ملخص: منذ أواخر سنة 2020 بدأ الموظفون في أستراليا بالعودة إلى مقار العمل لتقارب نسبتهم ما كانت عليه قبل انتشار الجائحة في بعض المناطق. تمكن المؤلف بواسطة استقصاء أجراه على الموظفين الأستراليين من تحديد 5 نماذج مستخدمة في مكان العمل، وهي نموذج الوضع السابق ونموذج النادي ونموذج العمل القائم على الأنشطة ونموذج المحور المركزي ونقاط التوزيع ونموذج العمل الافتراضي بالكامل. وهو يستكشف الطرق التي تمكّن الشركات من تقييم هذا القرار الآن مع توفر لقاحات ضد فيروس كورونا بصورة متزايدة وتخفيف القيود في كثير من الدول.
في شهر مارس/آذار من سنة 2020 كانت معظم الشركات تعتبر مقار العمل عنصراً ضرورياً لإنجاز أعمالها. لكن مع انتشار الجائحة تفاجأ القادة بمعرفة أن الموظفين قادرون على العمل من المنزل بنفس درجة الإنتاجية.
والآن مع توفر اللقاحات وتخفيف قيود التباعد الاجتماعي في بعض المناطق، يجب على القادة اتخاذ قرار بشأن إعادة الموظفين إلى مكاتبهم في مقار العمل أو بقائهم في المنازل أو اغتنام هذه الفرصة لتبني نموذج جديد لمكان العمل قد يكون أكثر فائدة.
يؤثر مكان العمل على الموظفين بدرجة كبيرة، وذلك ليس بسبب تصميم مكان العمل فقط وإنما بسبب الطريقة التي تتبعها الشركة في تخصيص رأس المال وإدارة موظفيها أيضاً. تختلف آراء الخبراء بشأن ما سيحدث في الفترة المقبلة، إذ يقول البعض إن تجربتنا مع العمل من المنزل كانت ناجحة لدرجة أن نموذج العمل عن بُعد سيصبح دائماً، في حين يقول البعض الآخر إن الموظفين يتوقون للتفاعلات الشخصية التي تتم وجهاً لوجه وإن مناطق الأعمال المركزية مستعدة للعودة بقوة، وما بين هاتين المجموعتين، ثمة مجموعة ترى أن المستقبل لن يتمثل في العمل من المنزل فقط ولا العمل من المكتب فقط، وإنما سيتمثل في حلّ هجين بينهما.
لقد رأينا هذه النماذج بالفعل في أستراليا، حيث واجهت الشركات صعوبات في العودة إلى مكان العمل بعد جهود ناجحة جداً للسيطرة على انتشار الفيروس، ما يعتبر إشارة أولية على الطرق المحتملة التي ستتبعها الشركات في الدول الأخرى لإجراء تعديلات على أماكن العمل بعد الجائحة.
لقد بلغنا المستقبل بالفعل
من أجل المساعدة على توضيح صورة مستقبل مقار العمل، أجريت مؤخراً دراسة استقصائية على 1,600 موظف أسترالي ممن يعملون في المكاتب إلى جانب مقابلات مع عدد من قادة الشركات وخبراء مكان العمل في أستراليا. تعتبر أستراليا دراسة حالة مهمة، فبدلاً من انتظار توفر اللقاح تمكنت من السيطرة على انتشار الفيروس بدرجة كبيرة عن طريق إغلاق حدودها في وجه غير المقيمين وتقييد الرحلات بين الولايات وفرض تدابير الحجر المنزلي وإجراء تعقب مكثف لحالات العدوى تحسباً لتشكل بؤر لتفشي المرض.
في شهر أكتوبر/تشرين الأول من سنة 2020، مع رفع مناطق من أستراليا إجراءات الإغلاق العام الصارمة التي استمرت عدة أشهر، لم يعد سوى 7% من الموظفين إلى مكاتبهم ضمن مقار العمل في مدينة ملبورن صاحبة أعلى نسبة إصابات في البلاد، وذلك وفقاً لمجلس الملكية الأسترالي، وبحلول شهر أبريل/نيسان من العام الجاري، عاد أكثر من 41% من الموظفين إلى مكاتبهم. في المدن الأقل تأثراً بالجائحة، مثل مدينتي برث وأديليد، وصلت نسبة عودة الموظفين إلى المكاتب إلى 70%، وهي أدنى مما كانت عليه قبل انتشار الجائحة. تشهد البلاد باستمرار حالات تفش جديدة للمرض، ما يدفع الحكومة لفرض قيود مؤقتة والاستمرار بإغلاق الحدود، لكن غالبية الأستراليين يتمتعون بحرية في الذهاب إلى المطاعم المغلقة والتجمع في الفعاليات الرياضية الكبيرة والعودة إلى مكان العمل. ومع تكيف الناس مع الحياة من دون تهديد الجائحة يمثل الوضع مؤشراً أولياً لما سيؤول إليه الحال في الدول الأخرى.
والمثير للاهتمام هو أن الشركات في أستراليا لا تتبنى جميعها نفس النموذج في مكان العمل، فبعد سنة من الاضطرابات يقول بعض أصحاب العمل إن موظفيهم يعانون من الإجهاد الناجم عن التغيير ويتوقون إلى شعور الراحة الذي يولده مقر العمل المألوف. هذا جزء من سبب ارتفاع نسبة الموظفين الذين عادوا إلى العمل من مكاتبهم بسرعة بعد رفع إجراءات الإغلاق العام. في حين يرى آخرون أن نهاية الحجر المنزلي هي حافز لتجربة شيء جديد. أعلنت شركة البرمجيات الأسترالية العملاقة "أتلاسيان" (Atlassian) مؤخراً أن الموظفين لن يضطروا إلى الحضور إلى مقار العمل سوى 4 مرات في العام. وفي محادثاتي مع قادة الشركات وخبراء مكان العمل الاستراتيجيين في البلاد، صنفنا النماذج التي يتبعونها في مكان العمل أو يفكرون باتباعها إلى 5 فئات، وهي كما يلي.
الوضع السابق: يعود الموظفون إلى مقار العمل ليستأنفوا نظام الدوام الروتيني من 9 صباحاً حتى 5 مساء. من المحتمل اتباع قواعد صارمة أكثر للنظافة وإتاحة مرونة أكبر ضمن المكاتب، لكن على الأرجح سيكون مقر العمل مركزياً كما كان قبل انتشار الجائحة.
النادي: نموذج هجين يزور الموظفون وفقه مقر العمل عند الحاجة إلى القيام بعمل تعاوني ويعودون إلى منازلهم للقيام بالعمل الذي يحتاج إلى التركيز. وبذلك يكون مقر العمل أشبه بمركز اجتماعي، مكان يقصده الموظفون لعقد الاجتماعات والانخراط في التفاعلات الاجتماعية والأعمال التعاونية.
العمل القائم على الأنشطة: يعمل الموظفون ضمن مقرّ العمل لكن لا يحظى أي منهم بطاولة مكتب خاصة به، بل يتنقلون بين عدة مساحات مخصصة للعمل، كقاعات الاجتماعات ومقصورات الهواتف والمكاتب المشتركة والصالات. قبل انتشار الجائحة كانت معظم مقار العمل القائمة على الأنشطة في أستراليا تضم قرابة 8 مكاتب لكل 10 موظفين (بما أنهم غالباً يعملون في مساحات أخرى من مقرّ العمل). وبعد انتشار الجائحة، تسعى الشركات إلى تقليص هذه المساحة لتضم 5 مكاتب لكل 10 موظفين، إذ تتوقع أن يبقى الكثير من موظفيها خارج المقر ويعملوا من منازلهم يومين في الأسبوع.
المحور المركزي ونقاط التوزيع: بدلاً من الذهاب إلى مقرّ كبير في منطقة الأعمال المركزية، يعمل الموظفون ضمن مقارّ فرعية أصغر في الضواحي والأحياء القريبة من منازلهم. وهذا يوفر عليهم التنقل في المواصلات إلى المقرّ المركزي ويحافظ في نفس الوقت على ميزات التفاعل الشخصي بين الزملاء.
العمل الافتراضي بالكامل: يعمل الموظفون من منازلهم أو من أي مكان يريدون، ما يتيح للشركات التخلص من عقود الإيجار المكلفة ومواصلة العمل بناء على ما بدؤوا به في أثناء الجائحة.
نماذج العمل هذه ليست جديدة، وقامت الشركات باختبارها وتجربتها قبل انتشار الجائحة بزمن طويل، وحتى الذي يعتبر مفهوماً ثورياً منها مثل العمل الافتراضي. إذ جربت شركات التكنولوجيا الكبرى مثل "ياهو" و"آي بي إم" و"هيوليت-باكارد" (آتش بي) السماح للموظفين بالعمل عن بُعد بصورة كاملة قبل انتشار الجائحة. كما أجرت وكالة الإعلانات "تشايات/داي" (Chiat/Day) محاولة باءت بالفشل لتبني نموذج العمل القائم على الأنشطة في عام 1993.
وفي حين عملت بعض الشركات مع هذه النماذج قبل انتشار الجائحة، إلا أن غالبيتها لم تكن راغبة في اختبارها، ومن المتوقع اليوم أن تجرب شيئاً مختلفاً. تعرض الرئيس التنفيذي لشركة "جيه بي مورغان" جيمي دايمون لانتقادات حين أعلن عن خطته لإعادة الموظفين إلى العمل من مقر العمل وفقاً لشروط الوضع السابق وإلغاء جميع الاجتماعات عبر منصة "زووم". واجه معظم قادة الشركات الذين تحدثت إليهم قراراً غير اعتيادي، وكان عليهم تقييم عدد كبير من نماذج أماكن العمل التي تبدو صالحة ولم يألفها غالبيتهم قبل الآن.
تقييم الخيارات
ينطوي كلّ نموذج على مجموعة تنازلات. فنموذج العمل القائم على الأنشطة يوفر المساحات لكنه يحتاج إلى تحول ثقافي هائل. ونموذج المحور المركزي يبدو منطقياً إلا أنه يستدعي تقسيم القوة العاملة استناداً إلى الموقع الجغرافي وليس إلى المشروع أو الوظيفة. والعودة إلى مقر العمل بوضعه السابق هي فكرة مريحة بالنسبة للكثيرين لكن الوضع لن يبدو مألوفاً إلا بعودة غالبية الموظفين. في جميع الأحوال، يبدو أن العمل من المنزل سيبقى مستمراً إلى حدّ ما، وهذا يعني حضور عدد أقلّ من الموظفين في مقر العمل وإجراء مزيد من المكالمات الهاتفية مع العاملين عن بُعد، ولن تعود الأمور إلى سابق عهدها تماماً.
كما أن الموظفين أنفسهم منقسمون في آرائهم حول ما يريدون فعله. وبالنسبة لموظفي المكاتب الأستراليين، كانت النماذج الهجينة هي المفضلة أكثر إذ إنها توفر المرونة للعمل من المنزل والمكتب معاً (نموذجي النادي والعمل القائم على الأنشطة). وفي الجانب الآخر، كان العمل عن بُعد بصورة كاملة هو الأقل شعبية إذ إن أقل من 20% من المشاركين في الدراسة الاستقصائية يعملون حالياً من المنزل بصورة كاملة في أستراليا.
كما لاحظنا اختلافات ديموغرافية في تفضيلات الموظفين. إذ تثمن النساء عالياً مرونة العمل من المنزل والمكتب معاً أكثر من الرجال، ويرغب المدراء في العودة إلى مقار العمل بالوضع السابق أكثر من المساهمين الأفراد، ويتقبّل الموظفون الشباب العمل عن بُعد أكثر من الموظفين الأكبر عمراً. تشير هذه الاختلافات إلى أن القادة سيواجهون خطراً في صناعة القرارات المتعلقة بأماكن العمل إذا لم يقوموا أولاً بجمع الآراء والمعلومات من مجموعة أصحاب المصلحة داخل الشركة.
يكمن الحلّ في الداخل
يجب على القادة الذين يعملون على تقييم هذه الخيارات المحتملة لأماكن العمل التفكير في غاية الشركة واستراتيجيتها وتفضيلات الموظفين وأنماط العمل. خذ مثلاً شركة تكنولوجيا تدفع أجرة باهظة لمقر العمل في مركز تكنولوجي وتبيع منتجاتها عبر الإنترنت، سيكون بإمكانها الانتقال إلى نموذج العمل الافتراضي بالكامل. في حين أن شركة التصميم الصغيرة التي تستخدم مقرها كصالة عرض ومكان للعمل التعاوني ستفضل نموذج النادي. وفي كل الأحوال، يجب على الشركات إدراك أن ما ينجح في شركة ما قد لا يناسب شركة أخرى.
لن تنتهي الجائحة قريباً. ولا تزال أستراليا تشهد حالات تفش للمرض وإجراءات إغلاق عام، ويبدو من غير المحتمل أن تفتح الحدود تماماً قبل حلول عام 2022. بالنظر إلى كل ذلك، قد تبدو هذه الفترة المضطربة غير ملائمة لإجراء تغييرات دائمة في مكان العمل. ومع ذلك فإن تردد الشركات في اتخاذ هذه القرارات سيكون مكلفاً، لأنها ستساعدها في تحديد مسار خروجها من الجائحة. بناءً على وضع انتشار "كوفيد-19" محلياً قد تواجه الشركات بعض العقبات وتضطر لإجراء تعديلات، لكن كحال أي تغيير استراتيجي يعتمد نجاح تبني هذه النماذج على إمكانية اختيار الفريق القيادي المسار الذي سيمضي به قدماً وإيصال رؤيته.
ربما أن الدرس الذي يمكن تعلمه من أماكن العمل في عصر الجائحة لا يتعلق بأي نموذج عمل هو الأفضل من المنزل أم من المكتب، بل في إدراك أن كليهما أثبت جدارته. يبدو من المرجح أن الشركات لن تتبنى نموذجاً موحداً من النماذج المستخدمة في مكان العمل المستقبلي، وإنما ستتبنى كل شركة نموذجاً يتلاءم مع ما تحتاج إليه أعمالها. ومن المحتمل أن ننظر إلى مكان العمل الذي عرفناه في عصر ما قبل الجائحة ونستغرب من أن مقار العمل كانت موحدة تقريباً، وأن المكاتب في شركة المحاماة والصحيفة وشركة التكنولوجيا تبدو جميعها متشابهة وتعمل بنفس الطريقة.