منذ عهد فريدريك تايلور صاحب منهج "الإدارة العلمية" أي منذ قرن على الأقل، كان التحكم عنصراً أساسياً في أنظمة عمل الشركات: التحكم بالتكاليف والأسعار والاستثمار وليس أقله التحكم بالناس. فما أهمية حرية العمل؟
إنّ التحكم والسيطرة، حتى كمجرد تصور، قد يبعث على الارتياح، وعلاوة على ذلك، يتمثل الأمر الذي ينبغي على المدير فعله بتحديد الأهداف ومراقبة الالتزام بالإجراءات والتوجيه ورسم مستقبل الشركة. فالتحكم يبدو أمراً مسلّماً به، خصوصاً إذا كنت المدير.
إلا أنه وبعيداً عن أن يكون أساسياً، يتبين أنّ التحكم بالأمور من الأعلى إلى الأسفل ينطوي على تكاليف باهظة كثير منها ما هو متوار على مرأى من الجميع. والأهم من كل ذلك، أنّ هناك بديلاً عنه، وهو ليس مجرد فكرة خيالية وإنما بديل حقيقي وناجح. هذا البديل قيد الممارسة بدرجات متفاوتة لدى شركات في جميع أنحاء العالم منذ عقود. وفي فرنسا على وجه الخصوص، يأخذ طابع الحركة. إنّ شركات بحجم ميشلان وكارفور تتساءل اليوم بشأن أهمية هياكل التحكم لديها وتسجل نتائج فعلية بعد استبدالها.
لم يكن لهذا البديل اسم على الإطلاق لأنه - وعلى نحو ملائم كما سترون – ليس وراءه مفكر أو شخصية محددة نظرت له. وقد تم تمرير مبادئه من قائد في قطاع الأعمال إلى قائد آخر مثلما تمرر نصوص سرية لا يُراد لها أن تبرز للعلن. لكنه بدأ يظهر في الآونة الأخيرة، ونحن نسميه "تحرير الشركات" (corporate liberation).
أهمية حرية العمل
يمكن شرح الفكرة بعبارات بسيطة: إنّ الشركة المحررة (liberated company) تمنح للموظفين الحرية الكاملة والمسؤولية لاتخاذ الإجراءات التي يقررون هم أنفسهم - بعيداً عن المدراء – أنها تخدم رؤية شركتهم بشكل أفضل. هذا لا يعني أنّ هذه الشركات تفتقد للإدارة. لا بل خلافاً لذلك، فإنّ الإجراءات المحددة التي لاحظناها في ما يقرب من 100 شركة محررة تثبت العكس.
على سبيل المثال، كل صباح، قد تسأل مديرة الشركة المحررة عما إذا كان هناك أي شيء يمنع فريقها من بذل قصارى جهده. قد لا يبدو ذلك غير معتاد، ولكن هنا تكمن أول بادرة تغيير: عندما يحدثها فريقها عن مشكلة أو فرصة، فإنها لن تقدم حلاً. بدلاً من ذلك، ستطلب منهم إيجاد حل بأنفسهم - بعد التأكد من عدم وجود شيء تفعله من شأنه أن يعيق عملهم.
عندما يُعرض مشروع جديد، لا تضع المديرة خطة لإنجازه بل تطلب من الفريق القيام بذلك. من خلال اتخاذ هذه الخيارات، فإنها تحقق أمرين حيويين. إنها تضع نفسها في خدمة فريقها، بدلاً من أن تعاملهم من موقع أعلى بصفتها مشرفة عليهم، وهذا بدوره له تأثير مباشر على سلوك الفريق: فهو يبدأ في تحريرهم ليعملوا بمبادرة منهم بدلاً من انتظار تلقي التوجيهات من الأعلى.
يدعم الرئيس التنفيذي لشركة ديكاثلون (Decathlon)، وهي شركة بيع بالتجزئة للأجهزة الرياضية يعمل فيها 80,000 موظف، بشكل قوي عن طريق النهج التحرري. مع ذلك، وبما أنّ تحرير الشركات هو فلسفة وليس نموذجاً، فإنه يمنح مدير كل وحدة من وحدات العمل في الشركة المجال لإنشاء بيئتهم التنظيمية الفريدة المستندة إلى الحرية بشكل تشاركي. على سبيل المثال، طلب مدير أحد أكبر مستودعات الشركة من 150 موظفاً تحديد "ساحة اللعب" التي يتحملون مسؤوليتها أي حدود مسؤولياتهم. ثم طلب منهم أن ينقلوا - كفرق - الممارسات التنظيمية التي يعتقدون أنها تمنعهم من أن يكونوا مسؤولين إلى تلك "الساحة". انتقل المدراء إلى تأدية دور المدربين في خدمة فرقهم وتخلوا عن سلطتهم الرسمية. وكنتيجة لذلك، تقوم جميع فرق المستودعات اليوم بإدارة تنفيذ الطلبات بنفسها، وتنظم العديد من الفرق جداول عملها بنفسها.
لقد كانت النتائج مذهلة. عندما أطلقت شركة ديكاثلون عملية التحول في مكان العمل كانت بالفعل شركة رائدة متعددة الجنسيات مملوكة من القطاع الخاص إذ بلغت إيراداتها 9,11 مليار دولار في عام 2013. وبحلول عام 2017 نمت إيراداتها بشكل طبيعي إلى 12,79 مليار دولار في جميع أنحاء العالم. في عامي 2017 و2018، احتلت ديكاثلون المرتبة الأولى بصفتها "مكاناً رائعاً للعمل" في فرنسا.
شرعت ميشلان العالمية العملاقة في تصنيع الإطارات ويعمل لديها 114,000 موظف كذلك في حملة تحرير الشركة. ففي أحد مصانعها الألمانية تتولى الفرق بنفسها إدارة معظم الأنشطة وانتقل المدراء إلى أداء دور المدربين دون سلطة رسمية. يحدد المشغّلون جداول عملهم وإجازاتهم ويصممون ويرصدون مؤشرات الأداء الخاصة بهم، ويقومون بأعمال الصيانة المطلوبة، وتجري استشارتهم بشأن اختيار الآلات الجديدة. إنّ ميشلان شركة ضخمة في قطاع صناعي ناضج نسبياً، لكنها تمكنت من مضاعفة التدفق النقدي الحر منذ عام 2015، إلى 1,509 مليار يورو (1,75 مليار دولار) في عام 2017 مقارنة مع 833 مليون يورو في عام 2015. وفي عام 2018 ، تم تصنيف ميشلان الأفضل بين كبرى شركات التوظيف في أميركا.
لدى البشر حاجات نفسية معينة يشتركون بها على مستوى العالم: الحاجة إلى معاملتهم على أساس المساواة من حيث الجوهر والحاجة إلى الارتقاء على المستوى الشخصي وممارسة التوجيه الذاتي. ويتم التنكر لكل من هذه الاحتياجات بشكل متكرر ومنهجي في الهيكليات الإدارية التقليدية للقيادة والتحكم التي تعتمد التسلسل الهرمي. ولعل أهم فائدة تُجنى من تحرير شركة أو مؤسسة - لأنها تؤدي بدورها إلى كل المنافع الأخرى - هي خلق بيئة تغذي هذه الاحتياجات العالمية بدلاً من خنقها.
إنجازات الشركات المحررة
وبالتالي، فإنّ واحدة من أكثر النتائج المدهشة التي تحققها الشركات المحررة هي المستوى العالي للغاية من المشاركة والحافز الحقيقي بين الموظفين. ووفقاً لمسح أجرته مؤسسة غالوب عام 2017 حول مدى اندماج الموظفين في العمل (Employee Engagement)، تبين أنّ 33% من الموظفين في الولايات المتحدة الأميركية مندمجون في العمل و51% غير مندمجين فيه، و16% مندمجون بحماس. في المقابل، يحق للشركات المتحررة أن تفخر بأنّ أكثر من 70% من موظفيها "مندمجون" في العمل حسب بيانات "غالوب". وفي الواقع، لا يزال هناك في الشركات المحررة عدد ضئيل من الموظفين غير المندمجين، كما أنّ العاملين غير المنخرطين إلى حد كبير – وهي الفئة الصعبة التي تستنزف الإنتاجية وتبدو وكأنها عنصر لازم في الشركات الحديثة – يتركون من تلقاء أنفسهم. وتكمن الفائدة الإضافية لهذه المشاركة العالية في أنّ الشركة المحررة تتفوق في الأداء على الشركة التقليدية، والسبب في ذلك ليس في بعض من حديث الإدارة العليا عن خدمة "الجسم بأكمله". ببساطة، إنّ تغذية الحاجات النفسية تؤدي إلى زيادة المشاركة - وكنتيجة لذلك - إلى زيادة إنتاجية الفريق وروح المبادرة والارتقاء بأداء الشركة.
في حين أنّ ديكاثلون وميشلان جديدتان نسبياً في لعبة التحرر، فإنّ هذه الظاهرة، مثلما لاحظنا، كانت تجري بهدوء لأكثر من نصف قرن. إنّ جميع الشركات الأقدم القائمة على الحرية التي درسناها، على غرار دبليو إل غور (W.L. Gore) وصن هيدروليكس (Sun Hydraulics) ويو إس أيه أيه (USAA) وكواد غرافيكس (Quad Graphics) و"آيديو" (IDEO) تتنافس على المراتب العليا في قطاعاتها الصناعية والتجارية منذ أكثر من عقدين. لكن تحرير شركة تقليدية ليس بالأمر البسيط. إذ يتحول بعض المدراء بسهولة إلى قادة يخدمون فرقهم. ويحتاج آخرون إلى التدريب لاكتساب المهارات اللازمة للامتناع عن إصدار الأوامر إلى الآخرين عما يجب عليهم فعله والاستماع لهم بدلاً من ذلك، أو لتلبية احتياجات الموظفين من الثقة والنمو المهني والتوجيه الذاتي. قد لا يكون التدريب كافياً في بعض الحالات، حيث تقف غريزة الأنا والسلوكيات المتأصلة في توجيه الأوامر من الأعلى إلى الأسفل عقبة أمام ذلك.
لقد درسنا العشرات من التحولات المماثلة لدى شركات من جميع الأحجام وفي مختلف القطاعات والمناطق الجغرافية. وإذا كنت تدير شركة تجارية أو تخطط للقيام بذلك، فإليك بعض الخطوات العملية لبناء مكان عمل قائم على الحرية في شركتك الآن.
خطوات لبناء فريق قائم على الحرية
تخلَ عن الأنا
لن يصدق موظفوك أنك تثق في ذكائهم إذا كنت دائماً الشخص الذي يقترح "الحل الأفضل".
شارك رؤية الشركة
هذا لا يقتصر على بناء مكان عمل محرر. مع ذلك، ونظراً للقدرة التقديرية المسموح بها في الشركات القائمة على الحرية، فإنّ الرؤية المشتركة أمر أساسي لأنها توفر معياراً مشتركاً للفرق لاتخاذ قراراتها. لا يحتاج أصحاب الكفاءة إلى إخبارهم كيف يؤدون عملهم ولكن عندما تقرر منحهم حريتهم، فإنهم بحاجة إلى معرفة سبب قيامهم بما يقومون به - حتى يتمكنوا من القيام به بشكل أفضل.
أشع جواً من الاحترام
إنه المناخ الذي يُظهر فيه معظم المدراء القادة من خلال تصرفاتهم أنهم يحترمون ويثقون بالموظفين. يتطلب الأمر من المدراء القادة إزالة العقبات التي تحول دون قيام الفرق بعملها على أكمل وجه.
سل فريقك عن العقبات التي تواجهه
إذا كانت أي ممارسة تنظيمية أو عنصر في الهيكلية يعبر عن عدم ثقة في ذكائهم ويحد من ارتقائهم الوظيفي أو يعيق مسارهم. إذا كانت الإجابة بنعم، فاطلب منهم إعادة تصميمها. كن مستعداً لرؤية غالبية ممارسات وهياكل التحكم - في الوظائف الهرمية وفي وظائف الدعم على حد سواء – تُستبدل بشكل تدريجي. سوف يحفز مناخ الاحترام رغبة الفرق في وضع جداول عمل خاصة بهم أو تعيين الموظفين العاملين معهم، وهي مطالب تؤثر على العمليات التنظيمية.
تحول إلى راع للفريق المحرر
عندما تتولى الفرق مزيداً من المسؤوليات وتتخذ المزيد من القرارات من تلقاء نفسها، يبقى عدد أقل من المهام والمسؤوليات على جميع مستويات المدراء. سيكون المدراء الذين يقبلون هذا مشغولين في خدمة فرقهم بينما يمتنعون عن استخدام سلطتهم الرسمية.
سيكون موظفوك مستعدين للمجيء للعمل كل يوم لبذل قصارى جهدهم وسيقضي المدراء القادة يومهم في الكشف عن إمكانات الموظفين وسوف تستمتع بالعشاء كل ليلة مع عائلتك مع العلم أنّ عملك يحقق النجاح بسبب الانتباه إلى أهمية حرية العمل.
اقرأ أيضاً: