تقرير خاص

تصميم سياسات عامة تركز على المواطن في عصر البيانات: النهج الكمي للتوطين

5 دقائق
النهج الكمي
shutterstock.com/metamorworks

يشهد الاقتصاد العالمي نقلة نوعية من نموذج قائم على عوامل الإنتاج إلى آخر متمحور حول المعرفة والبيانات. وهذا النموذج الحديث يقوم على تداول مستمر للبيانات، الأمر الذي يؤثر بشكلٍ كبير في سلوكيات الأفراد والمجتمعات. وقد أسهم الوضع الراهن بدفع القطاع الخاص إلى خوض ثورة في عملياته بهدف الاستفادة من هذه البيانات. أما في القطاع العام فيبدو أن هناك تأخيراً في احتضان هذه الثورة القائمة على المعرفة والبيانات، إذ إنه لا يزال يطبق سياسات قائمة على فئات سكانية غير محددة دون الالتفات إلى الفرص المتاحة والناتجة عن الكم الهائل من المعلومات والبيانات الدقيقة المتاحة له.

وعلى الرغم من أنه ينبغي عدم توسيع نطاق المقارنة بين القطاعين العام والخاص لا سيما أن هناك اختلافات جوهرية في الأهداف، وسلاسل القيمة، وهياكل الحوكمة، فإنه أصبح بغاية الأهمية أن يتكيف القطاع العام مع هذا النموذج الجديد فيما يخص خلق السياسات، واضعاً الفرد في جوهر صياغتها وأخذاً بعين الاعتبار الثروة المعلوماتية التي أصبحت في متناول يده. وقد طبقت وايتشيلد هذه الفرضية وطورت "النهج الكمي" للسياسات العامة بهدف توجيه الأطراف المعنية في عصر البيانات ومساعدتهم.

يدعو العصر الرابع للتنمية العالمية إلى إحداث نقلة في نموذج وضع السياسات المهيمن، مع التركيز على الأفراد

الفجوة في تطور نموذج السياسة

يستمر القطاع العام في صياغة وابتكار حلول تستند إلى نهج واحد بدلاً من نهج أكثر تفصيلاً يتمحور حول الفرد. في عصر التنمية الأول، كانت السياسات تهدف إلى تمكين سيادة القانون والعدالة في الدول، مع عدم إيلاء الاهتمام الكافي بمتطلبات الأفراد. ومع دخولنا العصر الرابع من التنمية الاقتصادية والاجتماعية القائمة على البيانات، من المتوقع أن تنتقل عملية صياغة السياسات إلى آلية مرنة تركز على المواطن.

طبقت الدول تدابير مختلفة تهدف إلى تسهيل تحول سوق العمل. وعلى وجه الخصوص، فقد أطلقت سنغافورة في عام 2016 برنامج المهارات المستقبلية "SkillsFuture" لتزويد العمال بالمهارات التي تحتاج إليها شركات القطاع الخاص. وعلى الرغم من وجود عدد كبير من المستفيدين، فقد عانى البرنامج من مشكلتين رئيسيتين:

  • لم يتم تصميم الرحلة عبر المنصة الإلكترونية بما يتناسب مع الاحتياجات الفريدة لكل مواطن. فمثلاً تقدم المنصة العديد من فرص التدريب للمستخدمين، إلا أنها لا تتضمن أياً من الميزات ذات الطابع الشخصي.
  • يتم تحفيز المستفيدين المحتملين لإكمال التدريبات على المدى القريب دون تقديم المزيد من الدعم. وبعد الانتهاء من عملية صقل المهارات، لا يتم مساعدة المستخدمين في عملية البحث عن الوظائف التي تتطابق مع مهاراتهم المحدثة.

إن التنوع والتعقيد المستمرين في سوق العمل العالمي يستدعيان اتباع نهج جديد لصياغة السياسات؛ إذ تعمل بعض الدول حالياً على وضع استراتيجيات متطورة لصنع سياسات مصممة لتكون أكثر فعالية.

النهج الكمي قيد التنفيذ

على الرغم من الجهود المتواصلة التي تبذلها دولة الإمارات في الانتقال إلى اقتصاد قائم على المعرفة، عبر تشجيع الابتكار والبحث والتطوير فهي ما زالت تعاني كباقي دول الخليج الأخرى، من اختلال التوازن في العمالة بفعل الأعداد الكبيرة للعمال الأجانب في القطاع الخاص. ويُعدّ تحدي التوطين على تدريب وإدخال آلاف الإماراتيين إلى القطاع الخاص في فترة زمنية محدودة تحدياً بالغ الأهمية.

ومن هنا فقد أطلقت دولة الإمارات برنامجاً يهدف إلى رفع تنافسية الكوادر الإماراتية أُطلق عليه اسم برنامج "نافس". يتضمن عدة برامج ومبادرات. ويهدف "نافس" إلى تأهيل المواطنين وتدريبهم ودعم عملهم وتوظيفهم في القطاع الخاص وضمان إشراكهم في التنمية البشرية، مؤكدة الإمارات من خلال ذلك دعمها لثقافة العمل في القطاع الخاص. وقد تم تطوير برنامج "نافس" باتباع نهج كمي بحيث لا يقتصر الهدف المنشود على ربط المواطنين الإماراتيين بالقطاع الخاص فحسب، بل أيضاً صقل مهارات الأفراد وتعزيز قدراتهم التنافسية من أجل تمكينهم على المدى الطويل. كما أُنشئت منصة رقمية مبتكرة لتنفيذ البرنامج وهي تعمل بمثابة منصة شاملة لربط الباحثين عن عمل بالجهات والشركات الخاصة.

تضع منصة "نافس" المواطنين في محور التركيز، وتعمل بكونها منصة شاملة لجميع المبادرات التي تهدف إلى تحقيق هدف سياسة التوطين

يُميز برنامج "نافس" نفسه من خلال عدم تبنيه النهج التقليدي في وضع السياسات؛ وذلك فيما يخص أربعة جوانب رئيسية:

رحلة المستخدم: تصميم منصة "نافس" الإلكترونية لدعم الإماراتيين طوال فترة تطورهم المهني. ويحصل الباحثون عن عمل على تدريبات متخصصة. كما يحصلون بعد ذلك على الدعم في البحث عن عمل ومن بعدها على حوافز مالية مستمرة للبقاء في الوظيفة. علاوة على ذلك، من الممكن تخصيص رحلة الباحثين عن عمل على المنصة بناءً على الاحتياجات الفردية لهم، وكذلك تقديم عروض مثل التدريب المهني للمستخدمين الأصغر سناً الذين لا يزالون يتبعون المسار الأكاديمي.

مزيج السياسات: لا تقتصر المبادرات المقدمة للباحثين عن عمل عبر المنصة على سياسات العمل فحسب. وإنما تم اعتماد نهج حكومي شامل من خلال تعاون الوزارات لتحقيق هدف التوطين الفريد. وقد صُممت المبادرات بشكل تعاوني من خلال إشراك العديد من الجهات العامة والجهات المعنية الخارجية الرئيسية، مثل: المجالس التعليمية، والجامعات والكليات الفنية، وهيئات التوظيف.

السرعة: تم تنفيذ منصة "نافس" باتباع نموذج "المسرع"، الذي سمح بتطوير إصدار مبكر وإطلاقه في غضون شهر واحد.

المراقبة: توفر المنصة مجموعة من لوحات المتابعة المصممة على نحو خاص لجهات محددة. وتتوفر لوحة متابعة تنفيذية للقيادات تضم مؤشرات رئيسية بينما تقدم لوحات المتابعة الفنية المتخصصة مرئيات إضافية حول جوانب محددة (العرض والطلب المفصل، ومعدلات رضا المستخدمين). من الجدير أيضاً بالملاحظة أن التفاعل الشفاف للمتعامل مع المنصة سواء كان المتعامل مواطناً أو منشأة أو شركة فيما يخص مجال التسجيل وطرح الوظائف والبحث عن وظيفة يمكّن الجهات المعنية من مراقبة مدى الالتزام بها لضمان بقاء المواطن في القطاع الخاص وذهاب الدعم والمساعدة والعلاوة للمستحقين دون أي تحايل من أي طرف كان.

وقد تحقق معظم الجوانب المبتكرة لبرنامج "نافس" بفضل التكنولوجيا؛ وقد بُنيت المنصة على أساس القدرة على تقديم المزيج الأمثل للسياسات على نطاق واسع لكل باحث عن عمل، دون مواجهة العقبات البيروقراطية المطلوبة مسبقاً للتقدم بطلب للحصول على الدعم الحكومي. ويتيح هذا التنفيذ القائم على البيانات تحولاً من مجموعة من الخدمات الثابتة إلى حلول آنية موحدة. وحتى يومنا هذا، تمّت أتمتة 75% من مبادرات دعم الباحثين عن عمل بالكامل عبر منصة "نافس"، بما يخدم أكثر من أعداد المستفيدين المتزايدة باطراد.

العمل على تحقيق نهج كمي شامل

يتضح من خلال "نافس" أن لدى القطاع العام والحكومات القدرة على اعتماد نهج مرن يركز على المواطن عبر إشراك جميع الجهات المعنية في شبكة من المنصات القائمة على البيانات. وتتجاوز الفرص سياسات العمل، خاصةً أن هناك أوجه تعاون قوية وواضحة مرتبطة بإنشاء شبكات من المبادرات بنفس نموذج "نافس". وهذا يقدم إطاراً لواضعي السياسات لتبني نهج كمي في معالجة التحديات المعقدة التي تتزايد باستمرار من خلال:

  1. السياسات الفردية: التركيز على رحلة المواطن بطريقة منهجية، تشمل جميع أنظمة الدعم ذات الصلة عبر القطاع العام. والاستفادة من أدوات البيانات والاستدلال مثل التعلم الآلي لتقديم مزيج السياسة الأمثل لكل مواطن كحل في الوقت الفعلي.
  2. العمل ضمن شبكات: الحد من العقبات البيروقراطية وأوجه القصور من خلال اعتماد نهج حكومي شامل. إن صنع السياسات المنعزلة غير ملائم لمعالجة القضايا المعقدة وغير كافٍ لتنفيذ السياسات التي تتمحور حول المواطن. ويطبق ذلك على التعاون بين الوزارات وكذلك ضمن نفس الجهة.
  3. تضمين آليات المراقبة في مرحلة التصميم: تصميم مجموعة من مؤشرات الأداء المرنة في أثناء تصميم السياسات وعدم وضع السياسات من فراغ؛ فمع تطور السياق السياسي والاقتصادي، تحتاج السياسات إلى التطور بالتزامن مع ذلك. ومن خلال دمج أنظمة المراقبة منذ البداية، يبقى واضعو السياسات ملزمين بتنفيذ التعديلات المستقبلية.

وستعمل منصة "نافس" كمركز دراسات وأبحاث "Think Tank" حيث ستوفر لمتخذي القرارات وصانعي السياسات البحوث والدراسات المبنية على الأدلة، والبيانات، والدراسات المبتكرة، وذلك بالتشارك والتنسيق مع الجهات المختصة وأصحاب المصلحة بهدف تعزيز منظومة توظيف مستدامة ومزدهرة للإماراتيين في القطاع الخاص.

إن تجربة "نافس" تؤكد أن الجهود الفردية لن تكون كافية وإنما يتعين على الحكومات مواكبة الأدوات القائمة على البيانات المتوفرة لسد الفجوات الحالية في السياسات. الأمر الذي يفسح المجال أمام تبني سياسات تفاعلية تركز على المواطن على نطاق غير مسبوق. كما ينبغي تطوير السياسات إلى حلول قابلة للتكيف بحيث لا يكون مصيرها الفناء، في عالم يزداد تعقيداً.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي