الهدوء سمة العظماء: بماذا يفيدك الهدوء في العمل؟

4 دقائق
الهدوء سمة العظماء

الهدوء قوّة، فعلى الرغم من ارتباطه بالسكون والأناة والتبصُر ورباطة الجأش، فإن البعض ممّن يتوقعون رداً مباشراً متسرعاً وغير مدروس يظنه ضعفاً، بينما يظهر الهدوء بالضرورة في القول السديد وحسن الحديث والسيطرة على الانفعالات في أثناء المواقف الصعبة، وهذا سيساعد بدوره في بناء شخصية متزنة تستطيع شق طريقها والنجاح سواء على المستوى الشخصي أو المهني.

تتبّعتُ قِصص الناجحين من فترات زمنية مختلفة عبر التاريخ، وفي مجالات مختلفة، بدءاً من رُسلِ وأنبياء الديانات المختلفة إلى المفكرين المعاصرين من فلاسفة وكتاّب متميّزين ومروراً بتجارب الشعوب والأمم التي قادت التغيير وحققت ما يشبه معجزات اقتصادية، فوجدت سمة الهدوء قاسماً مشتركاً بينها، بل سمة ضرورية للنهوض وإدارة التغيير على المستويين الفردي والجماعي.

يقابل الهدوء مشاعر الغضب وانفلات الأعصاب، وهي مشاعر لا تعدّ جديدة في مكان العمل تحديداً، فقد أثبت الكثير من الدراسات أن ضغوط العمل تعدّ إلى حدٍّ بعيد أهم مصادر التوتر من بين كل ضغوط الحياة الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، فقد توصلت الأبحاث الحديثة التي أجرتها مؤسسة غالوب إلى أن المعدلات اليومية للغضب والتوتر والقلق والحزن بين العاملين الأميركيين قد شهدت ارتفاعاً ملحوظاً خلال العقد الماضي، لذلك درس خبراء علم النفس التنظيمي بإسهاب هذه الظاهرة وكان الهدوء والتحكّم في النفس حجر الزاوية التي بُنيت عليه كل الحلول التي توصلوا لها.

أهدف من هذا المقال، الذي يعدّ لمحة بسيطة عن كتابي "هدنة"، إلى تبنّي القارئ لحياة "أكثر هدوءاً"، ولا يكون ذلك إلا من خلال التعمق في ماهية الهدوء ثم التطرق لأهم الفوائد المتأتية منه في حياتنا اليومية.

ما معنى الهدوء؟

لو بحثت عن المعنى اللغوي لكلمة الهدوء، ستجد لها معان كثيرة كلّ حسب السياق الذي تُستخدم فيه، لكن وبصفة عامة، تشمل كلمة هدوء في معانيها الرجاحة والرزانة والوقار التي تقود إلى حالة من الأمن والطمأنينة والراحة في حياة الإنسان، أضف إلى ذلك التريث المرتبط بالحذر. ومن زاوية الدراسات النفسية، تجد أن الأذكياء هم من يتصفون بهذه السمات، وتحديداً من يتمتع بالذكاء العاطفي الذي يعدّ بدوره أهم سمة لدى القادة الناجحين.

يرتبط معنى الهدوء ارتباطاً وثيقاً بثلاث سمات أخرى هي:

  1. الصبر: نعيش حالياً عصر السرعة، وهذا يعني أن وتيرة التغيّر والابتكار من حولنا أسرع مما نتصور، وهو ما نتج عنه جانب سلبي متمثل في نفاد صبر الأفراد بسرعة عند أداء عمل جاد وظهور ما يُسمى المشتتات الرقمية والانقطاعات التي تسببها باستمرار وفقدان التركيز والانفعال لأتفه الأسباب، ومجابهة هذه الآثار السلبية لا يكون إلا بالتحلي بالصبر وما يتطلبه من توليفة الدافع الداخلي (الرغبة) والإدراك (الوعي الذاتي) والممارسة (التدريب)، وهي التوليفة التي ذكرتها المؤلفة إم جي ريان في كتابها "قوة الصبر" (The Power of Patience).
  2. المثابرة: الثبات على المحاولة رغم الفشل عدة مرات هو ما يفتح الأبواب لاقتناص الفُرص التي تظهر، وتعزيز احتمالات النجاح، طبعاً مع عدم الالتفات إلى إحباط المحبطين وتشكيك المشككين رغم صعوبة تحقيق الهدف المسطر، فتوماس أديسون فشل نحو 99 مرة قبل نجاحه في أشغال المصباح الكهربائي، ووالت ديزني قُوبل طلبه للحصول على تمويل مشروعه الترفيه نحو 300 مرة قبل أن يحصل على مُراده.
  3. القبول والرضا: ربما ثابرت لأجل تحقيق شيء، فلم يتحقق، وربما حاولت أن تكون هادئاً فلم تتمكّن، فهل هذا يعني الاستسلام واليأس والإحباط؟ الفشل هو جزء من الحياة ومرحلة ضرورية للتعلم، فالصبي يتعلم المَشي بالنهوض والسقوط وإلا لما استطاع المشي قط، لذلك فتقبل الفشل والتعلم منه والاعتراف أنه ضروري أمر لا بد منه للوصول إلى راحة البال والهدوء المنشود.

الهدوء سمة العظماء وتميّز أفضل القادة

الهدوء وضبط النفس من أهم سمات القائد الناجح وفق المصادر العلمية المتعلقة بفن القيادة، لأن استقبال أي حدث، مهما كان حجمه ودرجة تأثيره، بهدوء وضبط النفس يمكّن القائد من إعطاء الحجم الحقيقي للحدث واستيعابه، وتحديد أسبابه وأبعاده واتجاهاته المستقبلية.

يقول جيه كورتوا في كتابه "لمحات في فن القيادة" (Glimpses In The Art Of Leadership): "يوحي الهدوء بأن صاحبه ذو إرادة لا تتحول عن هدفها، وتسبب نظرة الرئيس الهادئة العميقة شعوراً من القلق لدى المشاغبين، ومثيري المشاكل من المرؤوسين، وإحساساً غريزياً بأنهم أمام قوة لا تقهر"، ويؤكد الطبيب النفسي والمدرب التنفيذي ديفيد برندل في مقاله "التحلي بالهدوء يجعلك تنجح في منصبك القيادي الجديد" أنه عندما يُطلب من الأفراد إدارة مشاريع ضخمة أو الإشراف المباشر على موظفين أو المشاركة في التخطيط الاستراتيجي، فإنهم يحتاجون إلى تطوير مجموعة جديدة من المهارات بسرعة- مثل البراعة في التعامل مع الناس والرشاقة العاطفية والتواصل الذكي والهدوء. ومثلما تُعدّ هذه المهارات مهمة للدور الانتقالي إلى القيادة، من المهم أن يتخلى القائد الجديد عن طريقته القديمة في التفكير، وأن يعرف مدى ارتباط الهدوء والنجاح في توليه لمنصبه الجديد.

التأني والهدوء سبب في إتقان العمل

روبرت جرين ذكر قصة في كتابه "الإتقان" مفادها أن الرسام الشهير ليوناردو دافنشي ذهب مرة إلى الغابة، ثم بدأ في رسم ما يشاهده من مناظر طبيعية، وعلى الرغم أنه كان رسّاماً مبتدئاً آنذاك، لكنه "لاحظ أنه يتعيّن عليه أن يمعن النظر في الأشياء التي يرسمها، ويتفحصها عن قرب لكي يلتقط التفاصيل التي تبعث الحياة فيما يرسم"، فالإتقان يكمن في التفاصيل وأداء العمل في جوّ من الهدوء والتأني والتركيز، لذلك يقترن الهدوء في العادة بالأشخاص الذين يتصفون بالنجاح والتميز، فكثيراً ما نسمع أن فلاناً هادئ وصاحب تميّز وإبداع.

الوعي بالذات مصدر للهدوء

الوعي بالذات هو أحد مكونات الذكاء العاطفي، ويتميز صاحب "الوعي بالذات" بمجموعة من السمات لخّصها عالم النفس دانييل غولمان في:

  • الوعي العاطفي بالذات: وهو القدرة على قراءة المشاعر وفهمها فضلاً عن إدراك أثرها الذي تحدثه في أداء العمل وفي العلاقات وغيرها من المجالات.
  • التقييم الدقيق للذات: أي التقييم الواقعي لنقاط القوة التي يتمتع بها، ونقاط الضعف التي يعاني منها.
  • الثقة بالنفس: وهي الشعور القوي والإيجابي بقوة الذات.

كلما امتلكت مهارة الوعي بالذات، كنت أكثر هدوءاً، فالشخص الخبير بنفسه لن يضيع جهده في الغضب أو انفعالات لا طائل منها طالما أنه يعرف أنها لن تفيده ولن تعالج نقاط ضعفه، بل هي مجرد هدر للطاقة التي يمكن استخدامها في التطوّر والنمو.

أخيراً، أختم بهذا الاقتباس من كتابي "هدنة": "الثبات والهدوء هو سر النجاحات الكبرى والإنجازات العظيمة في حياتك. الأمر ليس معقداً، فلو تأملت الأشياء الكبيرة ستجدها تحتاج إلى الكثير من الوقت والتفاصيل وتجد أن ما يُصنع على مدار وقت طويل يكون أكثر إتقاناً، شيئاً يشبه صناعة السجاد يدوياً، الثبات هو الأداة التي تجعلك تنظر للخطوات الكثيرة والطويلة على أنها شيء واحد يكتمل بهدوء. النجاحات السريعة حتى وإن كانت كبيرة لن تمنحك تلك القيمة التي تحصل عليها من نجاح احتاج منك الوقت والثبات والعمل الكثير. لهذا نحتاج دائماً لأن نعرف ما نريد وأن نؤمن بالتدرج ونؤمن بأننا أهل لأن نكون عظماء بطريقة أو بأخرى، عظمة تناسب مبادئنا وقناعاتنا".

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي