بماذا تختلف آلية عمل المنصات عن الأعمال التقليدية؟

5 دقائق
المنصات والأعمال التقليدية

إن أحد أقدم نماذج العمل في العالم هو استخدام التكنولوجيا الجديدة وسيلة للقضاء على الأعمال التقليدية، ودفع عجلة الابتكار، إضافة إلى خلق مصادر هائلة وجديدة للقيمة. وهنا يأتي دور الوسطاء، وهم موضوع كتابنا الجديد حول المنصات والأعمال التقليدية، الذين يعملون كحلقة وصل تتيح فرصة الالتقاء وإنجاز الأعمال لأي مجموعتين أو أكثر من الزبائن، مثل السائقين والركاب في شركة "أوبر". حيث يعملون على إدارة المنصات التي تسهل التواصل الفعَّال وتبادل القيمة بين المشاركين.

المنصات مقابل الأعمال التقليدية

على النقيض من الشركات التقليدية، فهم لا يشترون المدخلات، ولا يصنعون الأشياء، ولا يبيعونها حتى. وبدلاً من ذلك، يعملون على تجنيد المشاركين، ثم يبيعون كل مجموعة من أولئك المشاركين حق الوصول إلى المجموعات الأخرى. وهنا يلعب "المشاركون" دور "المدخلات" التي يستخدمونها لإنتاج خدمة الوساطة التي يقدمونها.

واليوم، نحن نعيش في ظل اقتصاد الوسطاء. فهو يحتل الجزء الأكبر والأكثر انتشاراً من حياتنا بما يفوق تصور الكثيرين.

وفي الواقع، تحقق ثلاث من الشركات الخمس الأعلى قيمة على مستوى العالم: "آبل"، و"جوجل"، و"مايكروسوفت" الكثير من الأرباح عبر ربط المجموعات المختلفة، كمطوري البرمجيات والمستخدمين، كما في حال شركة "آبل". وهذا ما ينطبق أيضاً على سبع من أعلى الشركات "أحادية القرن" قيمة، وهي تلك الشركات الناشئة التي تتجاوز قيمتها مليار دولار في آخر دورة تمويلية لها، مثل "أوبر"، و"إير بي إن بي" (Airbnb)، و"فليبكارت" (Flipkart). وكذلك الأمر بالنسبة للعديد من الشركات الأخرى التي طرحت أسهمها للاكتتاب العام في العقد الماضي، مثل شركة "فيزا" (Visa)، التي تربط بين حاملي البطاقات والتجار، وشركة "فيسبوك"، التي تربط بين الأصدقاء والمعلنين ومطوري البرمجيات.

ولا يقتصر ذلك على الشركات العملاقة فقط. حيث تدير شركة "ويست فيلد مولز" (Westfield Malls)، مراكز التسوق التي تساعد على ربط تجار التجزئة بالمتسوقين. إضافة إلى ذلك، يجب ذكر جميع وسائل الإعلام المدعومة بالإعلانات التي تخطف أنظارنا بغرض بيعها إلى المسوقين.

في الواقع، إذا فَكرت في الموضوع من وجهة نظر المستهلكين والعاملين، فستجد أنك قد تعاملت مع العديد من الوسطاء خلال يوم واحد، وذلك بدءاً من أنظمة التشغيل على هاتفك، إلى معاملات تبادل الأسهم.

كما تعتبر الشركات التي تمثل اقتصاد الأعمال المستقلة والاقتصاد التشاركي -المفضلة حالياً- من الوسطاء. حيث تربط شركات اقتصاد الأعمال المستقلة العاملين بالمستهلكين الذين يحتاجون إليهم، كالعاملين في مجال الرعاية الصحية المنزلية مع العوائل التي تحتاج إلى مساعدتهم، في حين توفّق شركات الاقتصاد التشاركي بين الإمكانات غير المستغلة، كالسيارات والأشخاص الذين يرغبون في استئجارها.

وهنا يلعب جميع الوسطاء ضمن قواعد مماثلة. ولكن تلك القواعد تختلف عن القواعد المعمول بها في الشركات التقليدية.

إضافة إلى ذلك، يقع على عاتق الوسطاء تجاوز أكبر عقبة قد تواجه هذا النوع من الشركات، والمتمثلة في الاستحواذ على الكتلة الحرجة لمجموعتين أو أكثر من المشاركين الذين سيرفعون من سوية الخدمة، فهؤلاء سيسجلون دخولهم فقط في حال أتيحت لهم إمكانية الوصول إلى مجموعات أخرى من المشاركين.

مثال من شركة "أوبن تيبل"

لقد واجهت شركة "أوبن تيبل" (OpenTable) في بداية انطلاقها، مشكلة عدم تمكنها من جذب العدد اللازم من المطاعم للتعاون معها وذلك لقلة عدد روادها المحتملين، وبالتالي، كانت تواجه مشكلة عدم النجاح في زيادة عدد روادها نظراً لتعاملها مع عدد قليل من المطاعم. ولقد استغرق الحل ما يقرب من ستة أعوام، إضافة إلى إنفاق عشرات الملايين من الدولارات في الاستثمارات، لتتمكن الشركة من كسب العدد الكافي من المطاعم والرواد في مدينتين فقط هما سان فرانسيسكو وشيكاغو. ولكن للأسف، لا تملك غالبية المنصات مثل هؤلاء المستثمرين الصبورين، إضافة إلى أنها قد تنهار ببساطة في أثناء محاولاتها الفاشلة الحصول على تلك الكتلة الحرجة، كمئات التعاملات التجارية بين الشركات البائدة التي انقرضت في أوائل العقد الأول من القرن الحالي.

كما أن العديد من الوسطاء الناجحين ينتهكون أبجديات التسعير التي يتعلمها الطلبة المبتدئون في الاقتصاد. فهم يبيعون خدماتهم لمجموعة واحدة بأقل من تكلفتها، وقد يقدمون خدماتهم بالمجان إلى تلك المجموعة، علاوةً على ذلك، فهم يقدمون المكافآت أيضاً. وفي الحقيقة، إن خدمة الفهرسة التي تقدمها "جوجل" لمواقع الإنترنت لا تقدر بثمن، وفي المقابل، لا يتقاضى عملاق البحث أي رسوم من تلك المواقع. ولكن حتى المنصات المادية غالباً ما تفعل ذلك أيضاً: فمراكز التسوق، على سبيل المثال، لا تفرض رسوماً على المتسوقين فيها، بل إن هذه المراكز تقدم أحياناً العروض الترفيهية المجانية.

علاوةً على ذلك، تملك غالبية شركات الوساطة ميزات غير متوفرة في أي من الشركات التقليدية، وهو نظام الحوكمة التفصيلي للقوانين وتطبيقها إضافة إلى فرض العقوبات، وذلك للحفاظ على التزام المشاركين فيها. ففي عام 2009، جُند خُمس موظفي "فيسبوك" للعمل "رجال أمن" مهمتهم إجراء دوريات في الموقع لضبط حالات الشغب (ونحن نشك بأنه قد تم تخفيض هذه النسبة كثيراً اليوم، ولذلك تفاقمت هذه المشكلة). وعلى صعيد آخر، يوجد سجن "جوجل"، أو على الأقل هذا ما يطلقه عليه سجناؤها، حيث تمضي المواقع الإلكترونية التي تتلاعب بخوارزمية البحث فترة عقوبة. كما تصدر شركة "آبل" أحكاماً بإقصاء التطبيقات التي تنتهك قواعدها أو تلك التي لا تروقها.

وفي الواقع تمد أعمال الوساطة أذرعها لتطال جميع مناحي الاقتصاد. وبذلك تُشَيّد المنصات منبثقةً عن بعضها البعض بشكل تراكمي. فعلى سبيل المثال، تعتبر "أندرويد" (Android) منصة لكل من المستخدمين، ومطوري البرمجيات، وصانعي الهواتف. وفي المقابل، نجد أن منصة "أوبر" لربط السائقين والركاب منبثقة عن نظام "أندرويد" (كما هو الحال مع منصة "آيفون" (iPhone)). والآن تعمل شركة "أوبر" على بناء منصة منبثقة عن منصة "أوبر" الأم، تهدف إلى ربط كل من السائقين والمطاعم والأشخاص الراغبين بطلب الوجبات الخارجية.

نموذج عمل الوسطاء

هنا يجب علينا التذكير بأن نموذج عمل الوسطاء ليس جديداً. فهذا العام ستحتفل "فيزا" بالذكرى الـ 50 لانطلاقها، كما تجاوز عمر سوق الأوراق المالية في لندن 200 عام، إضافة إلى تجاوز عمر "الغراند بازار" (Grand Bazaar) في اسطنبول 500 عام. ولكن الوسطاء اليوم يحققون نمواً متسارعاً، مدعومين بالتطبيقات السحابية والمعالجات الدقيقة واسعة النطاق، والبرمجيات والتقنيات الحديثة الأخرى. فعلى سبيل المثال، لم تكن شركات مثل "أوبر" لتظهر من دون التطوير الواسع النطاق للأجهزة المحمولة، ومنصات برامج الهاتف المحمول، والإنترنت.

وبذلك تجوب هذه المنصات المتسارعة جميع أنحاء العالم، معززةً بالمنصات المتنامية الأخرى، ومُجهِزةً للعمل مع كافة الشركات التقليدية والمنصات قديمة الطراز على حد سواء. فلا توجد شركة في مأمن من الفوضى الخلاقة في خضم هذه الأحداث العاصفة.

ففي كينيا، تعتبر منصة تحويل الأموال عبر الهاتف المحمول "إم-بيزا" (M-PESA) قفزة نوعية للصيرفة التقليدية وبطاقات الدفع. حيث يلجأ إليها نحو 90% من البالغين لتحويل الأموال، كما يستخدمها العديد لتنفيذ عمليات الادخار والاقتراض إضافة إلى خدمات أخرى.

ومن دون سابق إنذار، ظهرت شركة "إير بي إن بي" لتتحدى صناعة الفنادق العالمية عبر 1.5 مليون غرفة فندقية، ما يجعلها أكبر من سلسلة فنادق "ماريوت" (Marriott) العالمية.

وبمجرد أن تراجعت المنصات الرصينة، مثل "مايكروسوفت ويندوز". لمسنا تراجعاً في مبيعات أجهزة الكمبيوتر الشخصي بنسبة 10% في العام الماضي، ما يعكس الانتقال السريع لصالح منصات تطبيقات الأجهزة المحمولة، مثل منصة "آي أو إس" (iOS) من شركة "آبل"، وأنظمة تشغيل "أندرويد" للهواتف المحمولة من "جوجل"، إضافة إلى متاجر التطبيقات.

وسواء كُنتَ مستثمراً أو رائد أعمال أو أحد العاملين في شركة تقليدية أو في منصة راسخة، فستحتاج إلى تحديد موقفك من أقدم نماذج العمل، ومن أحدثها انتشاراً.

وفي نهاية الحديث عن المنصات والأعمال التقليدية، نقف لنعبر عن تفاؤلنا الكبير بأن الوسطاء المنتشرين سيدفعون بأحداث الفوضى الخلاقة الضاربة في جميع المناحي الاقتصادية وسيحققون قيماً اجتماعية عظيمة. ولكن سرعان ما نصحوا على الواقع الذي يشير إلى أن أغلب من سيجربون نموذج العمل هذا سيفشلون فشلاً ذريعاً بعد أن يُجلَدوا بسياط النقد. وسوف تنجح بعض الشركات المقلدة لخدمات الشركات الرائدة في إحداث ثورة ضمن بعض القطاعات، ولكن أغلب هذه الشركات، مثل شركة "شودل" (Shuddle)، لخدمات النقل التشاركي الموجهة للصغار، ستقفل وستضطر إلى وقف أنشطتها وتصبح دون طائل.

لقد تم اقتباس هذه المقالة الرقمية من كتاب "الوسطاء: الاقتصاديات الحديثة للمنصات متعددة الجوانب"

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي