بمقدور مراكز القدرات العالمية تخفيض معدلات استنزاف الموظفين فيها إلى النصف، إذا ما طبّقت خمسة إجراءات مركّزة.
تواجه مراكز القدرات العالمية (Global capability centers) تحدّياً دائماً ومثيراً للقلق يتمثل في كيفية استمالة أصحاب المواهب الجيّدة للبقاء لديها وثنيهم عن مغادرتها. وفي المحادثات التي خضناها مع مراكز القدرات العالمية، ذكر المسؤولون التنفيذيون أن معدلات استنزاف الموظفين مرتفعة. وقد قاد المزيج المتمثل في مغادرة الموظفين للشركات والتقلبات الحالية في سوق أصحاب المواهب إلى هز الاستقرار في ثقافة الشركات وزعزعتها، وزيادة تكاليف التوظيف، وأدى إلى خسارة للمعارف المؤسسية، وإمضاء وقت إضافي في تدريب الموظفين الجدد، وانخفاض في الإنتاجية وجودة العمل.
وعلى الرغم من أن بعض الضغوط المتعلقة باستبقاء العاملين تتراجع ضمن المناخ الاقتصادي الحالي، فإن المشاكل الأساسية لا تزال قائمة، وتتمتع الشركات التي تتبنى أسلوب التفكير التقدّمي الذي يركز على المستقبل الآن بفرصة ذهبية لمعالجة هذه المشاكل.
يدرك معظم القادة أهمية حل مسألة استبقاء الموظفين. لكن المشكلة تكمن في أنهم يميلون إلى امتلاك فهم محدود للأمور التي تحظى بتقدير موظفيهم في حقيقة الأمر، وغالباً ما يختارون الحلول السريعة بدلاً من معالجة المشكلات الجوهرية. ويؤدي هذا النهج إلى الاعتماد على مجموعة من الأدوات الصريحة، مثل زيادة التعويضات والمزايا أو توفير المرونة من خلال السماح للموظف ببساطة بالعمل من المنزل. لكن هذه الأدوات وكما هو متوقع لا تقود إلى تغيير كبير في معدلات استبقاء الموظفين.
غير أن ثمة سبيلاً أفضل للتعامل مع المسألة. فقد أوضح بحثنا بجلاء أن أفضل حل للمشكلة يكمن في تحسين تجربة الموظفين، ما يعزز ولاءهم، ويقود نتيجة لذلك، إلى قدر أكبر من المرونة والاستمرارية. ويجب على المدراء التنفيذيين التعامل مع تجربة الموظفين بالجدية نفسها التي يتعاملون بها مع تجربة العملاء من خلال تبنّيهم لنهج أكثر علمية وتفصيلاً في مقاربتها.
تكشف أبحاثنا وتحليلاتنا النقاب عن أنه على الرغم من أهمية التعويضات والمزايا الممنوحة إلى الموظفين، فإنها أصبحت في الأساس تحصيل حاصل، إذ بات أصحاب أفضل المواهب يتطلعون إلى الحصول على منافع ومكاسب إضافية، مثل وجود ثقافة إيجابية وداعمة فضلاً عن التمتع بالمرونة اللازمة ليبقوا في المؤسسة الحالية أو ليبحثوا عن وظيفة جديدة. فإذا ما تبنّت الشركات خمسة إجراءات مركّزة، فإنها لن تتمكن من الحفاظ على موظفيها فحسب، بل ستساعدهم أيضاً على زيادة إنتاجيتهم.
5 إجراءات لتحسين تجربة الموظفين
رغبة منّا في فهم ما يريده الموظفون من مؤسساتهم، أجرينا بحثاً يهدف إلى دراسة الممارسات التي تتبناها المؤسسات المختلفة حول العالم بخصوص التعامل مع تجربة الموظفين. وقد سلّطت النتائج التي استخلصناها الضوء على خمسة إجراءات يمكن للمدراء التنفيذيين اتخاذها لتوفير بيئة عمل تقدّم دعماً أفضل للموظفين.
1. استخدام أسلوب دراسة الطباع الشخصية ومفهوم الرحلات لتوفير تجربة موظفين تتناسب مع احتياجاتهم
حدّد تحليلنا تسع رحلات أساسية يخوضها الموظفون في أي شركة، وتوصّل إلى أن ستاً منها ذات تأثير كبير على انضمام الموظفين إلى مؤسسة ما أو بقائهم فيها (الشكل 1). ويمكن لأربع من هذه الرحلات – وتحديداً تغيير الأدوار أو المناصب، وتقديم الآراء التقييمية والإرشاد والتوجيه، ومراجعة الأداء، والتدريب وبناء المهارات – أن تفضي إلى نتيجة سلبية إذا ما نفّذت تنفيذاً سيئاً. فعلى سبيل المثال، توصّل استطلاعنا إلى أن رضا الموظفين عن "الرحلات غير المكتملة" الأربعة هذه ينخفض مع تزايد مدة وجودهم على رأس عملهم، في حين سُجّلت أعلى درجات الانخفاض هذه في أوساط النساء.
لن يكون اتّباع نهج موحّد يُطبّق على الجميع فيما يتعلق بتجربة الموظفين ناجعاً. وبدلاً من ذلك، يجب على الشركات تحديد الطباع الشخصية للموظفين ومن ثم تصميم الحلول وفقاً لأبعاد منتقاة لضمان تأدية العروض المقدمة لهم للهدف المنشود منها. فعلى سبيل المثال، نظراً لأن مركز القدرات العالمية التابع لأحد البنوك العالمية حدد "توفير الدعم للموظف في أثناء الأحداث الكبرى التي تحصل في حياته" باعتباره رحلة تهمُّ معظم الموظفين، فقد أعاد تصميم سياساته وبرامجه الخاصة بمنافع الموظفين لتشمل سداد تكاليف إنشاء مكتب للموظف في منزله ودعم عافيته.
2. إعادة النظر في دور المدير مع التشديد على التدريب والإرشاد
عندما كانت القوى العاملة ترتاد المكاتب بانتظام، اعتاد المدراء على قضاء جل وقتهم في مراقبة أداء الموظفين والتعامل مع المهام الإدارية. فعلى سبيل المثال، في مركز قدرات عالمية تابع لإحدى شركات التأمين العالمية، أمضى أحد المدراء 20% من وقته في إدارة المسائل المتعلقة بالنقل والدوام. أما في حقبة العمل الهجين أو المختلط، فيجب أن يكون المدراء مستعدين لتوفير التدريب الفردي وتقديم الآراء التقييمية للموظفين، سواء وجهاً لوجه أو افتراضياً عبر الإنترنت.
ظهر هذا الاستنتاج بوضوح في تحليلنا الذي توصّل إلى أنه عندما يُظهِرُ المدير اهتماماً بالعاملين، فإن تجربة الموظفين تتحسن. وفي حين أن هذه النتيجة قد لا تكون مفاجئة، فإن الشركات تميل إلى التقليل من شأن تأثيرها وتفشل في تعديل ما تريد من مدرائها أن يفعلوه. وبدلاً من ذلك، تحتاج الشركات بصورة أساسية إلى إعادة النظر في الأدوار والمناصب وصياغتها بحلّة جديدة (الشكل 2).
إذا ما أراد المدراء تلبية الاحتياجات المتغيّرة للقوى العاملة، يجب عليهم أن يكونوا مستعدين لأداء أربعة أدوار أساسية:
دور حلّال المشاكل. الشخص الذي يقدّم الدعم للأنشطة التشغيلية والإدارية العالية التعقيد (مثل مساعدة العمليات الداخلية ونقل مشكلات العملاء إلى المستوى الأعلى المطلوب لحلّها).
دور الموجّه أو المرشد. الشخص الذي يوفّر المساعدة للموظفين من خلال إرشادهم إلى الطريق الصحيح، وتوجيههم بما يعينهم على بناء قدراتهم وخبراتهم الوظيفية.
دور المستشار. الشخص الذي يفهم التطلعات المهنية للموظفين، ويوفّر لهم الرعاية فيما يخص صحّتيهم البدنية والنفسية، ويؤدي دور المستشار الموثوق.
دور سفير ثقافة الشركة. الشخص الذي يعزّز الارتباط والتواصل بين الموظفين العاملين في بيئة عمل هجينة، ويجسّد المثال الأعلى للسلوك والقيم المرغوبة، كأن يسهّل إمكانية وصول الموظفين إليه في أي وقت، وينخرط في نوع من التواصل الاستباقي.
يتطلب هذا التحول من الشركات الاستثمار في المزيد من التدريب وتصميم حوافز جديدة، إذ يمكن لبرامج التدريب أن تساعد المدراء على التركيز على اكتساب مهارات أساسية جديدة (مثل التدريب عن بُعد، والإرشاد والتوجيه، وتعزيز العلاقات بين الأشخاص، وبناء الثقة، والمساعدة في إدارة التوتر، وتعزيز العافية) واستخدام التقنيات الجديدة. ويمكن للشركات توفير موجهين ومرشدين من أقسام مختلفة ومنح المدراء وقتاً يتفرّغون فيه لبناء هذه المهارات إذ سيساعدهم ذلك على إتقان كيفية أداء أدوارهم الجديدة.
3. البحث عن طرق جديدة لترسيخ الثقافة والقيم التي تناسب بيئة العمل الهجينة
ترتبط الثقافة الإيجابية والداعمة، التي تتميز بالشمول والاحترام، ارتباطاً وثيقاً بالعافية الإجمالية للموظفين وتجربتهم (الشكل 3). وفي كثير من الأحيان، يمكن أن يكون لهذه السمات تأثير كبير على مدى الارتباط بين الموظف وهدف المؤسسة وعلامتها التجارية. وينطبق هذا النمط بصورة خاصة على حالة الموظفات، فمع ارتقاء النساء للسلم الوظيفي في عالم الشركات، تميل عافيتهن للأسف إلى تسجيل انخفاض كبير.
إن الافتقار إلى التفاعل الشخصي وجهاً لوجه يعني أن الشركات مضطرة إلى ابتكار طرائق جديدة للترويج إلى ثقافتها وقيمها، وتعزيزهما وتجسيدهما. وثمة أساليب مفيدة كثيرة لفعل ذلك تشمل برامج التقدير، والأنشطة الافتراضية المخصصة لبناء الفرق، وإصدار كتيّب يحدد رسالة المؤسسة ورؤيتها وثقافتها. وسيتعين على الشركات أيضاً الاستثمار في القدرات التقنية لإيجاد طرائق جديدة لإشراك الموظفين عن بعد بفعّالية. ففي مركز القدرات العالمية التابع لأحد البنوك العالمية، أدى مسؤولو القيادة العليا دور القدوة لثقافة المؤسسة، ودربوا المدراء على تأدية دور "أبطال الثقافة وسفرائها" لكي يساعدوا في الترويج للممارسات الفضلى في طرائق العمل الجديدة.
4. إعادة تصميم المكتب لتهيئته للمزيد من التعاون والتواصل
يبحث الموظفون دائماً عن المرونة في مكان عملهم. وقد أظهر استطلاعنا أن أكثر من 90% من الموظفين يفضلون النموذج الهجين، وبمتوسط دوام ليوم ونصف فقط في الأسبوع في المكتب. كما أفاد ثلاثة أرباع الموظفين بأن العمل من المنزل عامل مهم جداً للبقاء في مؤسستهم الحالية. وقال أكثر من 70% من الموظفين إنهم يريدون أن تكون مدة تنقلاتهم بين المنزل والعمل أقل من 30 دقيقة (الشكل 4). لذلك، من الضروري أن تلجأ الشركات إلى تصميم نموذج عمل هجين فعّال وتطبيقه.
تتزايد نظرة العاملين إلى المكتب بوصفه مساحة للتعاون والتواصل. ويمنحنا هذا الشعور لمحة عن شكل مكتب المستقبل الذي سيكون أصغر حجماً ويضم مساحات عمل مرنة، بحيث لا تقل مساحة الأماكن المخصصة للاستخدامات المتعددة عن 50%. وإذا ما أرادت الشركات تشجيع الموظفين على القدوم إلى المكاتب، فيجب عليها أيضاً استكشاف إمكانية إنشاء مكاتب فرعية في مواقع مختارة قريبة من أماكن وجود الموظفين لتمكينهم من إنشاء تجمعات صغيرة، على أن يخصص المكتب الرئيسي للتطوير والتعاون واستضافة الأنشطة الاجتماعية.
في مركز القدرات العالمية التابع لأحد البنوك العالمية، أعاد القادة تصميم المكاتب بطريقة جذرية. وأدى النهج الجديد حتى الآن إلى تقليل المساحة المخصصة لإنجاز الأعمال التقليدية بأكثر من النصف، مع إضافة مناطق مجتمعية مشتركة مخصصة للأنشطة مثل التدريب والألعاب والفعاليات. لا يلبّي هذا التصميم الجديد للمكتب، والمفصّل بحسب الأغراض المطلوبة، احتياجات الموظفين الجدد بقدر أكبر من الفعالية فحسب، بل من المتوقع أيضاً أن يقلل من البصمة الإجمالية بنسبة 40%.
5. إعادة النظر في يوم العمل التقليدي
خلال فترة جائحة كوفيد-19، أصبح التوازن بين العمل والحياة الشخصية يحظى بالأولوية وتحديداً بين صفوف الموظفين من أبناء الجيل زد (أي الأشخاص الذين ولدوا بين منتصف تسعينيات القرن الماضي وبداية العقد الثاني من الألفية الجديدة) والآباء والأمهات العاملين. لذلك فإن التمتع بالمرونة اللازمة للوفاء بالالتزامات الشخصية والعائلية مع العمل ليوم كامل يروق لمجموعة واسعة من أفراد القوى العاملة.
استجاب مركز الخدمات المشتركة التابع لأحد البنوك العالمية لهذه الحاجة من خلال منح الموظفين المزيد من المرونة في تحديد جداول دوامهم (مثل منح الموظفين خيار تبادل الورديات مع زملاء العمل وتقسيم الورديات فيما بينهم) لتكون متوافقة مع الخيارات المفضّلة لأنماط الشخصيات المختلفة وظروف حياة كل موظف. وقد علّق أحد الموظفين على هذه التغييرات على النحو التالي قائلاً: "أود أن أكون قادراً على قضاء المزيد من الوقت مع أطفالي في المنزل، دون أن أكون مضطراً للتضحية بأدائي في العمل". أدّت هذه التعديلات إلى خفض الاستنزاف الشهري بنسبة 80%.
لدى الشركات العديد من الخيارات المتاحة لها، بما في ذلك السماح للعاملين في مجال التكنولوجيا باعتماد ورديات يومية مرنة (مثل الأيام المقسمة أو ساعات العمل المرنة). فعلى سبيل المثال، سيتقبّل نصف الموظفين العمل لساعات أطول على مدار عدد أقل من الأيام (الشكل 5). وقد قال أحد المشاركين في الاستطلاع ما يلي: "آمل أن تتاح لي إمكانية العمل لأربعة أيام في الأسبوع مدة عشر ساعات يومياً حتى أتمكن من قضاء المزيد من الوقت مع أفراد عائلتي". لكن هذا النهج يتطلب من الشركات تكييف أسلوبها في التوظيف والتعيين لضمان وجود مستويات كافية من التغطية.
نظراً إلى أن تجربة الموظفين أمر شخصي في الأساس، فإن المؤسسات تحتاج إلى أن تصبح أبرع في الإصغاء إلى الموظفين للتأكد من أنها تعطي أولوياتهم الأهمية المطلوبة. وإذا ما تمكنت مراكز القدرات العالمية من اكتساب فهم أفضل للأشياء التي يقدّرها موظفوها وإعادة تصور كل عنصر من عناصر العمل -من المناصب والأدوار إلى المكتب إلى جدول الدوام- بحلّة جديدة فإنها ستتمكن من ترسيخ موقعها بوصفها الشركات المفضلة في أوساط العمّال لسنوات عديدة مقبلة.