في عالم اليوم، تشهد جميع المدن زحفاً متزايداً من سكان المناطق الريفية، الأمر الذي يحدث ارتفاعاً محموماً في تعداد السكان في هذه الحواضر أكبر من أي وقت مضى في التاريخ. وكنتيجة طبيعية لذلك، فإن تعداد سكان المدن يستمر بالنمو في العالم بحوالي ستة ملايين نسمة كل شهر، وما قد لا يدركه الكثيرون، فإن هذا الرقم يعادل ما يقارب ضعف تعداد سكان إمارة دبي.
قاد هذا الواقع إلى تشكيل مناطق حضرية مزدهرة، والتي باتت تشكل محاوراً للنمو الإقتصادي العالمي، وهي مسؤولة في الوقت الراهن عما يصل إلى 80% من الناتج المحلي الإجمالي عالمياً.
ومع وفرة الفرص المتاحة واقتصارها على المدن، فمن البديهي أن الانتقال إلى المدن بات خياراً جاذباً للباحثين عن حياة أفضل. ووفقاً للتوجهات الحالية، فإن توقعات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن ما يزيد عن 70% من سكان العالم سينتقلون للعيش في المناطق الحضرية بحلول عام 2050.
وعلى نحو مماثل، فقد شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هي الأخرى ارتفاعاً سريعاً في الهجرة إلى المدن خلال السنوات القليلة الماضية. وفي واقع الأمر، من المتوقع أن ترتفع نسبة سكان الحواضر في المنطقة إلى أكثر من الضعف بحلول عام 2050. وأمام هذه المعطيات، فإن الحكومات باتت تدرك بما لا يدع مجالاً للشك أهمية "المدن الذكية" كعوامل تمكين رئيسية ومحركات جوهرية لدفع عجلة نمو خطط التحول الاقتصادي الوطني، وهو ما دفعها إلى تكثيف جهودها في بناء مدن الغد. ولذلك فإنه ليس من المستغرب أن تستقطب برامج المدن الذكية استثمارات عملاقة، والتي تهدف بشكل رييسي إلى تحسين حياة الناس والارتقاء بجودتها وتمهيد الطريق لهم للوصول السهل والآمن إلى الخدمات اليومية.
التغيرات التي ترسم الخطوط العريضة لمستقبلنا
من ناحية أخرى، فإن ارتفاع تعداد السكان، والذي يترافق مع ارتفاع سقف توقعاتهم قد أسفر عن مجموعة مركبة من التحديات لقادة المدن. وتتمثل هذه التحديات في استنزاف الموارد المحدودة، وتقادم عمر البنى التحتية، والتحولات التي تطرأ على التركيبة السكانية في سوق العمل، فضلاً عن التفاوت الاقتصادي. كما أن النمو السريع للمدن له نصيبه من الآثار السلبية على البيئة، حيث تتسبب المناطق الحضرية المزدحمة في أكثر من 70% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الكرة الأرضية.
لطالما اعتبر تضافر الجهود بين القطاعين العام والخاص عنصراً محورياً في حل القضايا الجذرية والحيوية التي تشكل تحدياً ماثلاً أمام المناطق الحضرية. غير أن الحلول التي تقدمها الموسسات الخاصة غالباً ما تركز على إيجاد حلول لمشكلة بعينها، الأمر الذي يترتب عليه انعدام إمكانية العمل المشترك بين مختلف الأطراف المعنية، وعدم وجود نموذج أعمال مستدام للاستخدام في مواجهة التحديات والحالات التي قد تحدث مستقبلاً.
قال خالد الجبالي، الرئيس الإقليمي لماستركارد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: "نحن في ماستركارد على ثقة أن عملية تطوير المدن الذكية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تتوقف على ثلاثة عوامل بشكل رئيسي، وهي الشراكات الفعالة وتضافر الجهود بين الأطراف المعنية في مختلف القطاعات لإحداث تأثير جماعي، وتأمين حصول السكان على الهوية الرقمية، والابتكار في مجال التكنولوجيا. ومع دخول المزيد من مؤسسات الأعمال إلى فضاء المدن الذكية، فمن المهم ألا نغفل أبداً عن الهدف الرئيسي من تطوير تقنيتنا الذكية، والذي يتمثل في تطوير مدن أكثر شمولاً وازدهاراً وملاءمة لمجتمعاتنا الحضرية. وبهذه الطريقة، فإن قنوات التواصل بين هذه الأطراف التي تعمل على إيجاد الحلول يجب أن تكون مفتوحة دائماً لتبني نهج أكثر شمولاً لحل المشكلات ومواجهة تحديات المدن الذكية، والذي يتمحور الابتكار فيه حول العنصر البشري.
الهوية الرقمية، نقطة البداية
في الوقت الذي تقف فيه العديد من الدول، على غرار دولة الإمارات، في طليعة التحول إلى المدن الذكية في المنطقة، إلا أن 86% من تعداد السكان في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لا يزالون خارج مظلة النظم المصرفية ودون إمكانية الوصول إلى أي من الخدمات الرسمية الأساسية. وهنا يأتي دور توفير الهوية الرقمية كخطوة مبدئية محورية من شأنها أن تساعد الحكومات على وضع اللبنات الأساسية لبناء المدن الذكية، وذلك من خلال إدراج السكان اللذين يفتقرون إلى امتيازات الخدمات الرسمية في المنظومة الرسمية. يضيف الجبالي: "تحقـق دول مثل مصر ذلك من خلال الشراكة معنا لربـط الهويـة الوطنيـة للمواطنين بمنصة رقمية رسمية، والتي مكنت 54 مليون مواطن مصري من اسـتخدام تقنيـات الدفع الإلكتروني للرسـوم الحكومية وفواتير الهاتف المحمول إضافة إلى شراء المنتجات مـن المتاجر وخدمات أخرى، أي ما يقرب من 65% من تعداد سكان الجمهورية".
تجدر الإشارة أيضاً إلى أنه من المتوقع أن يكون هناك ما يصل إلى 1.1 مليار اتصال عبر إنترنت الأشياء في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بحلول 2025 عام.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الافتقار إلى الهوية الرقمية يحول دون استفادة القطاع الحكومي من القدرات الكامنة لهذا الجيل الجديد من الإنترنت على النحو الأمثل لتحقيق الصالح العام، حيث أن الهوية الرقمية التي تخضع لضوابط ومعايير آمنة تتيح للمواطنين الوصول بشكل سريع إلى مجموعة من الخدمات الأساسية، بداية من وسائل النقل العام ووصولاً إلى الخدمات الصحية.
تضافر جهود القطاعين العام والخاص أحد أبرز مسرعات التحول إلى المدن الذكية
يعتمد تطوير المدن الذكية في المنطقة إلى حد بعيد أيضاً على التنفيذ الناجح لنموذج "القطاع العام – القطاع الخاص – الأفراد" (P3) وتحليل بياناته، والتي تعد عوامل التمكين ٔ الرييسية للتقنيات التي ستمهد الطريق لمدن المستقبل.
وعلى سبيل المثال، فإن برنامج "سيتي بوسيبل" الذي أطلقته ماستركارد، والذي يعمل كحلقة وصـل بين المدن والمؤسسات الأكاديمية والشركات التجارية واستكشاف التحديات المشتركة التي يمكن مواجهتها على النحو الأمثل من خلال التعاون وإيجاد حلول قابلة للتطبيق بما يلبي الاحتياجات العالمية، حيث أن إمكانيات المدن المحورية تكمن في حرية التعاون فيما بينها، مما يمكنها من الاستفادة من تقدم وإنجازات كل منها. وقد أصبحت دبي بالفعل عضواً مؤسساً من ضمن الأعضـاء الذين يمثلون مزيجاً متنوعاً مـن المناطق الجغرافية والأحجام المختلفة في هذا البرنامج الذي يعتمد على مفهوم الحاجة الماسة إلى قيام العديد من الشركات الرايدة في مجال الابتكار بتسخير كافة إمكاناتها لتطوير حلول لأكبر التحديات التي تواجه بيياتنا الحضرية. تدرك جميع الأطراف المعنية بهذا الشأن أنه لا يمكن لشركة واحدة أو مدينة واحدة معالجة هذه المشكلات بمفردها.
وستمكن المرحلة التالية من برنامج "سيتي بوسيبل" الأطراف المعنية من خوض مرحلة تجريبية للحلول المقترحة من مختلف الأقاليم في جميـع أنحاء العالم، حيـث سيتم تطوير منتجات لمواجهة التحديات الحضرية المحورية في الوقـت الراهن واختبارها على نطاق واسع. ويتم بعد ذلك استخدام مخرجات هذه الاختبارات والدروس المستفادة مـن تلك التجارب لتعزيز فرص نجاح المشـروعات المستقبلية في أماكن أخرى. ومن شأن عملية تبادل المعرفة والخبرات توفير قدر كبير من الوقت والطاقة والأموال ومختلف الموارد، والتي يمكن توجيهها لخدمة مساع أخرى.
الحاجة أم الاختراع
بالنظر إلى جميع هذه الأمثلة، فإن هناك شيء واحد مشترك بينها، وهو الابتكار. سيشكل الابتكار عبر مختلف الصناعات العنصر الرئيسي لدفع عجلة تطوير المدن التي ستشكل موطن لنا في المستقبل. الأهم من ذلك، فإن الابتكار في مجال التكنولوجيا سيكون عاملاً أساسياً في سعينا لضمان استفادة مجتمعاتنا على الوجه الأمثل من الوتيرة المتسارعة للتقدم الذي يشهده العالم اليوم على مختلف الأصعدة. من خلال تسخير التطورات التكنولوجية لخدمة الإنسان، سيكون بمقدور الحكومات أن تستجيب بفعالية للتحضر والزحف نحو المدن، وذلك في وقت يعيد فيه التحول الرقمي صياغة حاضر الدول النامية وتلك التي لا تزال تجاهد للنمو ومستقبلها. ولذلك، فإن قادة المدن والاقتصادات الذين يمكنها التفكير "بذكاء" في هذا التحول، هم الذين سينجحون في ترجمة احتياجات الناس إلى ابتكارات تلبيها على النحو الأمثل.