ما أهمية معرفة الزبائن بالنشاط الإنساني الذي يقف خلف المنتجات؟

4 دقائق

أينما يمّمت وجهك في هذا الزمان بدت لك التجارة الحديثة وكأنها صُمّمت لفصل البشر عن بعضهم البعض. فالهواتف الذكية تحبس انتباهنا داخل العالم الافتراضي، والشراء عبر الإنترنت يتيح لنا التصفح والتسوق دون مفارقة منازلنا، أما ماكينات الصرّاف الآلي فقد صُمّمت على ما يبدو لمحو التفاعل البشري بشكل كامل.

تُظهر أبحاثي، وأبحاث أخرى، أن الناس عندما يتفكرون في ماهية الإنسان فإنهم يفترضون، كما هو معتاد، وجود اثنتين من القدرات الأساسية: الخبرة الواعية (أي القدرة على الإحساس) والعمل (أي امتلاك الأفكار والمقاصد). ومحور هذا المفهوم هو تفاعل الإنسان مع الإنسان. وبناءً على ذلك، فإن الشركات التي تحاول أن تُقصي زبائنها عن بقية البشر تفقد بذلك تكتيكاً بالغ الأهمية. فإعادة تركيز منتجاتهم على الخدمات التي تدور حول قوة التفاعل الإنساني يعطي الفرصة لإيجاد قيمة اجتماعية واقتصادية هائلة.

إنّ للاتصال الإنساني قوة سحرية: فعلى سبيل المثال، تُظهر الأبحاث أنّ إمساك أحد الزوجين بيد الآخر، أو حتى الإمساك بيد أحد الغرباء في بعض الحالات يقلل من حدة المنبهات المؤلمة (مثل الحرارة المفرِطة، والصدمات الكهربية).

إنّ اللمسة الإنسانية أيضاً تُضفي أهمية خاصة على الخبرات والمنتجات، ومن ثَمّ تنمي إحساس الناس بقيمة تلك الخبرات والمنتجات. والواقع أن المؤسسات الذكية، بدلاً من الاستمرار في تشغيل خدماتها تلقائياً بأي ثمن، سوف يكون من الحكمة أن تفهم الطرق التي يعمل بها الوجود البشري على خلق القيمة في ذهن المستهلكين. دعونا نتعرف إلى الأدلة المتعلقة بالطرق الثلاثة الأساسية على أهمية الاتصال الإنساني.

النية والقصد

عندما يجرب الزبائن تعاملاً مع بعض الشركات، فإنهم يرغبون في الإحساس بأن ذلك التعامل، كما لو أنه نتج عن عمل بشري بدلاً من بعض عمليات الأتمتة المجردة. فالإحساس بالنية والقصد الإنساني في أصل التفاعل أمر حيوي لأن الناس يميلون إلى مساواة القصد والنية بالهدف والمغزى. فعلى سبيل المثال، يثبت أحد الأبحاث التي قام بها عالم النفس كورت غراي أنّ الناس يستمتعون أكثر على كرسي التدليك عندما يتحكم الإنسان وليس الكمبيوتر في آلية التدليك - فوجود علامات تدل على القصد البشري يجعل للتجربة مغزى أكبر. وترى دراسة أخرى لغراي أنّ الناس يفضلون مذاق الحلوى التي اختارها الآخرون لهم عن قصد (أكثر من تلك التي اختيرت عشوائياً). وأظهرت دراسة أخرى أجراها أستاذ التسويق ستين فان أوسيلير أنّ الناس يدفعون ثمناً أكبر لشراء المنتجات يدوية الصنع، مثل بطاقات التهنئة والحُلِيّ والأوشحة والسكاكين، مقارنةً بالمنتجات آلية الصنع لأنهم يعتقدون أنّ السلع اليدوية صُنعت بِنيّة تنُمّ عن الحب.

إنّ زيادة الطلب على المنتجات اليدوية لهو أحد تبعات العصر الرقمي والدفع نحو الإنتاج بالجملة. وليس هذا بمستغربٍ للمتجوّل في الأحياء البوهيمية، حيث يرى اللافتات المعلقة على واجهات المتاجر تُعلن في وضوح عن المنتجات التقليدية للصابون والمُستردة، ومع ذلك فإنّ العمل اليدوي يزدهر على نطاق واسع خارج هذه الزوايا الحضرية. ويشهد العمل التجاري إقبالاً بمعدلات صاروخية على موقع التجارة الإلكترونية "إتسي" (Etsy) الذي يُعَد ملاذاً للحرف والبضائع اليدوية، كما أنّ منافِسه "أمازون هاندميد" (Amazon Handmade)، الذي يحمل العلامة التجارية لشركة "أمازون"، يواصل نموه هو الآخر. بل لقد أظهرت دراسات السوق أنه من المتوقع ازدياد الطلب بقدر كبير على الآيس كريم التقليدي المصنَّع يدوياً خلال السنوات الأربع اللاحقة. أحقّاً يستطيع الزبائن التمييز بين مذاق الآيس كريم المصنع يدوياً وذاك الذي يباع في المتاجر؟ إنّ الفرق غير واضح، ولكن يبدو أنّ اللمسة اليدوية تولّد الإحساس بوجود شيء مميَّز.

الجهد

تشير الأبحاث الذي قام بها ريان بيول ومايكل نورتون، الأستاذان بكلية هارفارد للأعمال، إلى أن الزبائن يستمتعون أكثر بطلب الشطائر عندما يشاهدون صانع الشطائر وهو يُعد الطعام (بدلاً من مجرد طلب الطعام واستلامه عند التوصيل). ويحصل هذا الرضا المتزايد بشكل جزئي، وذلك لأن الناس يقدّرون المنتجات القائمة على الجهد المتصوَّر المبذول في سبيل إنتاجها، فالتفاعل الإنساني يجعل الجهد شفافاً واضحاً. ويُعرَف هذا الاتجاه باسم "الجهد الإرشادي"، ولقد ظهر أول ما ظهر في بحثٍ يُشير إلى أن الناس يقدّرون القصيدة أو الصورة الزيتية أو شعار النبالة تقديراً أكبر عندما يعلمون بالجهد الكبير (مقارنة بالجهد القليل) المبذول لإنتاج تلك السلعة. ولا يعني هذا أن تطلب المطاعم من طهاتها أن يطبعوا بصماتهم بوضوح على أصناف الطعام لكي ينقلوا جهدهم المبذول. وإنما يمكن للشركات، ببساطة، أن تستفيد من خلال زيادة "الشفافية التشغيلية"، كما يسميها بويل، وهي التي تشير إلى الجهد البشري الذي تنطوي عليه خدماتهم.

تقوم خدمة "كافيار" لتوصيل الطعام (Caviar)، على سبيل المثال، بإخطار الزبائن بكل مرحلة من مراحل عملية تجهيز الطلب، من وقت استقبال الطلب من الزبون، يتم إعداد الطعام، ثم يؤخذ لتسليمه بما في ذلك اسم عامل التوصيل، مما يضمن معرفة الزبون أنّ طعامه في أيدٍ (بشريةٍ) أمينة. يُظهر بحث آخر قامت به عالمة النفس فيرونيكا جوب مع بعض زملائها أنّ التذكير البسيط بالمشاركة الإنسانية يزيد من القيمة. في هذا البحث، كان الزبائن الذين علموا أنّ نوعاً معيناً من غلاف الهدايا الذي "صُنع من قِبل أشخاص في مصنع صغير بنبراسكا" يقدرّون المنتج أكثر مقارنةً بأولئك الذين علموا أن غلاف الهدايا ذاته "صُنع في مصنع صغير بنبراسكا" (دون الإشارة "للأشخاص" المصنِّعين). فبالنسبة للكثيرين، الإنسان = الجهد، والجهد يصنع القيمة.

الأصالة

لماذا يدفع الناس مقابل المزيد من سلع المزاد التي كان لها اتصال جسدي مع مالكيها، ولماذا يُتوقع ازدياد الرغبة في شراء هذه السلع مع ازدياد درجة التلامس الجسدي؟ ووفقاً للبحث الذي أجراه علماء النفس جورج نيومان وبول بلوم، تنشأ هذه الميول نتيجة الاعتقاد السحري الذي يعتقده الناس في "العدوى الإيجابية"، الفكرة القائلة بأنّ المالك قادر على بثّ روح الأصالة في أي جسم من خلال اللمس. إنّ الأصالة، مثلها مثل الجهد والقصد، توجد قيمة، ويبيّن البحث ذو الصلة الذي قام به نيومان وبلوم أنّ السبب الذي يجعل الناس يفضلون شراء الأعمال الفنية الأصلية على النسخ المطابقة للأصل تماماً هو الأصالة المتصوَّرة التي انتقلت عبر أنامل الفنان.

تدرك الشركات قيمة الأصالة سواء كانت شركة "هارلي ديفيدسون" (Harley Davidson) التي سجلت العلامة التجارية للصوت المميَّز لمحركها الخاص "في توين" (V-Twin)، أو الكعك المحلَّى لشركة "كرسبي كريم" (Krispy Kreme) التي تتباهى بأنها احتفظت بنفس وصفتها منذ عام 1937، أو مجرد تقديم شهادة أصالة من قِبل العلامات التجارية الفخمة مثل "رولكس" (Rolex). ومع ذلك فقد تبين أنّ التأكيد على مشاركة الإنسان في المنتج هو إحدى أبسط الطرق لإيجاد الأصالة. وقد مشَّط أحد الأبحاث التي قادها عالم السلوك التنظيمي بالاش كوفاكس أكثر من مليون ومائتي ألفٍ من مراجعات المطاعم على موقع "يلب" (Yelp)، فوجد أنّ المطاعم التي تلقت مراجعات تتضمن كلمات أكثر عن الأصالة حصلت على تصنيفات أعلى أيضاً، وهو نمط متصاعد للمطاعم المملوكة للعائلات. وقد بيَّن كوفاتش، في تجربة متابعة، أنّ تقييم الناس للمطعم بوصفه أكثر أصالة يكون عند قراءتهم عن المطعم كملكية عائلية مقارنة بملكيته من قِبل سلسلة من المطاعم. فالإشارة البسيطة للبشر (العائلة في هذه الحالة) زادت من درجة الأصالة، ومن ثمّ صنعت قيمة إضافية.

بالنظر إلى الأهمية التي يقرنها الناس بالاتصال الإنساني، يمكن للشركات أن تستفيد بأن تجعل اللمسة الإنسانية أكثر وضوحاً عند إنتاج سلعها وخدماتها. تشير اللمسة الإنسانية إلى أنّ الشركات تعمل بجدٍ، وأصالةٍ، ولهدفٍ مقصود، وكل ذلك يشكّل معنى في أذهان المستهلكين. حتى في عصر خالٍ من الإنسان على نحو متزايد، مع وجود سيارات بغير سائق ومستودعات بغير عمال بالفعل، لا تزال التفاعلات البشرية مهمة للمستهلكين.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي