إعادة صقل المهارات في عصر الذكاء الاصطناعي

15 دقيقة
صقل المهارات

في عام 2019 قدّمت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أحد التوقعات الجريئة التي تفيد بأن التكنولوجيا الجديدة لأتمتة المهام قد تقضي على 14% من الوظائف في العالم وتؤدي إلى تغيير جذري في 32% منها خلال فترة تتراوح بين 15 و20 عاماً. أثارت هذه الأرقام بعض القلق لا سيّما أنها شملت أكثر من مليار شخص على مستوى العالم مع أنها لم تأخذ بعين الاعتبار تقنية تشات جي بي تي والموجة الجديدة من الذكاء الاصطناعي التوليدي التي اجتاحت السوق مؤخراً.

لقد أسهم التقدم التكنولوجي الحالي في تغيير طبيعة الطلب على المهارات بوتيرة متسارعة. فلم يعد بإمكان التكنولوجيا الجديدة التعامل مع عدد متزايد من المهام المتكرّرة واليدوية فحسب، بل أضحى بإمكانها أيضاً أداء أنواع متزايدة من العمل المتطوّر المعتمد على المعرفة مثل البحث والتّرميز البرمجيّ والكتابة، التي كانت تُعتبر في الماضي وظائف آمنة بعيدة عن تداعيات الزعزعة. لقد أصبح متوسط نصف عمر المهارات أقل من 5 سنوات، ولم يعد يتجاوز في بعض المجالات التكنولوجية سنتين ونصف. لن يخسر موظفو المعرفة جميعهم وظائفهم في السنوات القادمة بالطبع، لكن العديد منهم قد يكتشف في أثناء أداء المهام اليومية أن الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيات الجديدة الأخرى غيّرت طبيعة عمله إلى درجة أنه أضحى في الواقع يعمل في مجالات جديدة تماماً.

للتعامل مع واقع زعزعة المهارات هذا، بدأ العديد من المؤسسات الاستثمار بكثافة في تحسين مهارات قوة العمل. تشير إحدى الدراسات الحديثة التي أجرتها مجموعة بوسطن كونسلتينغ (BCG) إلى أن هذه النوعية من الاستثمارات تمثل نحو 1.5% من الميزانيات الإجمالية لتلك المؤسسات. ومع ذلك فإن تحسين المهارات لن يكون وحده كافياً. إذا صحّت تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية فقد يتعيّن على ملايين الموظفين في العقود القادمة إعادة صقل مهاراتهم بالكامل (Reskilling)، وهو ما يمثّل تحدياً مجتمعياً أساسياً ومعقداً جداً لا يتطلب منهم اكتساب مهارات جديدة فقط بل استخدامها أيضاً لتغيير وظائفهم.

للشركات دور حاسم في التغلّب على هذا التحدي ومن مصلحتها أن تشرع فوراً وبجدية في التصدّي له. قلّة من الشركات التي تبنّت تحدّي صقل المهارات نجحت فيه بفعّالية، بل إن جهودها كانت في كثير من الأحيان دون المستوى المطلوب وذات تأثير محدود، وهذا ما يقودنا إلى السؤال الآتي: بعد أن اتضحت اليوم الحاجة إلى ثورة لإعادة صقل المهارات، ما الذي يتعيّن على الشركات فعله لتحقيق ذلك؟

درسنا هذا السؤال بتمعّن في إطار عملنا بمختبر إعادة صقل المهارات الرقمية في كلية هارفارد للأعمال ومعهد هندرسون التّابع لمجموعة بوسطن الاستشارية، وأجرينا في سياق هذا الجهد مقابلات مع قادةِ نحو 40 مؤسسة على مستوى العالم تستثمر في برامج إعادة صقل المهارات على نطاق واسع. ناقشنا خلال هذه المقابلات التحديات المشتركة وسمعنا قصصاً عن نجاحات مبكرة واكتشفنا أن العديد من الشركات يفكر بأساليب جديدة ومهمّة في دواعي إعادة صقل المهارات والوقت والكيفية المناسبين لتنفيذه. واتّضح لنا من خلال تجميع خلاصات ما اكتشفناه أن ثمة 5 تحولات في النموذج الفكري لإعادة صقل المهارات، يتعيّن على الشركات فهمها وتبنّيها إذا أرادت النجاح في التكيّف الديناميكي مع عصر التطور السريع للأتمتة والذكاء الاصطناعي.

سنستكشف هذه التحولات في هذا المقال وسنوضّح كيفية تنفيذها في بعض الشركات. وسنستعرض أيضاً التّحديات غير المتوقعة التي واجهتها هذه الشركات والنجاحات الواعدة التي حقّقتها.

1. إعادة صقل المهارات ضرورة استراتيجية

عندما يصبح العديد من الوظائف عرضة للتهديد خلال فترات الزعزعة تلجأ الشركات في معظم الحالات إلى إعادة صقل مهارات الموظفين لتخفيف صدمة التسريح من العمل وتبديد الشعور بالذنب تجاه المسؤولية الاجتماعية وتقديم تفسير إيجابي لما يحدث في إطار حملات العلاقات العامة. لكن غالبية الشركات التي تواصلنا معها تجاوزت ذلك النهج الظرفي المحدود وأضحت اليوم تعترف بإعادة صقل المهارات باعتباره ضرورة استراتيجية. يعكس هذا التحول تغيّرات عميقة في سوق العمل، الذي يواجه قيوداً متنامية تتمثّل في شيخوخة الفئات العاملة وظهور مهن جديدة وتزايد حاجة الموظفين إلى تطوير المهارات الدقيقة التي تحتاج إليها الشركات. في سياقٍ كهذا تصبح المبادرات الفعّالة لإعادة صقل المهارات ضرورية لأنها تسمح للشركات ببناء ميزة تنافسية بسرعة من خلال تطوير المواهب غير المتاحة بسهولة في السوق وسدّ الفجوات القائمة في المهارات الضرورية.

لقد أصبح متوسط نصف عمر المهارات أقل من 5 سنوات، ولم يعد يتجاوز في بعض المجالات التكنولوجية سنتين ونصف. ولن يكون تحسين المهارات  (Upskilling) وحده كافياً لملايين الموظفين.

الوضع الحالي

أطلق بعض الشركات مؤخراً مبادرات ناجحة في مجال إعادة صقل المهارات. واتّضحت لنا في هذه المبادرات 5 تحولات في النموذج الفكري لإعادة صقل المهارات يتعين على شركات أخرى تبنّيها إذا أرادت التكيف مع عصر الأتمتة والذكاء الاصطناعي.

التحدّي

للتعامل مع واقع زعزعة الوظائف بدأ العديد من المؤسسات الاستثمار بكثافة في تحسين مهارات قوة العمل. وقد يتعيّن على ملايين الموظفين في العقود القادمة إعادة صقل مهاراتهم بالكامل وهو ما يمثّل تحدّياً مجتمعياً معقداً جداً.

النظرة المستقبلية

لم يعد بإمكان التكنولوجيا الجديدة التعامل مع عدد متزايد من المهام المتكرّرة واليدوية فقط، بل أضحى بإمكانها أيضاً أداء أنواع متزايدة من العمل المتطور المعتمد على المعرفة مثل البحث والتّرميز البرمجيّ والكتابة، التي كانت تُعتبر في الماضي وظائف آمنة بعيدة عن تداعيات الزعزعة.

لتحقيق أهدافها الاستراتيجية قبل منافسيها والتفوّق عليهم، اعتمدت شركات كثيرة في السنوات الأخيرة هذا النهج. على سبيل المثال أعادت شركة إنفوسيس (Infosys) صقل مهارات أكثر من 2,000 خبير أمن سيبراني يتمتعون بكفاءات ومستويات قدرة مختلفة. كما تسعى شركة فودافون إلى الاستفادة من المواهب الداخلية لسد 40% من احتياجاتها من مطوّري البرمجيات. وساعدت شركة أمازون آلاف الموظفين الذين كانوا يمتلكون في البداية خبرة قليلة في مجال تعلم الآلة على أن يصبحوا خبراء في هذا المجال بفضل جامعتها المختصّة فيه.

يَعتبر بعض الشركات اليوم مسألة إعادة صقل المهارات جزءاً أساسياً من عرض القيمة المقدّم للموظفين وأداة استراتيجية لتحقيق التوازن بين قوة العمل المعروضة والطلب عليها. تحرص تلك الشركات على تشجيع موظفيها على إعادة صقل مهاراتهم وفقاً للأدوار المناسبة لهم. تمتلك شركات مثل ماهيندرا آند ماهيندرا (Mahindra & Mahindra) وَوايبرو (Wipro) وإريكسون السياسات والأدوات ومنصّات تكنولوجيا المعلومات اللازمة لتعزيز موارد إعادة صقل المهارات والوظائف المتاحة، على غرار شركة ماكدونالدز التي أضحى بإمكان موظَّفي مطاعمها استخدام تطبيق يُسمّى "معابر الفرص" (Archways to Opportunity) لمواءمة المهارات المكتسبة في العمل مع المسارات المهنية داخل الشركة أو في قطاعات أخرى.

نشير أخيراً إلى أن بعض الشركات يستخدم إعادة صقل المهارات للاستفادة من مجموعاتِ مواهب أوسع وجذب المرشحين الذين قد لا يُنظر إليهم بعين الاعتبار في الوظائف الشاغرة. في هذا السياق يدير بنك آي سي آي سي آي (ICICI Bank)،

الذي يوجد مقره في مومباي ويوظّف أكثر من 130,000 شخص، برنامجاً مكثفاً لإعادة صقل المهارات في إطارٍ يشبه الأكاديمية ويُعِدّ الخرّيجين أصحاب الخلفيات المتنوعة ليصبحوا مدراء الخطوط الأمامية. يعيد البرنامج صقل مهارات ما بين 2,500 و4,000 موظف سنوياً. واستخدمت شركة سي في إس (CVS) نهجاً مشابهاً له خلال جائحة كوفيد-19 لاختيار الموظّفين وتدريبهم وإعدادهم (بعضهم من موظّفي قطاع الضيافة الذين فُصلوا من وظائفهم) لتشكيل القدرة الكافية لخدمات توفير اللقاحات والاختبارات المهمة التي تجريها.

2. إعادة صقل المهارات مسؤولية القادة والمدراء جميعاً

من المعلوم أكاديمياً أن إعادة صقل المهارات جزء من وظيفة التعلّم المؤسّسي الشاملة. في هذه الحالة غالباً ما تكون مسؤولية تصميم برنامج إعادة صقل المهارات وتنفيذه محصورة في إدارة الموارد البشرية ويُقاس فشلها أو نجاحها في نطاق محدود جداً بالاعتماد على عدد الدورات التدريبية المقدّمة وتكلفة التدريب لكلّ متعلم وغير ذلك من مقاييس التدريب المشابهة لها. وفقاً لتقرير حديث أصدرته مجموعة بوسطن كونسلتينغ، فإن نسبة 24% فقط من الشركات التي شملها استقصاء أجرته المؤسسة تربط ربطاً واضحاً بين استراتيجية الشركة وجهود إعادة صقل مهارات الموظفين. تحتاج استثمارات إعادة صقل المهارات إلى التزام حقيقي من قادة قطاعات الموارد البشرية بالطبع، لكنْ إذا لم يفهم مسؤولو المؤسسات الآخرون وموظّفوها الأهمية الاستراتيجية لتلك الاستثمارات، فمن الصعب جداً توفير الجهد الدؤوب والموزع الذي تتطلبه تلك المبادرات لتحقيق النجاح.

تحظى مبادرات إعادة صقل المهارات في معظم المؤسسات التي أجرينا مقابلات مع مسؤوليها بدعم كبار القادة لا سيّما الرؤساء التنفيذيين والرؤساء التنفيذيين للعمليات والتشغيل. فهم يعملون بجدّ ليوضّحوا لبقية الموظفين الصلة بين برامج إعادة صقل المهارات واستراتيجية الشركة، ويحرصون على أن تفهم فرق القيادة والإدارة مسؤولياتها المشتركة في تنفيذ هذه البرامج. على سبيل المثال طوّرت شركة إريكسون خطة تستغرق عدة سنوات خصّصتها لتحسين المهارات وإعادة صقلها في إطار التحوّل الرقمي المستمر للشركة. تشمل جهود تطبيق هذه الخطّة التحديد المنهجي للمهارات الأساسية ذات الصلة بالاستراتيجية والمتوافقة مع مجموعة متنوعة من برامج مسرعات الأعمال ورحلات صقل المهارات وأهداف تحويلها، التي خصّصت الشركة معظمها لتحويل خبراء الاتصالات إلى خبراء في الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات.

تَعتبر الشركة هذا المشروع ذا أولوية واستثمار عاليين إذ جعلته جزءاً من الأهداف والنتائج الرئيسة التي يستعرضها المدراء كل ربع سنة. ونجحت إريكسون في غضون 3 سنوات فقط في تحسين ورفع مهارات أكثر من 15,000 موظف في مجاليّ الذكاء الاصطناعي والأتمتة.

وعلى غرار إريسكون جعل الفريق التنفيذي لشركة سي في إس (CVS) التدريب وإعادة صقل المهارات جزءاً أساسياً من استراتيجيات أعمال الشركة، إذ أصبح كلّ قائد على حدة مسؤولاً الآن عن تصميم خطط إعادة صقل مهارات قوة العمل وتقديمها لمساعدة الشركة على تحقيق أهدافها مع احتساب القدرة على إنجاز هذه الخطط في تقييم أداء هؤلاء القادة. والتزمت أمازون أيضاً بإعادة صقل مهارات موظّفيها باعتباره هدفاً استراتيجياً أساسياً وأصبحت حريصة على الإشارة إليه في بيان القيادة الموجّه للمدراء. وأسهم ظهور هذا الالتزام في تعزيز قدرة أمازون على توسيع نطاق برامج إعادة صقل المهارات.

3. إعادة صقل المهارات مبادرة لإدارة التغيير

إذا أرادت الشركات تصميم برامج طموحة لإعادة صقل المهارات وتنفيذها، فعليها فعل ما هو أكثر بكثير من تدريب الموظفين، إذ يجب عليها ابتكار بيئة مؤسسية مواتية للنجاح، ويتطلب ذلك التأكد من ترسيخ العقلية والسلوكيات الصحيحة بين الموظفين والمدراء على حد سواء. ومن هذا المنظور، فإن إعادة صقل المهارات أشبه بمبادرة لإدارة التغيير، لأنه يتطلب التركيز على العديد من المهام المختلفة في آن معاً،

وسنتناول فيما يلي بعضاً من أهمها. فهم العرض والطلب. لإنشاء برنامج إعادة صقل مهارات ناجح، تحتاج الشركات إلى فهم متطور للعرض والطلب: يُقصد بالعرض المهارات المتاحة داخل الشركة وخارجها؛ أما الطلب فيعني المهارات التي تحتاج إليها الشركة للتغلب على المنافسة. إن تصنيف المهارات هو طريقة فعالة لتطوير هذا الفهم، وهو عبارة عن وصف مفصل للقدرات اللازمة لكل وظيفة في الشركة. اعتادت الشركات بذل الكثير من الجهد لإنشاء مثل هذه التصنيفات من الصفر، لكن شركات رائدة عديدة تعتمد اليوم على مزودين خارجيين لإنجاز الجزء الأكبر من هذا العمل. مثلاً، تبنّى بنك آتش إس بي سي (HSBC) التصنيف الذي نشره المنتدى الاقتصادي العالمي وأجرى تعديلاً طفيفاً عليه لإضافة مهارات تخصُّ جوانب من عمله. وعلى نحو مماثل اعتادت شركة إس أيه بي (SAP) الاحتفاظ بتصنيف داخلي يضم 7,000 مهارة، ثم بدأت حديثاً العمل مع مؤسسة لايت كاست (Lightcast)، التي تحتفظ بقاعدة بيانات للمهارات يجري تحديثها باستمرار. لكن إنشاء تصنيف للمهارات هو الخطوة الأولى فقط. بعد ذلك تأتي المهمة الصعبة المتمثلة في تحديد المهارات الملائمة للوظائف، وهي مسألة قد يختلف حولها مدراء الأقسام المتنوعة. غالباً ما يكون مثل هذا الخلاف مؤشراً على عدم توافق أعمق، وعلى الشركات حل هذه المشكلة قبل الشروع في أي مبادرة كبرى لإعادة صقل المهارات.

ينبغي للقادة أيضاً تحديد المهارات التي سيحتاجون إليها مستقبلاً، وهي عملية ديناميكية مهمة في إعداد برامج استراتيجية لإعادة صقل المهارات، ولإتمامها على أحسن وجه عليهم أن يركزوا على اكتشاف المهارات التي تتطلبها الاستراتيجية الحالية من خلال تطوير منهجية استراتيجية دقيقة لتخطيط القوى العاملة. أنجزت شركة التأمين الأوروبية أليانز (Allianz) عملاً لافتاً في هذا الجانب، إذ تترجم باستمرار نمو الشركات المتوقع إلى طلب على المواهب، وتركز في ذلك على عدد الأفراد المطلوبين في مختلف الوظائف والمهارات التي تتطلبها. جرى تحديث النموذج بوصفه جزءاً من عملية التخطيط السنوي، وهو يتضمن تخطيط السيناريو الاقتصادي ويأخذ في الاعتبار التأثيرات المحتملة للرقمنة في القوى العاملة.

التوظيف والتقييم. جرت العادة على تعيين المرشحين لفرص التدريب أو الأدوار الداخلية على أساس شهاداتهم أو خبراتهم العملية ذات الصلة، ولكن من الواضح أن هذا لا ينطبق على العاملين الذين أعادوا صقل مهاراتهم. ويمكن لتصنيف المهارات المُعد بعناية أن يساعد في هذه الناحية، إذ يسمح للمؤسسات بالنظر في سياسات التسجيل بناءً على المهارات القريبة من المهارات المطلوبة، الأمر الذي يسهّل الانتقال من مجموعة مهارات إلى أخرى. أنشأت شركة نوفارتس (Novartis) سوقاً داخلية للمواهب مدعومة بالذكاء الاصطناعي، تقترح أدواراً ومشروعات ذات صلة بمهارات الموظفين وأهدافهم بعد أن تتنبأ بها وتطابقها. وفي بحثنا، وجدنا أيضاً أنه إذا أريد لبرامج إعادة صقل المهارات أن تنجح، ينبغي للشركات تطوير مجموعة واضحة من معايير الالتحاق للموظفين، إذ لا يتمتعون جميعاً بتوليفة الحوافز والسمات الشخصية المطلوبة لإعادة صقل المهارات.

بناء عقلية مدراء الإدارة الوسطى. يقاوم مدراء الإدارة الوسطى غالباً فكرة إعادة صقل المهارات لسببين رئيسيين: الأول هو خوفهم من أن مرؤوسيهم لن يواصلوا أداء مسؤولياتهم العادية خلال إعادة صقل مهاراتهم، والثاني هو أنه بعد إعادة صقل مهاراتهم سينتقلون إلى أقسام أخرى في المؤسسة. وفي كلتا الحالتين يمكن أن يؤدي هذا إلى "تكديس المواهب"، إذ يحاول المدراء الاحتفاظ بمرؤوسيهم المفضلين من خلال حرمانهم من المشاركة في برامج إعادة صقل المهارات. عالج العديد من الشركات التي تحدثنا إليها هذه المشكلة من خلال جعل تنمية المواهب مسؤولية إدارية صريحة. تقيّم شركة ويبرو المدراء وفقاً لحجم مشاركة فِرقهم في عروض التدريب، وترقّي أمازون القادة على أساس تقييم الأداء الذي يُطلب فيه من القائد أن يوضح كيف طوّر فريقه. وقد يقاوم مدراء الإدارة الوسطى أيضاً فكرة توظيف موظفين أعادوا صقل مهاراتهم، ظناً منهم أنهم ليسوا مرغوبين مثل العاملين ذوي المهارات التقليدية. ويمكن معالجة هذه المشكلة من خلال إشراك المدراء في تصميم برامج إعادة صقل المهارات وتنفيذها ومن خلال توفير التدريب على الإحساس بالآخرين وإدراك التحيزات اللاواعية. وبغض النظر عن نوع المقاومة، فإن دور كبار القادة في دعم إعادة اكتساب المهارات أمر حيوي للتغلب عليها.

بناء المهارات مع الحفاظ على سير العمل. قد يكون إخراج الموظفين من وظائفهم اليومية للمشاركة في التدريب أمراً مكلفاً وصعباً من الناحية اللوجستية. كما أن الراشدين لا يعجبهم التعلم ضمن ما يشبه الفصول الدراسية أو لا يتعلمون بفعالية بهذه الطريقة. قال 209 آلاف شخص من المشاركين في استقصاء أجرته مجموعة بوسطن كونسلتينغ في عام 2021، إنهم يفضلون التعلم ضمن العمل. ونتيجة لذلك، فإن النهج الأفضل لإعادة صقل مهارات الموظفين هو تدريبهم بأكبر قدر ممكن من خلال مهام الملازمة (Shadowing)، والتدريب المهني الداخلي، وفترات التجربة. مثلاً، يتكون برنامج إعادة اكتساب المهارات في بنك آي سي آي سي آي (ICICI) من إقامة مهنية مدتها 4 أشهر، يشارك خلالها الموظفون في دورات تدريبية على أسلوب محاكاة للدور الإداري الذي يأملون الحصولَ عليه، ويُنشرون مدة 8 أشهر في المجال المحدد الذي يتضمن تدريباً منظماً في أحد فروع البنك، إذ يلازمون أحد المدراء الحاليين على نحو وثيق.

مطابقة الموظفين مع وظائف جديدة ودمجهم فيها عقب إعادة صقل المهارات. ينبغي مطابقة الموظفين مع وظائف جديدة. تُظهر بيانات المقابلات التي أجريناها أن وصف الأدوار المقبلة بوضوح مسبّقاً، يؤدي إلى زيادة اهتمام الموظفين بإعادة صقل المهارات لأن المسارات المهنية الجديدة تتضح لهم، وتزداد فعالية عملية إعادة صقل المهارات لأنها ترتبط أكثر بمنصب محدد. بمجرد استلام وظائفهم الجديدة، يحتاج الموظفون إلى أنواع مختلفة من الدعم للاندماج بنجاح، مثلاً مساعدتهم على فهم معايير العمل الجديد وثقافته، وبناء شبكات العلاقات، وتطوير المهارات الشخصية. ويمثل التدريب الإرشادي والتوجيه أداتين فعالتين في هذا الشأن. وأظهرت أمازون ريادة في هذا المجال: إذ تدير الشركة مجموعة متنوعة من برامج التوجيه للموظفين الذين أعادوا صقل مهاراتهم، من بينها "نظام الرفيق"، وهو جزء من برنامجها "لتنمية المواهب" (Grow Our Own Talent)، الذي يربط بين المشاركين السابقين والحاليين في البرنامج. توفر الشركة أيضاً تدريباً مهنياً للموظفين الذين يخوضون انتقالات صعبة جداً، مثلاً من عامل مستودع إلى مطور برامج.

4. الموظفون يقبلون على إعادة صقل المهارات عندما يفهمون دواعيه

ذكر العديد من مسؤولي الشركات الذين تحدثنا إليهم أن أحد أكبر التحدّيات كان إقناع الموظفين بالانخراط في برامج إعادة صقل المهارات. هذا مفهومٌ نظراً إلى أن إعادة صقل المهارات يتطلب الكثير من الجهد وقد يشكل تغييراً جوهرياً في حياة الموظف، كما أن نتيجته ليست مضمونة. وتشير تقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن نسبة ضئيلة جداً من الموظفين تشارك عادة في برامج التدريب المعتادة، وغالباً ما يكون هؤلاء المشاركون الأقل حاجة إلى هذه البرامج.

لكن قد يكون الموظفون مستعدّين للانخراط في برامج إعادة صقل المهارات أكثر ممّا تشير إليه البيانات السابقة. تُظهر بيانات مجموعة بوسطن كونسلتينغ على سبيل المثال أن 68% من الموظفين لديهم وعي بواقع الزعزعة المرتقبة في مجالاتهم وهم مستعدون لإعادة صقل مهاراتهم للحفاظ على قدراتهم التنافسية في وظائفهم. مفتاح النجاح في هذا المجال وفقاً لما تشير إليه المقابلات التي أجريناها هو معاملة الموظفين باحترام وتوضيح فوائد مشاركتهم في مبادرات إعادة صقل المهارات. هذا ما أوضحه لنا أحد الأشخاص الذين أجرينا معهم المقابلات قائلاً: "السر في توسيع نطاق برامج إعادة صقل المهارات هو تصميم برنامج يُعجب الموظفين فعلاً".

كيف يمكن أن تنجح المؤسسات في ذلك؟ لدينا اقتراحات عدّة في هذا الإطار.

عاملْ موظفيك باعتبارهم شركاء. فبرامج إعادة صقل المهارات تكون مصحوبة في الغالب بزعزعة مؤسّسية وموجة فقدان وظائف، أو تغيير وظائف على الأقل، وعادة ما يتجنّب القادة التحدّث بصراحة عن الدواعي المنطقية لهذه البرامج والفرص التي تتيحها، علماً أن الموظفين قد ينخرطون فيها على الأرجح إذا فهموا دواعيها وشاركوا في إعدادها. بناءً على وعيها بهذه المسألة حرصت شركات عديدة على نهج الصدق والوضوح فيما يتعلّق بشرح دواعي برامج إعادة صقل المهارات وضمان مشاركة الموظفين المبكّرة فيها. على سبيل المثال أخبرت شركة ضخمة لصناعة السيارات مهندسيها المختصّين في محرّكات الديزل أن حاجتها إليهم ستتراجع بسبب التغييرات التي يشهدها القطاع وقدّمت لهم برنامجاً لإعادة صقل المهارات لضمان حصولهم على وظائف جديدة وتعزيز أمانهم الوظيفي خلال السنوات القادمة. وأكّد لنا مسؤولو الشركات أيضاً أهمية الاتفاق مسبّقاً على تصميم البرامج وتنفيذها مع الجمعيات والنقابات لضمان دعمها.

صمِّم برامج إعادة صقل المهارات وفقاً لوجهة نظر الموظف لأن هذه البرامج تتطلّب تخصيص وقت مهمّ من طرف المشاركين. لذا من المهم أن تحاول تقليل المخاطر والتكاليف والجهد المبذول وتقديم نتائج مضمونة (نسبياً). على سبيل المثال، تسمح أمازون لموظفيها من خلال برنامج اختيار المسار المهني بمتابعة مراحل الدراسة كلّها بدءاً بدرجات البكالوريوس وصولاً إلى الشهادات التدريبية مع تغطية تكاليفها مقدماً. وثبت أن هذا النهج عامل رئيسي في توسيع نطاق البرنامج، الذي شهد بالفعل مشاركة أكثر من 130,000 موظّف. أما شركة سي في إس فتستخدم نموذج "التّدريب الميداني" الفعّال مع الموظفين الجدد.

خصّصْ الوقت والاهتمام الكافيين للمهمة لأن إعادة صقل المهارات يعني أيضاً تغيير الوظائف وعادة ما يتطلب تعلّماً مكثفاً لا يمكن الالتزام به إلا إذا كان لدى الموظفين الوقت والحيّز الذهني اللازمين لتحقيق النجاح. لهذا الغرض تخصّص فودافون بضعة أيام 4 مرات في السنة يخصص الموظفون وقتهم الكامل خلالها للتعلّم وتطوير الذات. وذهبت شركة بوش (Bosch) أبعد من ذلك لمساعدة المهندسين التقليديين على نيل الدرجات العلمية والتدريب الضروري في المجالات الناشئة، إذ يغطي برنامج "مهمّة للتطوّر" الذي أطلقته تكاليف الدراسة ويخصّص الوقت الكافي للتعلم بمعدّل يومين في الأسبوع على مدار عام كامل. وعلاوة على ذلك يمنح هذا البرنامج للموظفين إجازات للاستعداد للامتحانات.

من الصعب طبعاً تخصيص الوقت والحيّز الزمني الكافيين للموظفين لبناء مهاراتهم في قطاعات تعمل بنظام الساعات أو الورديات. واجهت شركة إيبردرولا (Iberdrola) المختصّة في قطاع الطاقة المتجددة هذا التحدي خلال فترة تحوّلها الرقمي. وأدركت خلال تبنّيها تكنولوجيات جديدة أن عليها إعادة صقل مهارات 3,300 موظف في مختلف الوظائف بنظام الساعات. نجح قادتها في إنجاز هذه المهمة بفضل العمل عن قرب مع مدراء الخطوط الأمامية لضمان عدم تعطيل العمليات في أثناء غياب الموظفين خلال أوقات التدريب. واعتبرت الشركة ساعات التدريب كلّها ساعات عمل ودفعت رواتب الموظفين وفقاً لذلك.

5. إعادة صقل المهارات يتطلب تضافر الجهود

ترى الشركات عملية إعادة صقل المهارات غالباً تحدياً على مستوى المؤسسة، ظناً منها أنه يتعين عليها تنفيذ هذه المهمة بنفسها.

لكن العديد من الشركات التي أجرينا مقابلات معها أدركت أن إعادة صقل المهارات يجري في بيئة حيث يكون لعدة جهات فاعلة أدوار تؤديها. وبوسع الحكومات أن تحفز الاستثمارات في إعادة صقل المهارات باستخدام الأموال، والسياسات، والبرامج العامة، ويمكن لقطاعات الأعمال التعاون مع الأوساط الأكاديمية لتطوير تقنيات جديدة لبناء المهارات، كما يمكن للمؤسسات غير الحكومية أن تؤدي دوراً في ربط احتياجات المواهب في الشركات بمجموعات المواهب المحرومة والمهمشة. قد تكون تحالفات الشركات فعالة أكثر من المؤسسات المنفردة في مواجهة تحدي إعادة صقل المهارات.

عند تصميم برامج إعادة صقل المهارات لعصر الذكاء الاصطناعي والأتمتة السريع التطور، فإن على الشركات تسخير إمكانات هذه المنظومة الأوسع. وقد حددنا عدة طرق تمكّنها من فعل ذلك.

عقد الشراكات عبر القطاع. بدلاً من التنافس على مجموعة محدودة من المواهب، يمكن للشركات أن تتعاون في جهود تدريبية مشتركة، الأمر الذي قد يخفف جداً من بعض التحديات المذكورة أعلاه. على سبيل المثال، من شأن تصنيف المهارات على مستوى القطاع أن يوفر بنية تحتية مفيدة، وتساعد الشركات في بعض الحالات على تجميع المعرفة والموارد اللازمة للاستثمار في أنواع معينة من القدرات، مثل مهارات الذكاء الاصطناعي المتطورة، التي تعتبر جديدة جداً لدرجة أن المؤسسات قد لا تتمتع بالمعرفة أو القدرة على تطوير حلول في هذا الخصوص بمفردها. ويمكن للتحالفات ضمن القطاع أيضاً طمأنة المشاركين بأن استثمارهم في التعلم قد يفتح لهم فرصاً مستقبلية أوسع.

من الأمثلة الواضحة على ذلك برنامج الانغماس في تكنولوجيا التمويل (Technology in Finance Immersion Programme)، الذي يقدمه معهد الخدمات المصرفية والمالية في سنغافورة، وهو جمعية غير ربحية في القطاع المالي. ويهدف البرنامج إلى إمداد قطاع الخدمات المالية بالقدرات المطلوبة في مجالات التكنولوجيا الرئيسية، بمشاركة جميع البنوك الكبرى وشركات التأمين ومدراء الأصول في البلاد، لتلبية احتياجات المواهب في قطاع الخدمات المالية. وعلى نحو مماثل، أنشأت مجموعة متنوعة من أصحاب المصالح داخل الاتحاد الأوروبي "تحالف مهارات قطاع السيارات" (Automotive Skills Alliance)، المخصص لإعادة صقل مهارات العاملين في قطاع السيارات وتحسينها.

الشراكة مع المؤسسات غير الربحية للوصول إلى المواهب المتنوعة. يعمل العديد من مؤسسات إعادة صقل المهارات غير الربحية مع مجموعات سكانية تفتقر إلى التمثيل الكافي في القوى العاملة. ومن خلال التعاون مع هذه المؤسسات، يمكن للشركات توسيع نطاق الوصول إلى المواهب وفرص العمل على نحو كبير، بطرق تعود بالنفع على كلا الطرفين، وغالباً ما تكون منخفضة التكلفة. يتضمن بعض جهود إعادة صقل المهارات المستمرة التي وجدناها في بحثنا، شراكات مؤسسية مع كيانات مبتكِرة مثل برنامج ون تن (OneTen) الذي يساعد العاملين ذوي البشرة الداكنة في الولايات المتحدة، ويير أب (Year Up) الذي يساعد الشباب المستضعفين في الولايات المتحدة، وجوب ليندج (Joblinge) الذي يساعد الشباب المحرومين في ألمانيا، وبرنامج رايز 2.0، الذي أطلقته مجموعة بوسطن كونسلتينغ لمساعدة العاملين في سنغافورة ممن لا يمتلكون خلفية رقمية على الانتقال إلى وظائف رقمية. يبرز برنامج يير أب من بين هذه المبادرات، ذلك أنه يستخدم التقنيات الإحصائية بدقة لدراسة تأثير التدريب في المشاركين. منذ عام 2011، وظّف البرنامج أكثر من 40 ألف شاب في أدوار مؤسسية ودورات تدريب داخلي لم يكن بوسعهم الوصول إليها دون دعم إعادة صقل المهارات وشبكات العلاقات التي فرها لهم. ويتمتع البرنامج بمعدل توظيف يصل إلى 80% في أكثر من 250 شركة مشاركة.

الشراكة مع الكليات المحلية ومقدمي التدريب. يمكن للشركات أن تكسب الكثير من خلال التعاون مع المؤسسات التعليمية في جهودها الرامية إلى إعادة صقل المهارات. ومن أمثلة هذه الشراكات معاهد التكنولوجيا التي تمولها الحكومة البريطانية، والتي تجمع بين الكليات وكبريات الشركات لتوفير التدريب الفني العملي للعاملين الذين ليست لديهم خلفيات تكنولوجية، بطرق تسمح للشركات بالتفاعل بسرعة مع التكنولوجيات الجديدة وتلبية احتياجات المهارات السريعة التطور. أما التعاون بين شركة بي إم دبليو ووكالة التوظيف الفيدرالية الألمانية واتحاد الغرف الصناعية والتجارية الألمانية، فيدعم الانتقال إلى السيارات الكهربائية من خلال برامج إعادة صقل المهارات التي تستهدف الكهربائيين الصناعيين.

يفهم العديد من الشركات بديهياً الحاجة إلى تبني هذه التحولات النوعية في إعادة صقل المهارات، ومن المثير للإعجاب أن بعضها قد تعهّد بالفعل بالتزامات هائلة لتحقيق ذلك. لكن جهودها يعوقها قيدان مهمان: الافتقار إلى الدقة عندما يتعلق الأمر بقياس الحلول الناجحة وتقييمها، والافتقار إلى المعلومات حول كيفية تعميم ميزات برامج إعادة صقل المهارات التي أثبتت نجاحها وتعميمها. للتكيف في السنوات المقبلة مع الوتيرة المتسارعة للتغير التكنولوجي، سيتعين على الشركات تطوير طرق للتعلم بطريقة منهجية وصارمة وتجريبية وطويلة الأجل من خلال الاستثمارات العديدة التي تُضخ اليوم لإعادة صقل المهارات. وعندها فقط سوف تنطلق ثورة إعادة صقل المهارات الحقيقية.

تتطلب برامج إعادة صقل المهارات من المشاركين استثمار قدر هائل من الوقت، لذلك من المهم محاولة تقليل المخاطر والتكلفة والجهد المبذول.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي