين قد يُسهل عملية صنع القرار، ويؤدي إلى شراكات أفضل. ونرى أيضاً أنّ التعاون يميل إلى أن يكون أكثر إنتاجية (من حيث توليد المزيد من براءات الاختراع) مع أولئك الموظفين في المركز، ما يجعل مكاسب التعاون تفوق تكاليف فقدان المواهب.
درسنا هذا المفهوم ضمن سياق التعاون في مجال البحث والتطوير في مجال تطوير الأدوية، فعادة ما تُشكّل شركات الأدوية شراكات استراتيجية مع المنافسين، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بمشاريع الابتكار الكبيرة، لأنها تُساعد على تخفيف عبء تطوير الأدوية المكلِّف الذي يتزايد شيئاً فشيئاً. في فبراير/ شباط الماضي على سبيل المثال، أعلنت شركة "ميرك" (Merck) الآخذة من مدينة دارمشتات الألمانية مقراً لها، وهي شركة رائدة في مجال العلوم والتكنولوجيا ولها بصمة واضحة في مجال الأدوية. وشركة "جي إس كيه" (GSK)، وهي شركة عالمية مختصة بالرعاية الصحية وتطوير الأدوية، عن تحالف استراتيجي لتطوير دواء جديد للسرطان يسمى "بنترافاسب ألفا" (Bintrafusp alfa) وتسويقه. وفقاً لبيان صحفي، "ستتيح هذه الشراكة لشركة "ميرك" تقديم العلاج إلى السوق على نحو أسرع ومعزَّز أكثر، ذلك بفضل الإمكانات التكميلية لشركة "جي إس كيه"، والبصمة التجارية العالمية، والتركيز المتزايد على علاج الأورام".
تضمّن بحثنا إجراء مقابلات متعمقة مع 15 مسؤولاً تنفيذياً رفيع المستوى في مجال الأدوية، الذين كانوا مقيمين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا، وكانوا مسؤولين عن عمليات البحث والتطوير وتطوير الأعمال في الشركات الكبيرة ومتوسطة الحجم. وسألناهم عن دوافعهم وراء إنشاء تحالفات، والعقبات التي تعترضهم في تحديد الشركاء المحتملين، واختيارهم، والتفاوض معهم، والدور الذي يلعبه علماء البحث والتطوير في هذه العملية.
جمعنا أيضاً مجموعة كبيرة من البيانات حول التحالفات الاستراتيجية التي جرى تشكيلها بين أكبر 55 شركة أدوية مسؤولة عن أكثر من 80% من المبيعات العالمية في قطاع الأدوية، من عام 1990 حتى 2005. وكانت تلك التحالفات عبارة عن اتفاقات تعاقدية تلتزم فيها الشركات بمشاركة الموارد، من أموال، وحقوق الملكية الفكرية، وطاقم البحث والتطوير، بغية تطوير الأدوية وتسويقها، ولم تكن أبداً عبارة عن صفقات اندماج أو استحواذ. كما تضمنت البيانات براءات الاختراع المتاحة للعموم، ومعلومات حول أكثر من 130 ألف عالم يعملون لدى هذه الشركات، وتمكنّا من تحديد جميع العلماء الذين انتقلوا بين الشركات في عينة البحث لدينا، وتحديد ما إذا كانت تلك الانتقالات قد رفعت من احتمال تشكّل تحالفات بين الشركات المعنية.
تُظهر نتائجنا أنه من الشائع جداً انتقال العلماء بين شركات الأدوية المتنافسة، إذ انتقل أكثر من 8,200 عالم، بصورة فردية أو بصورة مجموعات صغيرة، من شركة إلى أخرى على مدار 16 عاماً من الأعوام التي تعقبناها. كما رأينا أنّ احتمالات تشكّل تحالفات في مجال البحث والتطوير أعلى في المتوسط بنسبة 33%، عندما انتقل عالم ما بين شركتين خلال الأعوام الخمسة الماضية.
عندما تعمقنا في البيانات، وجدنا أنّ أولئك العلماء الذين انتقلوا بين الشركات لم يساهموا في إحداث تحالفات أكثر تواتراً فحسب، ولكنهم ساهموا أيضاً في إحداث تحالفات مثمرة أكثر، إذ كان عدد براءات الاختراع التي جرى تسجيلها في غضون ثلاثة أعوام، وهو مؤشر شائع للدلالة على أداء الابتكار، أعلى مرتين تقريباً عند مقارنته بالتحالفات التي جرت دون انتقال العلماء، كما كان احتمال تعاون الشركتين مرة أخرى في الأعوام الثلاثة المقبلة أعلى بنسبة 25% مقارنة بالتحالفات الأخرى.
تشير تحليلاتنا التجريبية إلى أنه عندما انتقل العلماء بين الشركات المتنافسة، فإنّ ذلك زاد من فرص تلك الشركات في تشكيل تحالفات في مجال البحث والتطوير. واستناداً إلى المقابلات التي أجريناها، رأينا أنّ العلماء ساهموا في تحقيق ذلك من خلال مدّ جسور التواصل بين شركاتهم السابقة والحالية بطريقتين رئيستين، وهما تحديد فرص التعاون، وتسهيل عملية التفاوض لتشكيل التحالفات.
إنّ العثور على شريك مناسب للتعاون هو مهمة صعبة بالفعل، وتستهلك الكثير من الوقت، إذ يتعين على الشركات مراقبة التوجهات التكنولوجية الناشئة باستمرار وتحديد الشركاء الذين لديهم إمكانات تتناسب مع احتياجاتهم. يمكِن لأولئك العلماء أن يكونوا بمثابة أصول قيمة في عملية البحث تلك، لأنهم على علم بالمهارات والاحتياجات التكنولوجية لكل من الشركة السابقة والشركة الجديدة، ففي حال رأوا التطابق المطلوب، يمكنهم تسريع عملية بدء المباحثات.
يمكِن للعلماء الذين ينتقلون بين الشركات المتنافسة أيضاً مساعدة الشركات على تقييم إمكانات منافسيها، ويعدّ هذا من الأسباب التي تجعل الشركات تخاف من سوء استخدام تلك المعرفة، وتلجأ بالتالي إلى اتفاقيات تعاقدية أو تهديدات قانونية للحد من انتقال الموظفين. إلا أن هذا النهج مُفرط الحذر يمكن أن يمنع الشركات من الاستفادة من الفرص المحتملة، إذ قد يكون من المفيد للمنافسين معرفة الإمكانات التي تمتلكها.
قال أحد المسؤولين التنفيذيين الذين قابلناهم "إذا انتقل الموظف الذي سجل عشرين براءة اختراع في شركتك للعمل مع أحد المنافسين، فلن يتمكن من نقل براءات الاختراع تلك بأي طريقة، بل إنّ المعارف المحمية التي ينقلها قد تزيد من فرصك في إيجاد شريك مستقبلي لعقد تحالفات بحثية". بمعنى آخر، يبقى بإمكان الموظفين المغادرين مساعدتك على إيجاد مصادر جديدة للقيمة، ذلك مثلاً عن طريق إيجاد شركاء يمكنهم تسخير ابتكاراتك بطرق جديدة أو ممن يمكنهم المساعدة على تسويقها.
يمكن للموظفين المنتقلين تسهيل عملية إنشاء تلك التحالفات، إذ يُتخذ قرار التعاون من قبل المسؤولين التنفيذيين والعلماء وطاقم تطوير الأعمال، الذين يحتاجون إلى فهم مشترك للتحدي العلمي الذي يواجهون أثناء تطوير الدواء، والهيكل التنظيمي اللازم للمضي قدماً. يمكن للموظف الذي هو على دراية بالطرفين مشاركة المعلومات الأكثر قيمة حول الثقافة المؤسسية وإجراءات صنع القرار داخل الشركتين، يقول أحد المسؤولين التنفيذيين "[هذا الموظف] لا يُسهل عملية تشكيل التحالفات ويسرعها فحسب، بل يساهم أيضاً في جعل تلك التحالفات أكثر استقراراً، لأنّ توقعات كل من أطراف التحالف تتسق بصورة أفضل، كما يتم تبادل المعلومات المفصّلة في مرحلة مبكرة".
أظهر تحليلنا أيضاً أنّ خلفية الموظف مهمة في هذا الشأن، إذ كان العلماء الذين تعاونوا مع عدد أكبر من الزملاء في الشركة السابقة أكثر فاعلية في بناء الجسور، ذلك بسبب فهمهم الأعمق لتفاصيل شركتهم القديمة. على سبيل المثال، إنّ التعاون على تسجيل براءة اختراع مع خمسة زملاء إضافيين في الشركة السابقة يزيد من احتمال تشكيل تحالف بنسبة 20% إضافية. ومن الجدير بالذكر أنّ تلك التحالفات الحاصلة تؤدي أيضاً إلى ارتفاع مستوى الأداء في ميدان الابتكار.
وجدنا أنّ التحالفات المشكّلة بهدف التطوير المشترك وتسويق التقنيات الجديدة تحقق فائدة أكبر من الموظفين المنتقلين بين الشركات المتنافسة، وتبين المقابلات التي أجريناها أنّ هذه التحالفات يصعب تشكيلها أكثر من تلك التي تؤمّن صفقة مرخصة أو تنقل التكنولوجيا، وهو أمر منطقي إذا ما أمعنا التفكير فيه. إنّ مجال البحث والتطوير من المجالات المحفوفة بالمخاطر، وقد يكون من الصعب التوصل إلى اتفاق بشأن إدارة العمل المشترك، ما يجعل المبتكرين الذين ينتقلون إلى الشركات المنافسة أكثر قيمة من ناحية مساعدة الطرفين على نقل المصالح والمعلومات.
من المؤكد أنّ فقدان الموظفين ذوي المهارات العالية أمر لا يدعو للاحتفال، لكن الشكوى من انتقالهم ليس نهجاً عقلانياً أيضاً. في حين أنّ طبيعة بياناتنا واسعة النطاق لا تسمح لنا بإجراء تحليل مفصل للتكاليف والفوائد المالية، إلا أنّ المقابلات التي أجريناها تسلط الضوء على تقدير المسؤولين التنفيذيين للمبتكرين الذين ينتقلون، لأنهم يعززون سرعة تشكيل التحالفات واستقرارها مع الشركات المنافسة.
يمكِن لمدراء الشركات التي تُعين الموظفين المنتقلين إليها الاستفادة منهم عبر إشراكهم الفعلي في القرارات الاستراتيجية التي تجني الفائدة من تجاربهم الفريدة ومعلوماتهم عن المنافسين. على سبيل المثال، تربط بعض الشركات الموظفين المعينين من الذين كانوا يعملون مع شريك محتمل، مع الفريق المسؤول عن الاستقصاء اللازم قبل تشكيل التحالف.
لا تنطبق رؤيتنا هذه على التحالفات التي تحدث ضمن إطار البحث والتطوير فحسب، بل تنطبق أيضاً على العديد من علاقات التعاون بين المؤسسات، بدءاً من مفاوضات التعاقد لإسناد العمل إلى جهات خارجية، وصولاً إلى المشروعات الرسمية المشتركة واتخاذ القرارات المتعلقة فيما يخص عمليات الاندماج والاستحواذ، إذ غالباً ما تؤتي خطوة كسب الموظفين الذين انتقلوا إلى شركات منافسة بثمارها.