إلى ماذا ستؤدي هذه النقلة النوعية للتعليم الافتراضي على مستقبل التعليم العالي؟

6 دقائق

تحدث التحولات الهائلة في المجتمع وعالم الأعمال عندما تجبرنا الحوادث غير المتوقعة على تجربة فكرة جديدة على نطاق واسع. مثلاً، عندما غادر الرجال الأميركيون منازلهم للمشاركة في الحرب العالمية الثانية، أثبتت النساء أنهن قادرات على القيام "بأعمال الرجال" على أكمل وجه، ولم يتوقفن منذ ذلك الوقت. وكذلك الأمر بالنسبة لمشكلة عام 2000، التي استدعت الاستعانة بمهندسي البرمجيات الهنود بكثافة، ما أدى إلى زيادة عدد تأشيرات الدخول بداعي العمل إلى الولايات المتحدة بمعدل ثلاثة أضعاف. ساعدت قدرة المهندسين الهنود على إصلاح هذه المشكلة إلى إثبات كفاءتهم ومنحتهم دفعة قوية نحو قيادة العالم في حل المشكلات التقنية. واليوم، نجد أن قادة شركات "ألفابت" و"مايكروسوفت" و"آي بي إم" و"أدوبي" جميعهم مهندسون من أصول هندية.

واليوم، يجبر وباء فيروس كورونا العالم على تجربة أساليب التعليم عن بعد. تقول مؤشرات كثيرة أن هذه الأزمة ستؤدي إلى تغيير كثير من نواحي الحياة، وقد يكون التعليم أحدها إذا أثبت التعليم عن بعد نجاحه. ولكن، كيف سنعلم أنه قد نجح بالفعل؟ مع انطلاق هذه التجربة التي تسببت بها الأزمة، يجب أن نجمع البيانات وننتبه للأسئلة الثلاثة التالية حول نموذج عمل التعليم العالي وإمكانية تقديم تعليم جامعي بجودة عالية.

هل يحتاج الطلاب فعلاً إلى قضاء أربعة أعوام في الدارسة الجامعية التقليدية؟

للإجابة عن هذا السؤال، يجب أن نفهم الأجزاء التي يمكن استبدالها من نموذج الأعوام الأربعة الحالي، والأجزاء التي يمكن إضافتها والأجزاء التي يمكن استكمالها بواسطة التقنيات الرقمية.

نظرياً، يمكن تسجيل المحاضرات التي لا تحتاج إلى إضفاء الطابع الشخصي أو التفاعل البشري بدرجة كبيرة وتقديمها بصيغة عروض تقديمية متعددة الوسائط، ليشاهدها الطلاب حيثما كانوا كل حسب وتيرته. يمكن أن يقوم مدرسون غير جامعيين بتدريس هذه الأجزاء المعدلة من المناهج بسهولة على المنصات الرقمية، مثل "كورسيرا" (Coursera)، تماماً كما تدرس نظرية فيثاغورس مثلاً في جميع أنحاء العالم. في هذه المواد، يمكن أن تعمل المنصات التقنية على إيصال المحتوى لجمهور واسع وبكلفة قليلة، من دون التضحية بإحدى المزايا الهامة للفصول الدراسية التقليدية وهي الخبرة الاجتماعية، لأنها غير موجودة في هذه المواد الأساسية.

وعندما تخلو المناهج من المواد القابلة للتعديل، يتاح للكليات الاستعانة بمزيد من المقررات التي تساعدها على الالتزام بالتعليم القائم على البحث وحل المشكلات ذات الطابع الشخصي والتوجيه. كما سيتاح للطلاب أيضاً مزيد من الموارد التي ستكون في متناول أيديهم، نظراً لعدم ضرورة تخصيص أربعة أعوام من أعمارهم من أجل الالتزام بالحضور إلى مبنى الجامعة. سيكون بإمكانهم دراسة المواد المعدلة على الإنترنت كل حسب ما يلائمه وبكلفة أقل كثيراً. وبذلك، يمكنهم استثمار وقتهم الثمين الذي يقضونه في حرم الجامعة لدراسة المواد الاختيارية والقيام بالمهمات الجماعية المشتركة وإنهاء الساعات المطلوبة من العمل في مكاتب الهيئة التدريسية، والانخراط في التفاعلات الشخصية والتوجيه المهني والأمور التي لا يمكن القيام بها عن بعد. أضف إلى ذلك أن الحضور إلى مبنى الجامعة يساعد على بناء شبكات العلاقات الاجتماعية وتنفيذ المشاريع الميدانية وبعثات التعليم العالمي التي تتطلب تفاعلات شخصية. هذا نموذج هجين للتعليم ينطوي على إمكانية جعل التعليم الجامعي ميسور التكلفة للجميع.

ولكن، هل يمكننا الانتقال إلى نموذج هجين؟ نحن على وشك اكتشاف ذلك. فالطلاب يأخذون دروسهم عن بعد، والمدرسون مجبرون على إعطائها من منازلهم أيضاً. والآن، يحاولون جميعهم اتباع طرق بديلة في التعامل مع نفس المواد والأشخاص الذين كانوا يتعاملون معهم بصورة شخصية منذ أسابيع. لذا، يمكن لكلا الطرفين مقارنة خبراتهم الشخصية السابقة مع خبراتهم الحالية في الدراسة والتعليم عن بعد، وذلك ينطبق على كل المجالات الأخرى.

وفي التجربة الحالية، يجب على الطلاب والأساتذة والموظفين الإداريين في الجامعات متابعة المواد التي تستفيد من التعليم عن بعد والتي لا ينجح فيها هذا الأسلوب. ويجب أن يفتحوا غرف محادثة تدعم المشاركة مجهولة الهوية لتسهيل مناقشة مشاكل التقنية وتصميم المواد وإيصالها وتقييم الأساليب المتبعة. إذ يمكن لهذه البيانات تزويد أصحاب القرار بالمعلومات اللازمة لاتخاذ قراراتهم المستقبلية بشأن الوقت المناسب لاتباع أساليب التعليم عن بعد والأسباب التي تسوغه، والمواد التي يجب أن تدرّس بالطرق التقليدية ضمن حرم الجامعة والمواد التي يجب استكمالها أو الإضافة عليها بواسطة التقنية.

ما هي التحسينات اللازمة في البنية التحتية لتقنية المعلومات كي تصبح مناسبة لأساليب التعليم على الإنترنت؟

يوافق كثير ممن تحولت جداول أعمالهم اليومية إلى قائمة من الاجتماعات الافتراضية، على ضرورة معالجة عدد من المشاكل المتعلقة بالبرمجيات والأجهزة قبل انطلاق عملية التعلم عن بعد فعلياً. لا شك لدينا في إمكانية استخدام التقنيات الرقمية على نطاق واسع، كالهواتف الذكية وخدمات السحب الإلكترونية والذكاء الاصطناعي.. إلخ، بيد أننا نعلم أن علينا القيام بكثير من العمل أولاً. من جهة الأجهزة، يجب معالجة مشكلتي سعة عرض النطاق والتفاوت الرقمي. فالتعليم التقليدي يلغي كثيراً من الاختلافات، لأن الطلاب في القاعة الدراسية الواحدة يتساوون فيما يقدم إليهم. بينما يفاقم التعليم على الإنترنت الانقسام الرقمي، فالطلاب الأثرياء يملكون أحدث أجهزة الكمبيوتر النقال (لاب توب)، ولديهم اتصال جيد ومستقر بالإنترنت، ومعدات متطورة للاتصال بالصوت والصورة.

قد تكون برمجيات المكالمات الهاتفية الجماعية بداية جيدة، ولكنها غير قادرة على التعامل مع بعض الوظائف الأساسية، كاستيعاب عدد كبير من الطلاب وتقديم تجربة ذات طابع شخصي لكل منهم في نفس الوقت. حتى في القاعة الدراسية التي تضم ألف طالب، يمكن للأستاذ أن يشعر بدرجة استيعاب الطلاب للمفاهيم التي يطرحها، فيغير وتيرته في إلقاء المحاضرة حسب الحاجة. كما يمكن للطالب أن يدرك أنه يطرح كثيراً من الأسئلة ويؤخر الدرس. هل تتمتع تقنياتنا بما يكفي من الكفاءة لتحقيق هذه الميزات افتراضياً؟ ما هي الأمور الأخرى التي يجب علينا تطويرها؟ يجب على الأساتذة والطلاب الانتباه للصعوبات التي يواجهونها ومناقشتها، وتسهيل التطوير التقني والمطالبة به في هذه المجالات.

كما تستدعي الدروس على الإنترنت دعماً تعليمياً على أرض الواقع، ويجب على المصممين والمدربين والموجهين التعليميين ضمان تعلم الطلاب وإتمام المواد. فهناك انقسام رقمي بين الجامعات، وسيصبح أوضح في التجربة الحالية. إذ تملك أبرز الجامعات الخاصة بنية تحتية أفضل لتقنية المعلومات ونسبة أعلى من موظفي دعم تقنية المعلومات لكل مدرس مقارنة بالجامعات العامة ذات الميزانية الضعيفة.

ما هي جهود التدريب اللازمة للمدرسين والطلاب من أجل تسهيل تغيير العقلية والسلوك؟

لا يمكن لجميع المدرسين التعامل بسهولة مع القاعات الدراسية الافتراضية، وهناك انقسام رقمي بين المدرسين الذين لم يسبق لهم استخدام معدات اتصال الصوت والصورة الأساسية، ويعتمدون على السبورة واللوحات والجداول، والمدرسين الأصغر عمراً الذين ألفوا التعامل مع التقنيات الحديثة. ومع دخول الطلاب إلى القاعات الدراسية الافتراضية من جميع أنحاء البلاد في الأسابيع المقبلة، سيعرفون أن العديد من المدرسين ليسوا مدربين على تصميم العروض التقديمية متعددة الوسائط التي تضم الملاحظات والصور التوضيحية المفصلة. لذا، يجب على الكليات والجامعات استثمار هذه اللحظة لقياس التدريب اللازم من أجل توفير تجربة سلسة.

كما يواجه الطلاب عدداً من المشاكل مع الدروس على الإنترنت. فالالتزام بمتابعة الجدول الزمني للجامعة يجبرهم على إنهاء المادة بدلاً من الاستمرار بتأجيلها إلى أجل غير مسمى. كما يمكن ألا يشعر الطالب عندما يحضر دروساً على الإنترنت بالانتماء إلى مجموعة زملائه، هذا الانتماء الذي يرسخ روح المنافسة في القاعات الدراسية التقليدية ويحفز الجميع للتفوق. كما يعاني كل ما ينفذ عبر الإنترنت من مشكلة في تركيز الانتباه، لأن الطلاب يقومون بعدة مهام في وقت واحد، فيتفقدون الرسائل الإلكترونية ويجرون محادثات مع أصدقائهم ويتصفحون الإنترنت أثناء المحاضرة الافتراضية. ونحن آباء ومدرسون، ونعرف أن هذا ما يحدث بالفعل.

هل يمكن تغيير هذه العقليات؟ نحن نجري التجارب ونختبر الأخطاء لمعرفة ذلك في ظل التباعد الاجتماعي المفروض حالياً، ويقوم كل من المدرسين والطلاب على حد سواء بالتعديلات والموازنات اللازمة في أثناء الفصل الدراسي. وتتم مراجعة المقررات الدراسية ومحتوى المواد في أثناء تدريسها، كما يتم تحويل طرق التقييم، كالامتحانات والاختبارات المفاجئة، ووضعها في صيغة ملائمة للاستخدام على الإنترنت. وبالنظر لضيق الوقت، يتكيف الموظفون الإداريون والهيئات الطلابية في الجامعات مع هذا الوضع الجديد ويتيحون للمدرسين ابتكار الطرق الأنسب لهم. يجب أن يعمل المدرسون والطلاب والإداريون على مناقشة التغيرات التي تطرأ على عملية التدريس والتعليم على مدى فترة محددة بدءاً من اليوم الأول لتطبيق التعليم الافتراضي، وهذا سيوفر الأفكار اللازمة عن أساليب تدريب المدرسين والطلاب المستقبليين على استخدام وسائل التعليم الافتراضي.

تجربة واسعة النطاق

فرض وباء فيروس كورونا المتفشي قيام تجربة عالمية قد تسلط الضوء على الاختلافات ومفاضلات التكلفة والربح بين مجموعة الخدمات التي تقدمها الجامعات التقليدية، والتعليم ذي التكلفة المنخفضة للغاية الذي تقدمه منصات التعليم عبر الإنترنت، مثل كورسيرا. منذ بضعة أعوام، تنبأ الخبراء بأن الدورات التعليمية الجماعية المفتوحة على الإنترنت، مثل "أكاديمية خان" و"كورسيرا" و"أوداسيتي" (Udacity) و"إيد إكس" (edX)، ستنهي التعليم التقليدي في الجامعات، تماماً كما أنهت التقنيات الرقمية وظائف العاملين في مقاسم الهاتف ووكالات السفريات. لكن بقي التعليم التقليدي في الجامعات صامداً حتى اليوم.

ربما ستثبت التجربة الحالية أن التعليم الجامعي التقليدي الذي يستمر أربعة أعوام لن تدوم أمجاده بعد الآن. إذ تشير عدة عوامل أنه قد آن أوان زعزعة قطاع التعليم الجامعي، وأهم هذه العوامل هي تكاليف التعليم المتزايدة التي أصبحت تتعدى الإمكانيات المادية لمعظم العائلات، وقد تكون أزمة فيروس كورونا هي التي ستقوم بهذه المهمة. ستحدد طرق تجربة استجابتنا للأزمة وتوثيقها وفهمها اليوم ما إذا كان التعليم عبر الإنترنت سيتطور وطريقة تطوره، على اعتباره فرصة لمستقبل أفضل. كما ستغني هذه التجربة الخطاب السياسي في الولايات المتحدة، فقد وعد بعض السياسيين بتقديم التعليم الجامعي المجاني، ماذا لو أثبتت هذه التجربة أنه ليس من الضروري أن يتسبب التعليم الجامعي بإفلاس الطلاب؟

بعد انحسار هذه الأزمة، هل سيكون من الأفضل لجميع الطلاب العودة إلى القاعات الدراسية ومتابعة الوضع الراهن؟ أم سنكون قد توصلنا إلى بديل أفضل؟

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي